أيمن بكر
الحوار المتمدن-العدد: 3517 - 2011 / 10 / 15 - 17:40
المحور:
الصحافة والاعلام
لماذا أتى أسامة هيكل وزيرا للإعلام في هذا التوقيت؟ سؤال ظهر حين كلف هيكل وتولت الأيام والأفعال الإجابة عنه.
منذ عدة شهور تم إحياء منصب وزير الإعلام، واقترن الإعلان عن ذلك بوعد صريح على لسان عصام شرف رئيس الوزراء بأن هذا المنصب مؤقت وسيتم إلغاؤه بعد تحقيق أهداف محددة. لم يتم الإعلان ساعتها عن طبيعة تلك الأهداف وترك الأمر غامضا في مهب التأويل، تماما بمثل المنطق الذي اعتاد مبارك أن يدير به شؤون مصر. شك الكثيرون – وأنا منهم- في أن الأهداف الخفية لعودة وزارة الإعلام ترتبط بطبيعة هذه الوزراة التي لا توجد إلا في النظم الديكتاتورية القمعية، وبالتالي يمكن اختصار الأهداف التي تم تكليف هيكل بها، وأثبتت الأيام صدقها، في السيطرة على ما يراه المجلس العسكري "فوضى" إعلامية غير مطلوبة في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ مصر، وهو ما دعاهم إلى استدعاء محرر عسكري سابق ليكون وزيرا للإعلام.
يبدو لي أن فكرة "الفوضى" الإعلامية تخفي تحتها سردا يتخذ منه المجلس العسكري غطاء أخلاقيا يعطي المشروعية لقراراته، التي تأتي كثيرا على خلاف مطالب القوى الثورية، بل ربما ضدها، وأحيانا ضد المنطق. ولنحاول تخيل ما الذي يقوله المجلس العسكري لنفسه مبررا وجود شخص مثل أسامة هيكل بكل ما أتى به من أفعال:
"نحن في فترة عصيبة، والإعلام أصبح ساحة غير "منضبطة" لتضارب الآراء وكذلك للتشكيك في نوايا المجلس العسكري وقراراته، وهو ما يمكن أن يتسبب في "بلبلة" تزيد من حدة السخط، وتقلب "الحقائق". إن ما نقوم به هو "بلا شك" في صالح الوطن حتى إن "لم يفهم" المعترضون الآن. لا يجب أن تقوى الآراء المعارضة لأن هناك "أولوية" تعلو على كل "جعجعات" المنادين بحرية الإعلام والشفافية وحرية الحصول على المعلومات. ثم إنه لا يوجد شيء في الدنيا بلا "ضوابط"
الكلمات بين التنصيص في الفقرة السابقة تحاول أن تحاكي المنطق العسكري في التفكير: منطق يعبر عنه "الضبط" والرؤية الأحادية التي تستند إلى "حقائق نهائية لا شك فيها"، وكذلك "ترتيب الأولويات" طبقا لرؤية صانع القرار طبعا، وتسفيه المخالفين "الجعجاعين" والتعالي عليهم وتأجيلهم دوما هم وآراؤهم لأجل غير مسمى، وهو تحديدا المنطق الذي عانينا منه لستين عاما.
من الواضح أن المجلس العسكري كان بحاجة لرجل حاسم ليقوم بتهدئة الشارع عن طريق الإعلام، وليس عن طريق الحل الجذري لمشكلات الأمن وغياب القانون عبر وزير داخلية قوي يطهر جهاز الشرطة بما يسهم في تغيير عقيدة الشرطة التي تربت عليها في عصر مبارك. جاء المجلس العسكري برجل قوي بمعنى القدرة على توجيه ضربات عنيفة لمن يسمون بالمخالفين أو المناوئين أو عناصر التشكيك، وهم غالبا كل من يعمل على زيادة معامل الشفافية في الإعلام بما يحد من مساحة الغموض التي عشنا تحت وطأتها لعقود طويلة ثقيلة. هكذا جاء أسامة هيكل ذو الوجه المتجهم والمهام المحددة ليكون رجل المجلس القوي الذي لا يتورع عن القيام بأفعال (سواء مباشرة أو بطريق غير مباشر) كانت تعد من الفضائح في عصر حسني مبارك من مثل ما حدث من مهاجمة مكتب قناة الجزيرة مباشر مصر أكثر من مرة، ومصادرة أجهزة بمعزل عن أي قانون، في مشاهد ظنننتها للوهلة الأولى تحدث في سوريا الأسد قبل أن أعرف أنها تدور في مصر ما بعد 25 يناير 2011. تكرر المشهد مع قناة الحرة و25 يناير وقبلها حدث ما لم يكن يحدث أيام مبارك من مصادرة صحف وإجبار أخرى على حذف بعض موضوعاتها.
في يوم (4/10/2011) ظهر المزيد من الأدلة على الدور الذي جاء هيكل ليلعبه حين ظهر خبران في شريط الأنباء على قناة النيل للأخبار، يقول الأول إن "الهيئة العامة للاستثمار وجهت إنذارا لقناة "أون تي في" لمخالفتها شروط مزاولة النشاط، ويقول الثاني: إن الهيئة العامة للاستثمار تنذر قناة دريم لمخالفة أحد برامجها لميثاق الشرف.
ياللهول، أنا لا أكاد أصدق هذه الحالة من الاستخفاف والفجاجة التي تتجاوز ما كان يتمتع به أنس الفقي وزبانيته. من هيئة الاستثمار هذه؟ وما المخالفة الرهيبة التي تستدعي إنذارا لإحدى أكثر القنوات احتراما في مصر الآن (أون تي في)؟ وما ميثاق الشرف هذا؟ من وضعه؟ ومن أعطاه قوة القانون؟ أين ذهب القانون العادي الذي أصر المجلس على تفعيله من أول يوم؟ أين القانون الذي تذرع به القادة العسكريون في ترك رموز نظام مبارك يتدبرون أمورهم ويخفون جرائمهم وأموالهم لشهور؟
لقد عاد الإعلام المصري لأكثر وجوهه قبحا؛ فبعد أن ظهرت مذيعة شابة من حوالي شهرين تتوسل المشاهدين أن يسامحوا التليفزيون المصري على جرائمه أثناء الثورة؛ حين كانت الكاميرات تنقل صور النيل الهادئ في لحظات اغتيال خيرة شباب مصر برصاص الشرطة المصرية، عاد التليفزيون الآن لممارسة ألاعيب الإخفاء والإظهار بأن يسلط الضوء على أخبار بعينها ويمنحها تأويلات إيجابية صريحة أو ضمنية (وهذا ينصب على كل ما يفعله أو يقوله المجلس العسكري). ومن جهة مقابلة ترويض نبرة الاعتراض والتعتيم على أحداث وشخصيات لا تروق لصناع القرار الآن.
لكن ماذا بعد أحداث ماسبيرو في التاسع من أكتوبر 2011، هل سيتمكن الوزير الذي يريد أن يلعب دور الشرطي أن يسيطر على الأحداث بمجرد نفيها كما كان الأمر في عصر مبارك؟ أم تراه سيحاول إغلاق كل قنوات كشف الحقيقة؟ كيف سيدافع هيكل عن لا مهنية جهاز التليفزيون المصري وتحريضه ضد الأقباط؟ كيف سيبرر هيكل وتليفزيونه فشل الإدارة العسكرية في المرور بالبلاد من عنق الزجاجة؟ هل سيتمكن الإعلام المصري الذي عاد لدوره القديم من تزييف الوعي مرة أخرى لصالح السلطة القائمة؟
لا أحسب أن هيكل سيجد صعوبة في توجيه جهاز التليفزيون تحديدا نحو ما تريده السلطة القائمة؛ فالعاملون بالتليفزيون الرسمي معظمهم قد نبتت له قرون استشعار دقيقة على مدار ثلاثين سنة يمكنها التعرف على توجهات السلطة واحتياجاتها دون توجيهات مباشرة من هذه السلطة. فإذا أضفت إلى قرون الاستشعار التي يتمتع بها إعلاميو التليفزيون المصري ضعفا شديدا في الكفاءة أمكننا القول إن صانع البلبلة الأكبر هو الإعلام المصري نفسه ولا أحد سواه. لكن الأمر كله يشبه كوميديا سوداء لا تثير الضحك ولا حتى الأسى؛ إذ تثير الشفقة على أولئك الذين يقفون ضد حركة التاريخ، ويحسبون أن بإمكانهم تكميم الأفواه والسيطرة على تدفق المعلومات وشفافيتها في هذا العصر.
#أيمن_بكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟