أخبار الشرق - 3 أيلول 2002
فلتهنأ بالاً محكمة أمن الدولة العليا بإنجازها "هذه المهمة القومية الجليلة"، عندما أغلقت ملف سجناء ربيع دمشق العشرة بإصدار أحكامها بالسجن لمدة تتراوح بين عامين وعشرة أعوام، بتهم:
1- تغيير الدستور بالقوة
2- إثارة العصيان المسلح
3- نشر أخبار كاذبة توهن نفسية الأمة
وقد طالت هذه الأحكام المحامي المعارض رياض الترك ابن الثالثة والسبعين، الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، وكان قد أمضى من قبل سبعة عشر عاماً في السجن الانفرادي دون محاكمة. وحكم على الخبير الاقتصادي الدكتور عارف دليلة بعشرسنوات سجن نافذة، وعمره الآن 62 عاماً، ويعاني من أمراض تهدد حياته، فإذا أخطأه الموت في سجنه، فيخرج وعمره 72 عاماً. بينما حُكم على البقية، منهم المهندس فواز تللو بخمس سنوات، والطبيب كمال لبواني بثلاث سنوات، والمدرس المتقاعد حسن سعدون بسنتين، وهو أقل حكم يُحكم به نشطاء لجان إحياء المجتمع المدني في سورية.
وكانت المحاكمات السياسية قد بدأت العام الجاري بمحاكمة النائبين في البرلمان السوري (مجلس الشعب) مأمون الحمصي ورياض سيف، وقد حوكما في محكمة جنائية عادية بالسجن خمس سنوات، مع تجريدهما من الحقوق المدنية والسياسية. وهما من رجال الأعمال السوريين. وكان لرياض سيف منتدى باسمه "منتدى رياض سيف" سمحت به السلطة على غرار منتديات أخرى خلال فترة سُميت بربيع دمشق، بعد تولي الرئيس بشار الأسد مقاليد الحكم في البلاد، وتحدث في خطاب القسم عن احترام الرأي الآخر، كحق يكفله الدستور.
وهؤلاء العشرة من ضحايا ربيع دمشق، عبروا عن رأيهم في هذه المنتديات على مسمع ومرأى من السلطة التي أجازت هذه المساحة للتعبير، دون أن تُرخص هذه المنتديات رسمياً. وتزامنت تلك الفترة عام 2001 مع إقدام الرئيس بشار الأسد على إطلاق سراح أكثر من 700 معتقل سياسي، وإغلاق سجن المزة العسكري، سيئ الصيت والسمعة، الذي شهد آلام وعذابات آلاف السجناء السياسيين، من بينهم أعضاء القيادة السابقة لحزب البعث، رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، والأمين العام المساعد للحزب اللواء صلاح جديد، ووزير الداخلية محمد رباح الطويل، وهؤلاء تُوفوا بعد بضعة أشهر من إطلاق سراحهم باستثناء اللواء جديد الذي توفي داخل السجن. وامتد سجنهم وبقية أعضاء القيادة الخمسة عشر، نحو 24 سنة سجناً دون محاكمة، ودون أن تُعاد الحقوق المدنية والسياسية لمن بقي منهم حياً حتى الآن.
وأغلق الرئيس بشار الأسد أيضاً سجن تدمر الصحراوي الذي شهد مجزرة مروعة ارتكبتها إدارة السجن عام 1980، ذهب ضحيتها أكثر من 800 سجين سياسي، على مختلف المشارب السياسية، لا زال أهلوهم لا يعرفون مصيرهم بين عداد المفقودين البالغ عددهم 15 ألف مفقود، حسب المحامي هيثم المالح رئيس جمعية حقوق الإنسان في سورية غير المرخصة رسمياً، في حديثه لفضائية الجزيرة القطرية، خلال برنامج "بلا حدود".
ما أقدم عليه الرئيس الأسد الابن، فتح كوة أمل لدى المثقفين السوريين بعزم الرئيس الشاب على انفتاح سياسي، يُفضي إلى تحول ديمقراطي تشارك فيه كل القوى الحية في سورية بكل ألوان الطيف السياسي. يُنهي بها مرحلة علّبت المجتمع السوري على مدى ثلاثة عقود تحت مظلة الولاء للحزب الحاكم، الذي أفرد جناحيه على ما سُمي "الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة البعث الحاكم"، والتي ينضوي فيها ستة أحزاب، أكثر ولاء للسلطة من البعثيين أنفسهم. وتحدث الرئيس الأسد الابن عن فتح هذه الجبهة لقوى أخرى وشخصيات وطنية، وسمح لأحزاب الجبهة بفتح مقرات لأحزابها، ونشر صحفها علناً في أكشاك بيع الصحف. كما صدرت صحيفة مستقلة، "الدومري" الساخرة في إطار مرسوم تشريعي أصدره الرئيس بشار الأسد حول حرية المطبوعات والنشر، وقد سمح بإصدار الصحف المستقلة، ضمن لائحة من المحظورات وردت في المرسوم الرئاسي، جعلت منها قناة أخرى للصحف الحكومية.
ورغم هذا الانفتاح المحتشم، فإن الأمل راود السوريين بإصلاحات سياسية، سوف يُقدم عليها الرئيس بشار تدريجياً كما صرح في حديث للقناة الفرنسية الثانية عشية زيارته الرسمية إلى فرنسا العام الماضي.
لكن التراجع الذي حصل بعد أشهر باعتقال عشرات الأشخاص لأسباب سياسية من بينهم نشطاء لجان إحياء لجان المجتمع المدني، وإصدار أحكام قاسية بسبب آرائهم، من محكمة استثنائية نشأت في ظل حالة الطوارئ التي تعيشها سورية منذ استلام البعث السلطة في سورية عام 1963، جعل المحللين السياسيين يرون أن هناك تناقضاً في السياسة السورية. بين تصريحات الرئيس وبين ما تقوم به أجهزة الاستخبارات على أرض الواقع بملاحقة الناس على آرائها.
خدام: لن نسمح بجزأرة سورية
عندما نقرأ محاضرة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، أمام هيئة التدريس الجامعية مساء الأحد 18 شباط عام 2001، نجد تفسيراً لهذا التناقض. فالسيد خدام وضع نفسه مرشداً وواعظاً ومنظّراً لسُبل التحول الديمقراطي كما يراه. لا نمنع عليه حق إبداء الرأي في قضية تشغل بال الرأي العام في سورية، وليس من حقنا منع الآخر من التعبير، لكن أن يتحدث بلهجة التهديد والوعيد من موقعه المسئول، فالأمر هنا لم يعد ديمقراطياً، بل هو سيّاف على رقاب الناس. ونسوق بعض ما ورد في محاضرة خدام مستشهداً بالتجربة الديمقراطية في الجزائر:
" ..هل نحن مجتمع مدني؟ طيب، ترفضون كمثقفين هذا المجتمع، ما هو البديل؟ هل المجتمع الجزائري؟ هل ما حدث في الجزائر؟ هل ما حدث في يوغسلافيا؟ هل ما حدث في الصومال؟ في هذا المجال أشير إلى التجربة الجزائرية: الرئيس السابق الشاذلي بن جديد قرر أن يقوم ببريسترويكا، جيد من حقه. ألقى خطابا اتهم حزب جبهة التحرير واتهم الدولة كلها بالفساد والخراب، وأجرى انتخابات. أمر طبيعي أن تنجح المعارضة طالما رئيس الدولة يتهم جميع مؤسسات المجتمع بالخراب والفساد. جاءت جبهة الإنقاذ الإسلامية .. ماذا حدث؟ قام الجيش بانقلاب، ماذا حدث؟ الجزائر تتمزق. إذاً قبل أن نطرح هذا الشعار يجب أن ندرس ماذا يعني المجتمع المدني".
ونقل خدام تعريف المجتمع المدني حسب د. أنطون المقدسي "المجتمع المدني يتطلب مؤسسات ديمقراطية ويتطلب المؤسسات الوطنية أي النقابات والمنظمات"، ويضيف خدام "قد يكون هناك خلل ما في هذه المؤسسة أو تلك، نناقش الخلل، لكن لا ننسف ما هو قائم لأن لا يملك أحد البديل ولا يملك أحد القدرة على نسف ما هو قائم. هذا يجب أن يكون واضحاً لأننا لن نسمح بشكل من الأشكال أن تتحول سورية لا جزائر ولا يوغسلافيا ولا غيرها. هذا الأمر يجب أن يكون واضحا ومسئولية المثقفين أن يساعدوا في تعزيز الوحدة الوطنية وفي تطوير المجتمع الوطني في البلاد، في نقد ما هو قائم ماشي الحال لكن ليس بتجريم ما هو قائم ..".
بغض النظر عن تسطيح السيد خدام للأزمة الجزائرية، ولسنا هنا في معرض توضيح أسبابها، فأهل مكة أدرى بشعابها، لكن أن يسوقها مثلاً لقمع الرأي الآخر تحت شعار "الخوف على الوحدة الوطنية السورية" مستخدماً التهديد والوعيد لمن تسول له نفسه بالمطالبة بإصلاحات سياسية، فهذا أمر غير مقبول ويتناقض مع طرحه بحرية نقد ما هو قائم. فالإصلاحات السياسية أصبحت أكثر من ضرورة في ظل التهديد الأمريكي - الإسرائيلي للمنطقة، وسورية في المقدمة نظراً لموقعها الجيواستراتيجي في المخطط الأمريكي للمنطقة، والذي بدأت ملامحه تتضح بتغيير الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط برمتها.
والحالة هذه ما أحوجنا إلى إصلاحات سياسية تُفضي إلى مصالحة وطنية بين الحاكم والمحكوم في سورية، وفق حوار ديمقراطي بين السلطة وقوى المجتمع السوري الحية. يحدد هذا الحوار علاقة شفافة في إدارة البلاد وتسيير ثرواتها التي هي مقدرات الشعب السوري، ولا يستطيع السيد خدام أن ينكر حجم الفساد الطاغي في دواليب السلطة ومؤسسات الاقتصاد الوطني، وإلا ما كان الرئيس بشار قبل توليه السلطة يشن حملة ضد الفساد في سورية، اعتقل فيها نحو خمسة آلاف متورط بنهب وسرقة المال العام. لذا ما توعد به السيد خدام يدخل - حسب المحللين السياسيين - في إطار الدفاع المستميت عن وضع لا زال قائماً منذ ثلاثة عقود، تكونت خلالها مصالح، ومكاسب لما أصبح يُعرف بالحرس القديم ممن كانوا إلى جانب الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي انتقد غير ما مرة في خطب رسمية الفساد في البلاد، ولم تقترن انتقاداته بأفعال وهو مركز القرار، بل ترك الحبل على الغارب لأجهزة الاستخبارات في ملاحقة الناس بذريعة "أعداء الثورة" إلى أن طالت آلاف السوريين، كانوا عبرة لمن تسول له نفسه أن ينتقد الفساد في أجهزة النظام، كما هي الحال الآن بسجن نشطاء لجان إحياء المجتمع المدني، فالأمر رسالة مماثلة لمن ثكلته أمه ويجرؤ على انتقاد أسلوب حكم أصبح من مخلفات الماضي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
فما الذي قاله رياض الترك أو عارف دليلة أو كمال لبواني وغيرهم من نشطاء المجتمع المدني غير المطالبة بالإصلاح السياسي؟ وطبيعي جداً أن تكون بوابة الإصلاح تعديل دستور البلاد الناظم للعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، التي هي قائمة الآن على فلسفة "الحزب القائد" كما ورد في المادة الثامنة من الدستور (حزب البعث العربي الاشتراكي يقود الدولة والمجتمع). فالديمقراطية تُلغي احتكار السلطة لحزب، يجعل مؤسسات الدولة مكاتب له.
وقد فسر السيد خدام سيطرة البعث على النقابات، لأن البعثيين هم الأكثرية في هذه النقابات، وتساءل "هل المطلوب عند الانتخابات النقابية أن يصوت البعثيون لخصومهم أو لغيرهم؟ هل المطلوب من قيادة البعث أو حزب البعث أن يفصل مليوناً ونصف مليون من أعضائه المليونين حتى يكون هناك مجتمع مدني؟". ولم يُفسر السيد خدام لماذا أصبح عدد البعثيين مليوني شخص، يبدو أنه نسي أن إحدى الوثائق المطلوبة في طلبات التوظيف أن يكون طالب الوظيفة بعثياً.
ولنسلم جدلاً بما قاله السيد خدام عن الانتخابات في النقابات أو البرلمان، لكن من حقنا طرح بضع أسئلة: ما دور مجلس الشعب (البرلمان) كسلطة تشريعية في وضع سياسة البلاد غير الموافقة على قرارات القيادة القطرية للبعث التي تضعها السلطة التنفيذية (الحكومة) كمشروع تقدمه للبرلمان؟ ما دور النقابات في الدفاع عن مصالح أفرادها من عمال وفلاحين وطبقة وسطى من معلمين وموظفي الدولة والدخل لديهم لا يتجاوز 100 دولار شهرياً، في وقت بلغ فيه مستوى المعيشة نحو 400 دولار شهرياً؟ هل تستطع إحدى هذه النقابات أن تشن إضراباً كحق دستوري للمطالبة برفع الأجور مثلاً؟ هل يستطيع مجلس الشعب (البرلمان) مساءلة مسئول متورط في جرائم اقتصادية بالبراهين والأدلة، مهما كانت مستوى المسئولية متواضعاً؟
من هنا، وأمام التحديات والمخاطر المحدقة في سورية، وطن الجميع وليس لأحد امتياز فيه على آخر، أصبحت الإصلاحات السياسية ضرورة استراتيجية لحماية الوطن من المخاطر المحيطة بمشارف دمشق، وما نراه عاجلاً:
1- إطلاق سرح جميع معتقلي الرأي دون قيد أو شرط، ورد الاعتبار لهم ولمن أطلق سراحه من قبل، بالحقوق المدنية والسياسية.
2- السماح لأبناء سورية المنفيين لأسباب سياسية بالعودة إلى وطنهم دون قيد أو شرط، وإعادة الاعتبار لهم ليشاركوا في بناء سورية بما لديهم من شهادات عالية وخبرات، لا شك أن سورية في أمس الحاجة إليها.
3- طرح مشروع وطني تشارك فيه السلطة والقوى السياسية على مختلف مشاربها السياسية، يُفضي إلى عقد اجتماعي، يحدد العلاقة الشفافة بين السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ويعطي للسلطة الرابعة صاحبة الجلالة "الصحافة" دورها المنوط بها تاريخياً: حرية التعبير.
فمثل هذه الإصلاحات التي أصبحت مطلباً للشعب السوري لا تهدف إلى أكثر من تنظيف دواليب السلطة من عفن الفساد الذي يزكم الأنوف، وتحديد آليات لمراقبة تسيير البلاد بشفافية عبر برلمان سيّد منتخب ديمقراطياً بكل حرية ونزاهة، يحول دون العبث بمقدرات الشعب السوري. ونعتقد أن هكذا إصلاح يخدم الرئيس بشار الأسد بالمصداقية بين خطاب القسم وبين الواقع الذي يطمح الشعب السوري إلى تغييره، بما يحقق له آدميته بالكفاءة وليس بالولاء الكاذب.
فهل بمقدور الرئيس الأسد الابن القيام بما عجز عنه سلفه الأسد الأب؟ أم أن يده مغلولة من حاشية الحرس القديم، وحجتهم "أعداء الثورة" والحفاظ على الوحدة الوطنية؟
__________
* صحفية سورية - الجزائر