الثلاثاء 03 سبتمبر 2002 04:18
بدأ امس في باليرمو (صقلية) مؤتمر بمناسبة الذكرى الاولى لأحداث 11 ايلول، قدم فيه الاستاذ غسان تويني مداخلة تحت عنوان "بعد 11 ايلول: هل الصدام محتوم بين الحضارات؟". هنا نصها الكامل:
نحن مجتمعون هنا لنناقش موضوع "الاديان والثقافات بين النزاع والحوار".
واذ اتخذ هذه العبارة بالذات شعارا، اود ان اعلن منذ البدء ان ثمة اجابة واحدة لا غير عن السؤال المطروح خلال هذا المنتدى، وهي الآتية: ان صدام الحضارات المزعوم ليس "محتوما" بعد 11 ايلول. وبكلام اوضح، ليس هناك امر حتمي او مقدر سلفا، او حتى خاضع للمنطق التاريخي. يسمح لنا بالقول انه لا مفر من حدوث صدام بين الحضارات بسبب، او بنتيجة، ما يسمى اليوم عموما 9/11/.2001 ومع التعمق قليلا في الموضوع هذه بعض النقاط الواجب اخذها في الاعتبار:
1- مع ان احداث 11 ايلول شكلت صدمة كبيرة لاميركا والعالم كعمل ارهابي وفظاعة اجرامية غير مسبوقين، فانها لا تمثل "نهاية التاريخ" (عبارة فوكوياما التي يساء استخدامها غالبا) ولا هي ايضا، في السياق، نفسه، بداية تاريخ جديد. لا اعتقد حقا انها بداية العام الاول من عهد جديد، او علامة على عصر ما بعد الثورة، على غرار تقويم 1789 القصير الاجل.
2- علاوة على ذلك، ان ما حدث في يوم 11 ايلول من العام 2001 لم يكن في ذاته، مواجهة بين حضارتين، ولم يُنتج صداما او صداما مصغرا، بين الحضارات. اما الحرب ضد الارهاب - وإن وصفت كنوع جديد من الحملات الصليبية -فلا تفوق في تحضّرها الهجوم الارهابي على مركز التجارة العالمي، ولا احد منا يتجرأ على تطبيق مقولة (بالتعبير الارسطي) الحضارة هذه على تنظيم "القاعدة" التابع لبن لادن او على نظام "طالبان".
3- ما الذي حصل اذاً في 11 ايلول؟
لقد كان بالتأكيد عملا حربيا في احد اكثر اشكاله همجية، عملا حربيا وحشيا وجريمة ضد الانسانية. ومثلما هو متوقع، ادى هذا العمل الحربي، في شكل مفهوم، الى نقيضه الطبيعي: اي الى حرب مضادة شاملة ضد الارهاب. وهي حرب وصفت، ويا للأسف، بالحملة الصليبية. وهذا التعبير اثار جدالا لا حد له وبالاسلوب الاشد ارتباكا وارباكا، حول الاسلام وفلسفته وتاريخه وثقافته الخ... وذلك كما لو ان بن لادن هو الزعيم غير المنازَع للعالم الاسلامي، وكأن "قاعدته" هيكل للعبادة والفلسفة الاسلاميتين، وافغانستان نموذج لنظام الحكم الاسلامي المستقبلي. ويصعب تجنب رافد لهذا الجدال: فهل ثمة خط فاصل واضح بين، من جهة، شرعية تستخدم وسائل عنف مدمّرة استثنائىة - على غرار ما حدث في هيروشيما - وبين، من جهة ثانية، ارهاب غير مسؤول ضد الانسانية، وهل يمكن القول ايضا، جريمة ضد الانسانية؟
منذ ذلك الحين، كانت المفارقة التي واجهتها كل الحكومات بعد هيروشيما وناغازاكي: في اعمال الحرب هل ثمة أي حدود ثقافية - كي لا نقول اخلاقية - لاستخدام الاسلحة المدمرة للحضارة؟ ولمّا كانت كل مفارقة تولّد حتما أخرى: هل التفوق في العلوم - وتالياً في الحضارة - يخوّل الامة القادرة على انتاج اسلحة الدمار الشامل استخدام تلك الاسلحة ضد امة ذات ثقافة مختلفة او - هل نقول - ذات مستوى حضاري ادنى؟ وهل من شأن ذلك ان يوصف بأنه صدام بين الحضارات؟
اسمحوا لي بهذا الهامش لما بدا ربما تمرينا ذهنياً بلا جدوى (لكن هل هو مجرد هامش؟).
يقال لنا ان بن لادن، اذ لم يكتف بالدقة التي ابرزتها اعتداءات 11 ايلول، هو الآن في صدد استخدام اقصى ما توصلت اليه الابحاث العلمية الغربية في بعض الميادين بغية تحضير هجومه التالي على معاقل الحضارة الغربية: اختراعات بيوكيميائية تمت تجربتها على الحيوانات، امام شاشات الكاميرا، سوف تستخدم، اليوم كأسلحة مميتة ضد البشر.
هل يجعل منها هذا صداما بين الحضارات؟ ومن اي حضارة يستقي بن لادن استراتيجيته الوحشية تلك؟، امن الحضارة الاسلامية ام الغربية؟ فبن لادن هذا، مثلما يدأب على تذكيرنا الاعلام الغربي يوما بعد يوم، دُرّب على ايدي وكالة الاستخبارات المركزية واستُخدم، الى جانب "طالبان"، بهدف تشييد حاجز اسلامي في وجه تقدّم الشيوعية الملحدة خلال الحرب الباردة... ثم تمّ الاستغناء عنه في ما بعد عند نهاية تلك الحرب. ونعلم جميعا، اليس كذلك؟، ان الارهابيين الافغان المزعومين الذين يتزعّمهم بن لادن ينشطون الآن في الجزائر، وفي امكنة اخرى، لا بهدف محاربة اميركا، بل ساعين الى زرع الفوضى في المجتمعات الاسلامية التي لا ينتمون اليها. والمجازر التي يرتكبونها، وهي مجازر لا علاقة لها بأي مقاييس حضارية، ولا يمكن فهمها بالاستناد الى اي من هذه المقاييس هي أعمال ارهاب صرف وعنف مطلق، انها اعراض "ثقافة موت"، ووباء شامل يهدد المجتمعات في جميع انحاء العالم، بما فيه اميركا.
وبما ان كل هامش يؤدي الى آخر، اذا استخدم شارون الاسلحة النووية التي يهدد باستخدامها - في لحظة يأس فرضا - هل سيكون من حق المسلمين آنذاك القول ان ذلك هو صدام بين الحضارتين اليهودية والاسلامية؟ واي حملة صليبية او اي جهاد يجب شنه آنذاك، واي اسم من اسماء الله سوف يكون حينها عذر هذا الطرف او ذاك؟
وعلى صعيد اكثر واقعية، لا اجد عند هذا المفصل فيلسوفا افضل من ايمانويل كانط لكي استشهد بكلامه. اوَلم يدعُ، وهو البروسي، الى "سلام دائم" بالاسلوب الاكثر رؤيوية حين حذّر من انّ تقدّم العلوم من دون رادع الاخلاق (ولا اذكر ان كان قال الدين ايضا) سوف يؤدي لا محالة الى تدمير الانسانية في شكل كامل؟
في الايام المظلمة التي نعيشها الآن، ومع الغاء فاعلية شرعة الامم المتحدة من جانب اولئك الذين اقترحوها بالذات وبادروا الى توقيعها، ومع انتهاك الاعلان العالمي لحقوق الانسان في كل ساعة من كل يوم وفي كل انحاء الارض، قد يجد منظّرو البراغماتية السياسية بعض الوحي في المعاهدة البسيطة التي صاغها، منذ عام ،1795 مؤسس الفلسفة الحديثة.
سيداتي وسادتي،
اود ان اقول لجميع الذين يتوقون الى التنبؤ بصدام بين الحضارات يفرضه على الانسانية نوع من الحتمية التاريخية، ان ثمة آفاقا اكثر اتساعا يجب النظر اليها، بدلا من التركيز على المواجهة الراهنة بين اسلام اتخذه الارهاب رهينة، واميركا تدعي انها المدافعة الوحيدة عن ارثٍ ساهمت فيه الحضارة الاسلامية طوال قرون تفوق التاريخ الاميركي بكامله. واذا تذكّرنا في شكل خاص ان الايديولوجيات اقلّ اهمية بالنسبة الى الدول الحديثة من المصالح الاقتصادية، لعرفنا انه من غير المرجح التوصّل الى تحقيق اي اهداف عظمى في سبيل مجتمع افضل، بواسطة استراتيجيات شبيهة بالتي تطبّق في الوقت الحاضر، بنجاح اقلّ من نسبيّ، في افغانستان وآسيا الوسطى. ان هذا البحث عن السلام ينتج حروبا اكثر مما ينتج انتصارات، وبؤسا اكثر من رفاه.
واذا كان هذا حقا صداما بين حضارات، فستكون عاقبته الوحيدة تدمير اي حضارة موجودة في الجهتين. اذ لن ترى اي حرية النور، ولا اي سلام منتظر بالتأكيد، عندما تتحول كل التسويات السلمية المزعومة مصادر جديدة للنزاع. يشهد على ذلك تصاعد حدة التوتر الديني في القارة الهندية، وربما قريبا ايضا - من يعلم؟ - في جنوب شرق آسيا والصين.
هناك وآنذاك، حول المحيط الهادئ وعلى الحدود الغربية للولايات المتحدة، سوف يتخذ صدام الحضارات ابعادا ابوكاليبسية حقا. اما الاسلام فسيصبح عاملا ثانويا جدا، اذا كان له من تأثير ما. ولن يكون ثمة بن لادن يمكن مطاردته.
سيداتي ساتدي.
ان الوقت المتوافر لدينا هنا اقصر من ان يمكننا من استخلاص كل الدروس الممكن استخلاصها مما حصل في 11 ايلول وبعده. الا انه ثمة بعض الملاحظات الجديرة بالذكر مما يُقال عموماً ويُكرّر غالباً:
1- لقد ولّى زمن تمدين "العالم الواحد" الذي نعيش فيه بواسطة حروب استعمارية أو أمبريالية.
2- "العولمة" ممكنة، وسوف يتمّ تقبلها في جميع أنحاء الارض، اذا كانت تحترم التنوّع والتعدّدية لا العكس. ولا يمكن المضيّ في سعي مشترك الى نظام حكم يحترم حقوق الانسان الاساسية من طريق العنف، بل فقط عبر التعايش السلمي والعدالة واحترام الآخر المختلف.
3- يجب ان ننزع عن التوترات والصراعات صفة العولمة. اذ لا ينتج التطور والثقافة من بحثٍ مهووس عن صدامات شاملة بين الحضارات، بل من تفاعل الحضارات المختلفة التي تتعايش في ما بينها داخل المجتمعات القومية والعالمية على حدّ سواء، لا خارجها.
سيداتي سادتي،
اسمحوا لي ان اختم بما قد يبدو ملاحظة شخصية.
أنا آتٍ من ارض مقدّسة حيث تعلمنا ان نحبّ القديسين والانبياء بالقدر نفسه. في القدس لا نسعى الى تقسيم "مدينة الهية" لا تتجزأ، بل الى المساهمة في تفرّدها. في دمشق يحبطنا وجود متعصبين في مدينة كانت في ما مضى عاصمة امبراطورية للاسلام، حين كان قدّيس، يحمل اسم يوحنا الدمشقي، وزيراً للخليفة، ومع ذلك استطاع كتابة اول بحث لاهوتي شامل يشكك في اللاهوت الاسلامي، ولم يطاوله اي أذى. في بيروت عانينا خمسة وعشرين عاماً من الحروب فُرض خلالها على مجتمع تعددي نزاعي بطبيعته، كل شكل ممكن من اشكال النزاع الاقليمي والثورة. ومع ذلك خرجنا غير منقسمين، باحثين معاً باستمرار عن مبادئ جديدة للحرية في اطار الوحدة، همّنا المضيّ قدماً، رغم الحرب، في بناء منازل تفوق عدداً تلك التي دمرها المحاربون. أخيراً، وكعربي مسيحي اشعر بالفخر بالقاهرة التي ما زالت تؤوي اقدم جامعة في العالم، جامعة الازهر، وهي اليوم النظير الاسلامي للفاتيكان، والتي تسمو فوق الجدال المستمر الدائر بين الحداثة والاصولية لتدين بدون التباس بن لادن والارهاب الديني.
تعيدني القاهرة - بما ان هناك دائماً شيئاً من الاسلام داخل كل مسيحي شرقي - الى ذكريات مدينة اندليسة على غرار قرطبة التي كانت في ما مضى عربية، وحيث لا يزال تمثالا ابن رشد وابن ميمون، وهما الاعظم بين فلاسفة الاسلام واليهودية، متقابلين في ساحة المدينة الرئيسية، اذ لم يُدمّرا خلال عهد الملكة ايزابيل الكاثوليكية. ان رسالتنا اليكم جميعاً، والى اصدقائنا الاميركيين خصوصاً، هي دعوة الى اعادة احياء ارث عالم متوسطي هو ما يجمعنا هنا اليوم.
قبل وقت طويل من تصميم اميركا على تولي قيادة العالم الليبرالي من دون منازع، توارثت ثقافاتنا المتوالية، من بعضها البعض، قرناً بعد قرن، والفية بعد الفية، مُثُلَ الحرية والانسانية، والتي تركت بصمات لا تمحى على كل الفنون والآداب والعلوم، وحضاراتهم الامبراطورية لم تقف عند اي حاجز لغوي او عرقي او ديني. اما الحكمة التي يجب استخلاصها من تلك التجربة العالمية بل الكونية فهي واحدة: كلما نظرنا بعيداً نحو المستقبل، وجب علينا ان نغرف عميقاً من الماضي.
ترجمة جمانة حداد عن الانكليزية
النهار اللبنانية