|
مالك خازن جهنم ، لماذا لا يتبسم ؟
مثنى حميد مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 3516 - 2011 / 10 / 14 - 01:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بإعتقادي أن الملاك مالك ، حارس النار وخازن جهنم ، هو أكثر الكائنات التي خلقها الله طيبة في النفس وأصالة في الجنان .ولم أكن شخصيا أعي مكانة هذا الكائن اللطيف في نفسي وعقلي الباطن حتى نبهني أحد القراء الكرام بسؤاله لي عن السبب في إستخدامي الرمزي المتكرر لإسم هذا الملاك في أشعاري.لقد سعيت في البحث عن السبب فوجدت أن مالكا يمثل بالنسبة لي عنوانا أو رمزا لاشعوريا لنزاهة النفس وإنسجامها مع ذاتها وصدقها الداخلي فهو من الكائنات الوديعة والنادرة التي خلقها الله والتي قبلت بقدرها الصعب ولا تطلب لنفسها شيئا والتي لعفتها وإستقامتها وحرصها الدائم على نظافة صفحتها البيضاء تُصاب نتيجة لذلك بالحزن الأبدي. ويبدو إننا غالبا ما نتصور مالكا على عكس حقيقته فنذكره كرمز للقسوة والشدة ، نذكره كحارس جلف الطبع غليظ القلب يقف مقطبا عابسا متعجرفا عند بوابة الجحيم مشرفا ومديرا بصرامة لا تعرف الكلل لأفانين وأهوال التعذبب المستمر للمذنبين بنارها الأبدية ونغفل أولا بأول عن محنة الوجود التي وجد هذا الكائن الوديع والصلب في آنٍ واحد نفسه فيها ومن دون إرادته المطلقة.وقبل الإسترسال في الحديث عن الملاك مالك ، وأؤكد هنا مشددا على كلمة ملاك لأسباب ستتضح لاحقا من سياق الكلام ، سأترك القاريء مع إحدى الروايات التي ذكرته في التراث القديم ليطلع عليها ويتأمل في معانيها العميقة : قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله، أنه قال : تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقني ملك إلا ضاحكا مستبشرا، يقول خيرا ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة، فقال مثل ما قالوا، ودعا بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل : يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي كما قالت الملائكة ولم يضحك إلي، ولم أر منه من البشر مثل الذي رأيت منهم ؟ قال : فقال لي جبريل : أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك، لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار. تذكرني هذه الرواية بمشهد تلفزيوني قديم لرجل ظهر في تسعينيات القرن الماضي يهتف لصدام ويدق الأرض بأقدامه ضِعةً وحماسةً زائفة ما أدى إلى إنفراط عقاله فتناول صدام عقال الرجل المنفرط من حول رقبته وعقده ثانية وثبته على رأسه كإشارة منه لتواضعه كقائد ضرورة يتفهم القيم العشائرية التي يمثلها العقال وإذا بالرجل وقد أخذته الحماسة المفتعلة والمنفلتة مأخذا جعله يعيد إفتعال السفاهة ذاتها بتعمده إسقاط عقاله كرة ثانية حول رقبته فأبتسم القائد الضرورة وتناول العقال وعقده وأعاده على رأس الرجل الذي سُلِبَ منه عقله .لنقارن هذا المشهد بمشهد الملائكة وهم يستقبلون محمدا عليه الصلاة والسلام في الاخرة فرحين مستبشرين وقد إنطبعت الإبتسامة على وجوههم كتعبير لا غنى عنه لضيف عزيز يزورهم إلا مالكا فهو لم يبتسم له رغم معرفته بمكانة محمد العظيمة عند الله كخير الكائنات وأقربها لعرشه العظيم .إن مثل هذا الموقف المتميز والجريء من لدن مالك لا يمكن مقارنته إلا بالنظر إلى موقف إبليس الشهير حين أبى أن يسجد مع الملائكة لآدم فنال غضب الله ولعنته وأدى إلى حرمانه من نعيمه وخروجه من جنانه إلى يوم الدين هذا بغض النظر عن الفروق اللاهوتية والأخلاقية المتناقضة بين الموقفين.لذلك يحق التساؤل عن السبب الذي منع محمدا من إبداء التذمر أو الشكوى من هذا الإستقبال الذي يفتقد إلى الحرارة المطلوبة من قبل الملاك مالك . إن الرواية أعلاه لا تعكس أي من هذا بل أن مجمل مضمونها يؤكد على تقدير محمد وتفهمه ، ولا نقول إعجابه ، بخصوصية وتميز وفرادة هذا الكائن الذي لم يبتسم له وهو النبي المصطفى والمقرب جدا إلى الله وما يؤكد ذلك إستغرابه الذي دفعه لتوجيه السؤال إلى جبريل مرافقه السياحي والمعرفي في رحلة الإسراء والمعراج فضولا منه لمعرفة هذا الكائن الإستثنائي.من جهة أخرى فإن من الخطأ الإعتقاد أن سبب ذلك له علاقة بحظوة مالك عند الله التي قد تعادل حظوة محمد ومكانته أو تنافسها إلى درجة تجعله لم يهتم أو يبالي بإظهار أي إبتسامة حتى وإ ن كانت من باب الدبلوماسية والمجاملة لمن ينافسه في المكانة عند الله فمثل هذه الإبتسامة كما نعرف ضرورية ولا غنى عنها في السلك الوظيفي والدواويني لكن الملاك مالك مع ذلك ظل بعيدا عن هذه الممارسة البروتوكولية العادية والمألوفة والتي لا تمس بقليل أو كثير أسس المباديء السامية في الدنيا والاخرة .وهنا في إعتقادي يكمن السر أو مربط الفرس في تفسير الشخصية المالكية.إذ من الممكن والصحيح فرضا القول أن شخصية الملاك مالك هي تجسيد للمعادل التناقضي مع إبليس والذي لا يمكن تلمسه أو فهم كنهه دون إجراء هذه المقارنة النظرية الإفتراضية بينهما .فبقدر ما يبتعد إبليس عن الله يقترب منه مالك وبقدر ما ينال الأول غضبه ولعنته ينال الثاني عطفه ورضوانه ، وبقدر ما يقف مالك عند بوابة جهنم وروحه الوديعة ترفرف بأجنحة خضراء في سماء النعيم يقف إبليس بالمقابل في باب جنة الخلد وقلبه يعذب بالحرمان وروحه الشريرة تكوى بألسنة النار الموقودة .إبليس هو مثير الجشع والشراهة واللذة العشوائية والبدائية لحيوان الغاب والتي لا يحدها حد ، كالربح الرأسمالي الذي يرتعب على حد قول ماركس من الفراغ ، ومالك هو الصبور المصابر والشاهد العارف والمقيم الأبدي على الألم الإنساني الذي لا ضفاف له والشقاء الذي لا تحرر منه إلا بخلاص العالم من روح الشر الظلامية المكرسة لإستغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، ولذلك فهو لا يبتسم أما إبليس فهو الضاحك الهازيء لسفاهة العالم وعبثية الوجود التي أنتجها وأسس لها ليعمي بصائر الشعوب المظلومة ويضللها من أن كل شيء يسير بخير وأن القيم العتيدة لرأس المال هي غاية المراد الرباني ، هو الأب الروحي للطاغية المغرور والعبد السفيه المتعاشق معه في تظاهرهما المشترك والكاذب بالإنتماء إلى القيم الرفيعة التي يمثلها العقال. الملاك مالك هو أكثر الملائكة إستحقاقا وتمثلا للملوكية العليا والتاج النوراني الذي توجهه به الله كعقال شرف سماوي ولذلك يمكن القول أنه إسم على مسمى وأن الله لم يكنيه بهذه التسمية جزافا بل لمعرفته أنه الكائن الذي سيحافظ على هذه التسمية الربانية التي من حروفها يتشكل إسم الله نفسه. ولكي لا أتعب القاريء الكريم من طول الرد أختم القول بذكري لبيتين قالهما شاعر شيوعي عميق في إنسانيته وحزنه وطيبة قلبه وثبات عقاله وكأنه الملاك مالك أو أن مالك هو صورة سماوية عليا متوجة بالضوء لهذا الشاعر الكبير الذي أقسم قائلا: لن نضحك ، إذا لم نضحك معا لن نغني ، إذا لم تنتهي دموع العالم.
#مثنى_حميد_مجيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في سرداب أسود تحت البيت الأبيض
-
اللوحة الأخيرة لفان كوخ
-
بتاحْ
-
صورة الشهيد هيثم ناصر الحيدر
-
القذافي وحلف الناتو بعيني نوستراداموس
-
جميلتي أحلى من صلاة التراويح
-
أقوال ومواعظ في جنازة قصيدة ثملة
-
ياصديقي ، في الخراب ... للشاعر السويدي ستَجنيليوس
-
نداء الى أدونيس والمثقفين بخصوص الحداثة والباروريكل بويتري
-
أحجار الكتابة
-
رسالة إلى القاريء بيان عن جرثومة البعث
-
تهنئة للدكتور كاظم حبيب بمناسبة تكريمه من قبل الشعب الكوردي
-
لماذا حشر الجواهري في بيان صفوة المثقفين ؟
-
مسعود البرزاني وأردوان ملكا والصابئة المندائية
-
تراتيل للسلام في كنيسة القديسة كلارا
-
نداء إلى مدعي عام محكمة لاهاي بخصوص وحش السعودية
-
حسناء السويد ووحش السعودية
-
ديالكتيك البكالوريا في زمن فاشي، إلى طلبتي وزملائي المدرسين
-
حبيبتي...أنا نائب في البرلمان
-
تايتانك الإنتخابات في ستوكهولم
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|