فؤاد سلامة
الحوار المتمدن-العدد: 3518 - 2011 / 10 / 16 - 15:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لطالما تغنى الساسة اللبنانيون بوحدة المصير والمسار بين البلدين الشقيقين اللدودين. أكثر ما تصدق هذه المقولة في هذه المرحلة الحرجة لكلا البلدين وبالأخص لكلا النظامين. إنها مرحلة دقيقة وغير مناسبة البتة للمدافعين التقليديين عن هذه المقولة, وخاصة مع استشراف النظام السوري لتغييرات عميقة من المؤكد أنها ستطال بنيته الهيكلية وتركيبته السياسية في العمق. هذا يعني أن حصول هذه التغييرات اليوم أو غدا قد يصيب باليتم طبقة سياسية لبنانية واسعة صعدت وأمسكت بمفاصل بلدها لبنان بفعل الدعم غير المحدود للنظام السوري الممانع والمستبد . كما أن ثقافة سياسية مهيمنة اتسمت بطابع هجومي وانتصاري سوف تصاب بنكسة كبيرة جراء افتقادها للزخم التعبوي الذي أمنته لها انتصارات أكيدة لنهج الممانعة الإستبدادية الذي كانت تقوده سوريا في العالم العربي .
بغض النظر عن الشماتة التي قد يعبر عنها الكثيرون من خصوم نهج الممانعة, لا ينبغي للقائلين القدامى بوحدة المصير والمسار أن يتراجعوا عن مقولتهم تلك, لأن تراجعهم ذلك سيجعل منهم أضحوكة في نظر الخصوم. وهم بعدم تراجعهم عن تلك المقولة سيكون عليهم أن يلاقوا أولئك الخصوم من أبناء وطنهم في منتصف الطريق, لأن هؤلاء الخصوم الذين كانوا رافضين لهذه المقولة حتى الأمس القريب, بدأؤا مراجعة حقيقية لموقفهم وأصبحوا الآن من محبذي وحدة المصير والمسار بين لبنان وسوريا, بعد أن اكتشف الجميع فوائدها على البلدين مع وصول رياح التغيير الديمقراطي إلى سوريا. إذا حصل هذاالتلاقي بين "المعسكرين" المتنازعين, فسيكون ذلك من أهم "بركات" الربيع العربي على الشعبين اللبناني والسوري, اللذين ذاقا مرارات وحدة المصير والمسار في طبعتها الديكتاتورية وحان لهم أن يذوقوا الآن حلاواتها.
لا بد أن نذكرأولا الدور السلبي الذي لعبه النظام السوري في تأجيج النزاعات الطائفية في لبنان, هذا البلد الذي تنخره سوسة العصبيات الطائفية منذ أمد طويل. لم يخلق النظام السوري تلك السوسة ولكنه رعاها بعنايته الفائقة عندما اكتشف أهميتها لاستمرار تحكمه بوطن الأرز, فغذاها بما يلزم من مقويات. وقد بلغت الطائفية أعلى ذراها مع اغتيال الحريري الأب وما أعقب ذلك من انفلات للمذهبية التي هي أعلى درجات الطائفية. ورغم خروج الجيش السوري من لبنان, فإن الرعاية السورية للأحقاد الطائفية والمذهبية تتابعت فصولا وإن بشكل غير مباشر عبر الأطراف المتخاصمة في لبنان. وهذه الأطراف وجدت أخيرا في الموقف من الحراك الشعبي السوري الدرامي ما يعمق الشرخ الذي أحدثه اغتيال الحريري الأب. فها هم حلفاء النظام السوري وخصومه يتبادلون الإتهامات بشأن الموقف من النظام ومن الحراك الشعبي المستمر في مطالبته بالحرية, كما تبادلوا سابقا السهام بشأن المسؤولية عن الإغتيال. وبدلا من التوحد هذه المرة في دعم الشعب السوري, الذي يدعي الطرفان محبته, يزداد الإفتراق : طرف مع الشعب ضد الجلادين والمستبدين, وطرف مع النظام ضد "المخربين والمتآمرين".
في احتضاره الذي يبدو أنه سيكون طويلا ومكلفا, كما في صعوده البطيء والمتعرج والمكلف أيضا, شكل النظام السوري مادة خلافية رئيسية بين اللبنانيين تضاف إلى سلة الخلافات التي ما فتئت تمتلىء بفواكه الخلاف المرة وبالرواسب التي تمد جذورها في التاريخ القديم. وكلما خيل للبنانيين أن بالإمكان إعادة تشكيل الإجماع اللبناني حول أمور أساسية كالمواطنة والديمقراطية والعروبة العلمانية, كان جهابذة الطائفية المتخفون خلف شعارات الوطنية والإصلاح, يعيدون شحن جمهورهم بما يلزم من منشطات خطابية وتهم وتخوينات متبادلة تخفي ولعهم بالسلطة وخيراتها.
وإذ تتعمق الهوة بين الشعب السوري ونظامه, يزداد الشرخ ظاهريا بين اللبنانيين, وفي الخلفية خوف المرتبطين بالنظام السوري من فقدان حليفهم القوي في سوريا وانكشاف ظهرهم بين عدو معلن في الجنوب و نظام غير ودود يمكن أن يتشكل في الشمال. مخاوف تبدو مفهومة عند جمهور عانى من إسرائيل الويلات على امتداد أكثر من أربعين سنة . ولكنها, تلك المخاوف, لا ينبغي,منطقيا, أن تكون سببا لابتعاد جماعة المقاومة وأهلها عن شعب سوري منتفض ضد الظلم ومطالب بالحرية والكرامة, على غرار بيئة المقاومة التي طالما تغنت بالإنتفاض على الظلم عبر تاريخ ما انفك الشيعة يستحضرونه في ندبياتهم الشهيرة "يا ليتنا كنا معك" أيها المظلوم الشهيد... ها هو الشعب السوري المظلوم والشهيد أمام أنظار العالم , وما من مجير...
يتوجس البعض خوفا مما يحصل في سورية وخشية من انفلات الأمور في لبنان بين الطوائف المتربصة ببعضها البعض. كيف يغدو الربيع العربي الذي استبشرت به خيرا الشعوب العربية وبالأخص جمهور المقاومة في البداية, خريفا مخيفا؟ طالما كان هذا الربيع بعيدا عن سوريا كان جمهور المقاومة مهللا له ومنتظرا لخيراته على محور "الممانعة". وبسحر ساحر تحول الربيع العربي مؤامرة أمريكية محبوكة منذ البداية , علما أن كل التحليلات كانت تشير إلى أن الدول الكبرى فوجئت بهذاالربيع وبعد مرحلة واضحة من التخبط أعادت الدول الكبرى تصويب بوصلتها وباشرت التأقلم مع الثورات مقدمة لاستيعابها وتطويعها في خدمة مصالحها. نتساءل هنا عن مصلحة المقاومة وجمهورها في العودة الى المربع الطائفي في هذه اللحظة التاريخية التي تعيد الشعوب العربية فيها اكتشاف ذواتها وهوياتها الوطنية الجامعة والموحدة في نضالها من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق المواطن.
اللحظة الراهنة تؤكد أكثر من أي وقت مضى صحة مقولة وحدة المصير والمسار. وأكثر من يكتشف صحة هذه المقولة الآن هم الرافضون لأمس قريب متوجباتها ونتائجها. يبدو جليا وساطعا كسطوع الشمس الترابط بين النظام الديكتاتوري المكشوف في سوريا والنظام الديكتاتوري المقنع في لبنان. في سوريا يوجد ديكتاتور واحد مؤله يخدمه جلاوزة صغار , وفي لبنان لكل مجموعة أهلية ديكتاتور صغير أو اثنان, يخدمهم قبضايات وأزلام , والكل هنا وهناك يدور في فلك القادة المؤلهين في المراكز الكبرى. عندما يبدو المركز الكبير في خطر فإن المراكز الصغيرة لن تكون في منأى عن الخطر.
تستشعر المجموعات الأهلية في لبنان أهمية الحدث الجلل: انهيار المركز وتوابعه وحلول الفوضى المؤكدة. وهنا يستعاد وهم الفوضى الخلاقة ,الذي استنبطه أحد فلاسفة المحافظين الجدد الأمريكيين, ليلهب المخيلات. وفي الواقع فإن أمريكا عانت من الفوضى مثلما عانى ضحاياها. وسقوط ديكتاتور هنا وهناك لن يكون نهاية التاريخ بل سيفتح آفاقا واسعة يمكن ملؤها بما ترتأي الشعوب وعلى قدر ما تستحق . ولكن مع استمرارالديكتاتوريين الصغار والكبار يتجمد التاريخ كما تجمد في البلاد العربية طيلة خمسة عقود من حكم السلالات الملكية والجمهورية.
لن يكون الربيع العربي فاتحة للفوضى والخراب في لبنان وسوريا كما يعدنا الذين يحنون الى الديكتاتور حنينهم إلى حضن دافىء. بالطبع قد يخسر البعض مورد رزق مضمون وسطوة يرهبون بها الخصوم في حالة سقوط ديكتاتورهم المفضل, ولكل ديكتاتوره كما نعرف, ولكن وحدة الشعبين اللبناني والسوري ستتعزز من دون شك ويعاد بناؤها على قواعد الأخوة الحقيقية واالتكامل والتضامن والندية التي لم يعرفها الشعبان قبلا. فلا حاكمية المخابرات تقيم وزنا للشعوب ولا زعماء الطوائف يقيمون اعتبارا للمواطنين .
وفي سوريا فإن الشعب السوري لن يكون حزينا لانزياح كابوس الأمن عن صدور أبنائه. ورغم ما عاناه ويعانيه الشعب السوري من قمع وقتل وتنكيل للوصول إلى أهدافه فإنه لا يبدو مستعدا للسير في ركاب حرب أهلية يدفعه النظام دفعا إليها على غرار ما حاول نظام القذافي فعله ولم ينجح فيه حتى الآن رغم ما أحدثه من قتل وخراب. الشعب السوري الذي يعيد اللبنانيون اكتشافه منذ بدء انتفاضته يتكشف عن طاقات خلاقة ومبادرات مبدعة في التضحية والمقاومة ونكران الذات تكفي لإزالة أطنان من الأحاديث السخيفة والصور النمطية التي أشاعها خيال لبناني محََكوم بعقدة التفوق ومرض الإدعاء. وهذا ايضا بعض من بركات الربيع العربي على الشعب السوري الذي استعاد اعتباره واستحق احترام العالم ..
وحدة المصير والمسار بين الشعبين اللبناني والسوري يجعلها الربيع العربي أكثر واقعية لأن اكتمال هذا الربيع في سوريا سيؤدي عاجلا أو آجلا الى قيام نظام تعددي ديمقراطي في لبنان و سوريا يسمح للأقليات والأكثريات بالعيش من دون خوف من استبداد أو إضطهاد. وتلك الوحدة ستلغي الحاجة لحلف الأقليات الذي اكتسب مؤخرا نصيرا كبيرا هو بطريرك الموارنة الجديد. وحدة المصير والمسار في حال تحققها واكتمالها في دولة فدرالية أو كونفدرالية لبنانية سورية ستلبي في نفس الوقت تطلعات القوميين والعروبيين كخطوة أولى نحو وحدة عربية أوسع على غرار الإتحاد الأوروبي, وهي لا شك سترضي الإسلاميين المتنورين كخطوة نحو سوق اقتصادية عربية إسلامية أشمل, وسوف ترضي الليبراليين دعاة التكامل الأقتصادي بين دول المنطقة في إطار حر وديمقراطي. كل سيجد ضالته في وحدة لبنانية سورية شرطها الأول التسليم بقيم اليمقراطية الأساسية : التعددية والإنتخابات الحرة وتداول السلطة. وهكذا وحدة طوعية ومتدرجة ستحقق حلما عزيزا على قلب المنادين بسوريا الطبيعية والكبرى, الذين اعتقدوا يوما أن أقصر طريق لتحقيق حلمهم هو دعم النظام السوري الإستبدادي. وحدة لبنان وسوريا ستكون ممكنة وستشكل مصلحة ومطلبا واقعيا للشعبين في حال زوال الديكتاتورية في البلدين . وأول الغيث على الشعبين سيأتي من سوريا حرة وديمقراطية , كما أتى البلاء من سوريا ديكتاتورية على الشعبين الشقيقين
#فؤاد_سلامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟