|
قراءة في كتاب ميثم الجنابي - العراق ومعاصرة المستقبل
سمير إسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 1045 - 2004 / 12 / 12 - 10:38
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يشكل الكتاب الأخير "العراق ومعاصرة المستقبل" للبروفيسور ميثم الجنابي (والصادر عن دار المدى 2004 ، عدد الصفحات 390) حلقة جديدة، قد تكون الأكثر عملية وسياسية في سلسلة كتبه الفلسفية. وإذا كان عنوان كتابه قد يوحي بانتمائه المباشر للعراق، فان مضمونه وأبعاده الحقيقية تتناول العالم العربي ككل، ولحد ما "العالم الإسلامي" اجمع. والقضية هنا ليست في أن غايته الظاهرية متعلقة بالمستقبل، أي استكناه ما كان أسلافنا يطلقون عليه لفظة الغيب، بقدر ما انه يسعى لمعاصرته. وليس المقصود بمعاصرة المستقبل في فلسفة الجنابي هنا سوى الحل المنظومي للإشكاليات الكبرى التي يواجهها العراق (وأقرأ العالم العربي ككل) في مجال بناء الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. أي انه يتناول هذه الإشكاليات من خلال ما يدعوه بفلسفة البدائل الثقافية. وهي الفلسفة التي تسعى لتأسيس بدائل عقلانية وواقعية تستمد مرجعياتها النظرية والعملية الكبرى من تأمل ودراسة وتعميم التاريخ الذاتي. وليس اعتباطا فيما يبدو أن يبدأ الجنابي كتابه هذا بما يدعوه بهموم الهوية لينتهي في الباب التاسع والأخير منه بفلسفة المرجعيات الثقافية الكبرى ومهمات معاصرة المستقبل. لقد أراد القول، بان معرفة النفس هي الشرط الضروري للارتقاء إلى عالم المطلق، ولا مطلق أمام العراق (والعالم العربي) غير إدراك ذاته بمعايير الرؤية العقلانية والواقعية من اجل معاصرة المستقبل وإشكالياته المعقدة. بهذا المعنى انه أراد القول بان معاصرة المستقبل هي إشكالية العراق الفعلية. وفيها نرى أيضا الرؤية البديلة لمخاض التاريخ العربي في احلك مراحله وعقده السياسية والثقافية. يبتدأ ميثم الجنابي كتابه بمناقشة "هموم الهوية" العراقية، مرورا بقضايا العقلانية السياسية، والتيارات الفكرية السياسية الكبرى في العراق، وإشكاليات الخطاب السياسي، وقضايا المرجعية الوطنية والقومية والثقافية، وعلاقة العراق بالغرب، ثم خصوصية التوتاليتارية والعراقية وأثرها الشامل في التخريب الشامل، إضافة إلى دراسة وتحليل المرجعية الدينية والسياسية، أي كل المكونات الضرورية للروح والجسد العراقيين. بعبارة أخرى إننا نقف أمام عمل فلسفي سياسي من طراز خاص ومتميز في رؤيته للإشكاليات الكبرى التي يواجهها العراق، بوصفها النتاج "الطبيعي" لانحرافه التاريخي عن "الصراط المستقيم" في بناء الدولة. من هنا اسم الكتاب "معاصرة المستقبل". بمعنى أن الهم العميق والكبير الذي يحاول ميثم الجنابي تأسيسه في كتابه الجديد هذا يقوم ليس فقط في تشريح البنية السياسية والثقافية للخلل البنيوي والأزمة الشاملة التي يعاني منها العراق الآن، بل وفي محاولته المتميزة تقديم رؤية عملية ترتقي بالبحث إلى مستوى الرؤية الفلسفية. وهي رؤية يمكن ملاحظتها في عناوين الكتاب الفرعية والقضايا التي يتناولها وأسلوب البحث والتحليل والدراسة والنقد. الا أن قيمة الكتاب الجوهرية تقوم في تعميمه الفلسفي الذي يرتقي إلى مصاف المرآة النظرية الناصعة لرؤية الخلل الجوهري في بنية الدولة والمجتمع والثقافة في العالم العربي ككل. بمعنى رؤية أنفسنا فيه. وإذا كان العراق في ظروفه الحالية هو الأكثر نتوء، فلأنه الأكثر "نموذجية" في تمثيل هذا الخلل. وهي الفكرة التي صورها الجنابي في مقدمته للكتاب قائلا: " عادة ما ترتبط الأمور الكبرى، الرمزية منها والواقعية، بزمن يشكل بالنسبة للوعي الاجتماعي والتاريخي نقطة انطلاق ضرورية للحساب والتقييم. فالغالبية من البشر تستصعب إدراك حقيقة الفكرة خارج الزمن، مع انه التيار الذي يخترق وجودها اليومي. وهي مفارقة تتجسد أحيانا بما ندعوه بالزمن الجميل والزمن القبيح. أما في الحقيقة فان الجميل والقبيح ليس إلا التعبير الخاص عن أذواق الأفراد والجماعات والأمم لما تراه وتعايشه من أحداث. ومن ثم ليس الجميل والقبيح في الزمن سوى ما نفعله ونتذوقه نحن. بينما الزمن هو تيار وجودنا ومرآة تاريخنا لا غير. ففي الإنسان نراه يتمظهر في مراحل الطفولة والصبا والفتوة والرجولة والشيخوخة والكهولة، وفي الرؤية التاريخية نراه في أزمان الماضي والحاضر والمستقبل، وفي العقل نراه في مقولات الممكن والواقع، وفي الأخلاق نراه في قيم الواجب والأفضل. وهي مكونات اقرب إلى البديهة بالمظهر، لكنها اشد تعقيدا بالنسبة للفكر حالما يضعها على محك الجدل، واكثر إثارة حالما يضعها على محك المصير، وأوسع إلهاما حالما يضعها على محك البدائل". ذلك يعني أن الهم العميق الذي يتناوله هنا له أبعاد ثلاثية مترابطة هي الجدل والمصير والبدائل. وإذا كان الجدل هو الفعل الملازم للفكر والمصالح، والمصير هو الخاتمة التي يؤول إليها الجدل النظري والعملي، فان البدائل هي مضمون "معاصرة المستقبل". من هنا فكرة الجنابي عما يدعوه بضرورة الحكمة، بوصفها القوة الوحيدة القادرة على تذليل أو توليف هذه الجوانب. انطلاقا من كونها القوة الوحيدة القادرة على "اختزال الزمن إلى متعة حتى في أشد مظاهره "قبحا"، كما أنها الوحيدة القادرة على ربط الأزل بالأبد في الآن الدائم، و بالتالي إعطاء المهزومين والخاسرين والمرهقين إمكانية الخلاص من يأس القنوط". وليس المقصود بالحكمة هنا سوى استخلاص العبرة التاريخية مما أدت إليه التوتاليتارية بوصفها النموذج الكلاسيكي للخروج على قانون التطور الطبيعي للأمم والدول، مع ما يترتب على ذلك من هدم لفكرة الدولة والحقوق والشرعية والحرية. وهي الفكرة التي وضعها الجنابي في استنتاجه القائل، بأنه إذا كانت الحكمة الفلسفية تقول بان الوجود خير من العدم، فإن التجربة التاريخية للنموذج التوتاليتاري، باعتباره "وجودا قبيحا" تفترض نفيه (عدمه) بنموذج يجعل من الحق والحقوق والاعتدال والعقلانية الشروط الوحيدة الضرورية لوجود الدولة وتفعيل مؤسساتها. وهو أمر يمكن تحقيقه في حال إقرار جميع القوى السياسية والاجتماعية في العراق وإجماعها على مبادئ أساسية خمسة هي النظام الديمقراطي الاجتماعي، ودولة المؤسسات الشرعية وفصل السلطات، والمجتمع المدني، والتحديث المتجانس والتنمية الشاملة، والعمل بمبدأ التكافل الاجتماعي والوحدة الوطنية. وهي مبادئ ليست جديدة بحد ذاتها، إلا أن تجربة العراق السياسية في مجرى العقود الأربعة الأخيرة تجعل من التمسك بها وتجسيدها أمرا ضروريا للجميع. فهي الحكمة الجوهرية الكبرى التي ينبغي استخلاصها والعمل بموجبها فيما يتعلق بتحليل ماضي العراق وآفاق البدائل المقترحة لحل إشكالياته الكبرى في ميادين التاريخ والسياسة والأخلاق والثقافة. بعبارة أخرى، إن الحكمة الوحيدة بهذا الصدد تقوم في تحويل هذه الضرورة إلى بديهة سياسية عملية. حينذاك سيكون للتضحيات الهائلة التي قدمها العراق في مجرى القرن العشرين كله وبالأخص معاناة الدمار الشامل للعقود الأربعة الأخيرة ما "يبررها" بمنطق ما اسماه ابن عربي بالحقيقة المحمدية وما دعاه هيغل بالعقل المطلق. آنذاك سيكون للزمن المسروق من عيون الأطفال وانتظار الأمهات وحنين الصبايا وغرام العاشقين ووجدان المحبين وآمال الثوار وأوهام الحالمين وتمنيات العقلاء ومكابدة الحكماء معنى يمكن رفعه إلى مصاف "المصادفة المحزنة" و"الغيب" المعقول بمنطق الضرورة والشهادة الصادقة. حينذاك ستتحول كل هذه المكونات إلى مصادر لإبداع الشعراء والأدباء والفنانين ورجال السياسة والعلم. وحينذاك سيكون من الممكن تأمل الماضي على انه ماضينا، وتذوق مرارة "أزمنته القبيحة" و"مراحله البائدة" و"رذائله" بمعايير الحقيقة والإخلاص لتاريخ الحق. إذ ليس التاريخ الحقيقي سوى تاريخ البدائل العقلانية والإنسانية. وهو تاريخ يكشف عن حقيقة تقول، بأنه كلما ترتقي الثقافة في مصاف المطلق، كلما تدرك اكثر فاكثر قيمة الاعتدال. وهي العبرة الكبرى التي ينبغي الاستفادة منها، والاهم من ذلك تحويلها إلى بديهة للعلم والعمل بالنسبة للأفراد والقوى الاجتماعية والحركات الفكرية والأحزاب السياسية. ومن هذه المقدمة "البرنامجية" حاول الجنابي تأسيس فكرة البديل العقلاني تجاه الإشكاليات الكبرى التي تواجه العراق والعالم العربي. وليس مصادفة أن ينطلق من تأسيس فكرة الهوية الوطنية ووضعها فيما اسماه بفكرة الاستعراق. وهي فكرة أصيلة ومبدعة في الوقت نفسه. وذلك لقدرتها على تجاوز تاريخ وتقاليد الوطنية العرقية والقومية الضيقة. ومن ثم تقديمها كنموذج محتمل (من حيث إمكانيته الواقعية والعقلانية) بالنسبة للعراق في استعادة هويته التاريخية الثقافية وتفعيلها السياسي في الظروف الراهنة بما يخدم فكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. إذ وجد فيها حكمة نظرية وعملية قادرة على إعادة بناء الدولة والمجتمع والثقافة استناد إلى رؤية فلسفية متكاملة تأخذ بصورة منظومية مكونات العراق، التي ينبغي توليفها العقلاني والإنساني في سبيكة جديدة تتجاوز العهود السابقة جميعا. بمعنى العمل من اجل تحويلها إلى "حقيقة الحقائق" الوطنية. وهي حقيقة ينبغي أن ترتقي إلى مصاف المنظومة، بمعنى العمل فيها حسب قواعد منسجمة وضعها الجنابي في عشرة وهي: إن العراق ليس تجمع أعراق، وإن العراق هوية ثقافية سياسية، وانه غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافدينية - العربية – الإسلامية، وإن العربية – الإسلامية هي جوهر ثقافي، وإن الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية هي الاستعراق، وإن الاستعراق هو الحد الأقصى للقومية في العراق، وإن الاستعراق هو البيت الذي تتعايش فيه جميع القوميات في العراق بصورة متساوية ومنسجمة، كما انه ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية الذاتية له، وإن الخروج على الاستعراق هو رجوع إلى العرقية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية، وأخيرا لا يعني الخروج على الاستعراق سوى الخروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، ومن ثم فهو خروج على القانون أيضا. لقد حاول الجنابي أن يؤسس لفكرة الاستعراق بوصفها فلسفة الحد الأدنى الضروري والعام للوحدة الوطنية من خلال البرهنة على قدرتها الدائمة بالنسبة لتوفير الشروط الضرورية لوحدة الدولة والمجتمع. مما يعطي لها على الدوام أهمية وفاعلية سياسية آنية ومستقبلية أيضا. إذ أن محك ومعيار الإدراك السليم لدروس التاريخ العراقي المعاصر، كما يقول الجنابي، تتجلى في مستوى تجسيد الإجماع التام على المبادئ الكبرى المتعلقة بإقامة دولة القانون والمؤسسات الشرعية، والعمل بالدستور الثابت والمجتمع المدني عبر تحويلها إلى مرجعيات متغلغلة في ذهنية ونفسية الأفراد والجماعات والقوميات والأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والجمعيات والنقابات. وهي مرجعيات لا يمكنها العمل في ميدان السياسة وبناء الدولة والمجتمع والثقافة دون تحديد مكونات الهوية العراقية. ووضع الجنابي هذه الحصيلة النظرية العامة في تحليله لكل القضايا التي شكلت محور وموضوع الكتاب. بمعنى عمله من اجل التأسيس الملموس لما يدعوه بفلسفة المرجعيات الثقافية. فنراه يؤسس لها في مجال الموقف من الدولة والمجتمع والثقافة والخطاب السياسي والحزبية وعشرات من القضايا العملية والنظرية الملتهبة. أما الغاية النهائية لكل ذلك فقد وضعها الجنابي في صورة أدبية اختتم بها كتابه، والتي يقول فيها بأن للعراق فيما مضى اثر في العالم كبير. وأثره الآن لا يقل أهمية من معاني الحياة والموت. إلا أنها مجرد دورة، سوف تنتهي بانتهاء دوامة العنف التي صنعها "نظام" خارج التاريخ. وهي عبرة للمستقبل، لاسيما وانه مصدر الرهان الأكبر لنا جميعا. انه أراد القول بان اشكالياتنا الكبرى هي نحن. وبهذا يكون قد ارجع التأمل الفلسفي ومعاناة البحث عن الأسباب والنتائج إلى ميدان البدائل، أي انه حاول أن يعطي للعقل والقلب والضمير حرية ومسئولية الإخلاص للحق والحقيقة. وهو إخلاص يفترض كحد أدنى إدراك معنى وحقيقة معاصرة المستقبل. ولا شئ اكثر قدرة على أضاءتها في عتمة الإشكاليات الجوهرية للعراق (والعالم العربي عموما) من كتاب الجنابي "العراق ومعاصرة المستقبل". ***
#سمير_إسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|