|
المعارضة والمقاومة – المفهوم والغاية
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1044 - 2004 / 12 / 11 - 08:53
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
تقول إحدى الحقائق الفلسفية الكبرى، بأن الأمور البديهية حالما تصبح مادة للشك والجدل، فإنها تكف عن أن تكون بديهية. وحينئذ تصبح جميع الأحكام والقيم عرضة للتسخيف والتزييف. وذلك لأنها تعطي لكل عابر سبيل إمكانية القول عن نفسه ما يشاء، كما يمكن للجميع اتهام الجميع بما يحلو لهم. وهي حالة لا يمكنها أن تصنع يقينا ولا التزاما ولا حقا ولا وجوبا. ففي مجال الفكر تصبح صانعة المغالطات (السفسطة) الكبرى والصغرى، وفي مجال الاجتماع أسلوبا للابتزاز، وفي مجال الأخلاق مرتعا للرذيلة، وفي مجال السياسة وعاء حاويا على المغالطة والابتزاز والرذيلة. وهي الحالة التي تمثلها بصورة نموذجية ما يسمى بالمقاومة العراقية الحالية. فهي "مقاومة" تجسد بصورة تامة تاريخ وواقع المغالطات الفكرية والابتزاز الاجتماعي والرذيلة الأخلاقية. فهي تجسد بصورة لا سابق لها في تاريخ العراق أسلوب التشكيك بأكثر الأمور يقينا وجلاء. ولعل من بين اكثر هذه الأمور بالنسبة لمفهوم المقاومة الوطنية "الشريفة" و"النزيهة" وما شابه ذلك من أحكام أن تتصف بالعلنية والوضوح الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. إذ لا شئ يمكنه أن يرهب فعلا الوطني الشريف النزيه! على العكس إن تاريخ المقاومة في كل مكان وزمان يبرهن على ضرورة الكشف الفعلي والعلني عن حقائقها الكبرى في الشعارات والأسماء والأفعال. إذ تفترض الوطنية وتمثيلها في المقاومة إدراك كونها جزء من الوطن والشعب. ومن ثم تمثل وتحقق ما يصبوان إليه. وذلك لان الشعب والوطن هما الحاضنة الفعلية والمؤيد الشامل لجهود كل مقاومة وطنية حقيقة على امتداد التاريخ والجغرافيا. والتشكيك بذلك يعني التشكيك بأشد الأمور جلاء وأكثرها بديهية. ثم انه لا شئ أعلى وأغلى للوطني الشريف النزيه من مواجهة شعبه أولا وقبل كل شئ بما يسعى إليه. غير أن "المقاومة الوطنية العراقية" لا تتصف بأي من هذه الصفات. إذ أننا لم نر غير ملثمين وموشحين بالسواد وحاملي سيوف وسكاكين وأسلحة نارية يتوسطون لافتات كتب عليها عبارات "التوحيد" و"الجماعة" و"أبي بكر الصديق" و"جيش محمد" وبين مختطفين من نساء وسائقي شاحنات يرغمون على التباكي و"الدعوة" بمطالب مختلفة مقابل الحفاظ على حياتهم! بعبارة أخرى، إن المظهر المجهول يعبر عن مظهر جاهل بحقيقة المقاومة، والاختفاء وراء السواد هو إشارة غير واعية إلى حب الظلام والظلمة، والاختباء في الأقبية هو دليل على خوف المواجهة العلنية، وإرغام المختطفين على قول كلمات لا يمكنه أن يصنع سياسة، كما أنه دليل على معارضة ابسط مقومات المنطق والعقل في مواجهة الإشكاليات التي يتعرض لها العراق في ظروفه الحالية. كل ذلك يشير إلى أن "المقاومة العراقية" الآنفة الذكر هي الصيغة النموذجية لمخالفة البديهيات. والبديهيات هي ليست مقولات منطقية وذهنية بل وذات مضامين اجتماعية وسياسية حساسة يتوقف على كيفية فهمها وتحقيقها العملي حل المشاكل الكبرى التي تعاني منها الدولة والمجتمع والثقافة. وهو الأمر الذي يضع مهمة تحديد ماهية المقاومة الحقيقية في صلب ما يمكن دعوته بالبديهية السياسية الكبرى في ظروف العراق الحالية. فالعراق الآن بحاجة إلى كتلة هائلة من البديهيات السياسية. فغياب البديهيات السياسية هو دليل على ضعف أو رخاوة الوعي السياسي. وإذا كان هناك خلافا حادا لحد الآن حول تحديد ماهية المقاومة، فان التعقيد سوف يصبح اشد إثارة فيما يتعلق بمفهوم المعارضة. مع أنه مفاهيم تتلاقى وتقترب من حيث المضمون والغاية. بمعنى أن المعارضة هي المضمون والمقاومة هي أحد أشكالها. ولكن حالما تصبح "المقاومة" هي الكل، فإن ذلك يعني سيادة النزعة الراديكالية أو الغلو والتطرف بمختلف مضامينه. إن إحدى البديهيات السياسية الكبرى الضرورية للعراق المعاصر تقوم في العمل من اجل إرساء أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهي البديهية التي يمكن بل وينبغي وضعها في صلب مضمون المقاومة والمعارضة الحقيقية. وذلك لما فيها من إمكانية واقعية وعقلانية بل وضرورية بالنسبة لتذليل بقايا التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية التي أرجعت العراق إلى مرحلة ما قبل الدولة وأنهكت قواه الاجتماعية والروحية مع ما ترتب على ذلك من تهميش شامل للفرد والمجتمع وخراب اقتصادي وثقافي وانحطاط علمي وتدهور لا مثيل له في التاريخ الحديث. بعبارة أخرى، إن المضمون الحقيقي للمقاومة والمعارضة ينبغي أن يكون منظومة من الأفعال الواقعية والعقلانية لبناء الدولة والشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني. وفي الحقيقة ليس هناك من معيار آخر يمكنه أن يحتوي ويعبر عن مفهوم المقاومة والمعارضة الحقيقية في ظروف العراق الحالية بدون هذه المنظومة الواقعية والعقلانية الهادفة لبناء العراق الجديد. فهو المعيار الفعلي الذي يمكن أن توزن به الأفعال السياسية وغايتها. فهو المعيار الذي الصالح للفعل والحكم وذلك لقيمته الضرورية من اجل تحقيق الحرية والقانون والعدالة والمساواة. كما انه المعيار الذي يكشف بدوره عن طبيعة ومستوى تطور المقاومة والمعارضة. لاسيما وأنها الحالة الضرورية لوجود الأشياء. كما أن قوة المعارضة والمقاومة هو دليل على حيوية الدولة والمجتمع المدني والنظام السياسي. بل يمكننا القول بأنه كلما كانت المعارضة قوية كلما كانت الدولة والنظام السياسي اكثر قوة. وان قوة المعارضة وروح المقاومة والتحدي فيها هو دليل ومؤشر على قوة المجتمع وروحه الأخلاقي. ففي مستوى هذه المواجهة والتحدي والصراع يتجسد مستوى تطور الحرية والشرعية. وهي حالة يشير إليها أيضا واقع العراق البائس في ظروفه الحالية. فهو اشد حيوية وعافية وقوة وديناميكية من أي وقت مضى، وبالأخص على خلفية عهد "الأمان" المميز للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. إذ لم يكن الأمان آنذاك سوى الحالة المشوهة لسيادة "الأمن" وتغلغله في كل مسام الوجود الفردي والاجتماعي. بعبارة أخرى لم يكن الأمان سوى الوجه الآخر للعبودية الشاملة. وهو سبب فقدان المعارضة والتحدي والمواجهة سابقا. ذلك يعني أن كل المعارضة والمقاومة الحقيقية، آي تلك التي تعمل من اجل إرساء أسس منظومة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، بل وحتى التي تتطفل عليها من قوى الإرهاب والغلو الديني والدنيوي هو النتاج الطبيعي والإيجابي لهذا التحول التاريخي الهائل من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. ذلك يعني أننا نقف أمام ضرورة تأسيس وتحقيق عقلاني وواقعي لفكرة المقاومة والمعارضة العراقية، بالشكل الذي يمكنه أن يذلل بقايا التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية واستمرارها الحالي في مختلف التيارات الراديكالية والمتطرفة وسبائكها الجديدة ممن أدعوهم بالغلاة الجدد، وبالأخص سبيكة التيار التيوقراطي الإسلامي وبقايا التوتاليتارية البعثية. وهو تأسيس له مذاقه الخاص في تاريخ المقاومة والمعارضة الفعلية في العراق. وذلك لان تاريخ العراق الحديث في مجمله هو تاريخ الصراع الحاد والدموي بين تيار المقاومة الفعلية والنظم الاستبدادية والدكتاتورية التي لا مثيل لها في العالم العربي الحديث. وهو الأمر الذي أعطى للمقاومة والمعارضة العراقية أشكالا وأبعادا متنوعة جعل حتى أكثرها عقلانية وإنسانية لا يخلو من اللاعقلانية والدموية وذلك بسبب غلبة الرؤية الأيديولوجية واضمحلال تاريخ الدولة الشرعية ومؤسساتها المدنية. وقد شكل الانقلاب العاصف الذي أطاح بالصدامية النهاية الفعلية أيضا لهذا النوع من المقاومة والمعارضة من خلال نقلها للمرة الأولى إلى ميدان ومستوى الصراع السياسي المباشر. بمعنى انتقالها من تقاليد الاحتراب الضيق إلى فضاء الصراع السياسي الضروري بالنسبة لتطور الدولة ومؤسساتها الشرعية. وهو انتقال سوف يطال بالضرورة وان بصورة تدريجية أشكال وأساليب الصراع السياسي وكذلك الأفكار والأيديولوجيات. بمعنى انه سوف يضع جميع القوى السياسية أمام امتحان غاية في الصعوبة والتعقيد. فهي المرة الأولى التي تنتقل فيها المقاومة والمعارضة العريقتين في العراق من الخفاء إلى العلن، ومن الخارج إلى الداخل ومن المؤامرة إلى الشرعية. مما يستلزم بدوره تكسير كل الموازين القديمة في تقييم ومواجهة الإشكاليات الكبرى لبناء الدولة الجديدة ومؤسساتها والمجتمع المدني واقتصاد السوق والديمقراطية الاجتماعية. وهي عملية غاية في التعقيد لأنها تفترض ثورة فعلية كبرى في القيم والمواقف والرؤية والسلوك. أي كل ما يشكل معيار البديل الفعلي بالنسبة للمقاومة والمعارضة العراقية. وهو المعيار الذي يمكنه أن يكشف عن حقيقة ونوعية المقاومة والمعارضة. فالعراق يحتوى في الإطار العام على ثلاثة أنواع كبرى من المعارضة والمقاومة، الأولى وهي مقاومة ومعارضة توتاليتارية، والثانية مقاومة ومعارضة أصولية جديدة والثالثة مقاومة ومعارضة مستقبلية. ذلك يعني إن العراق المعاصر يحتوي على مكوناته السياسية الكبرى القديمة الا انها تعرضت لتغير جوهري من حيث الموقع والقوة. فالمقاومة والمعارضة الأولى والثانية هي من بقايا الزمن التوتاليتاري والدكتاتوري بشقيه الديني والدنيوي أو من خلال توليفهما في سبيكة الغلاة الجدد. أما الثالثة فإنها ممثلة الاحتمالات الكبرى للبدائل العقلانية في العراق بعد أن ينجز، وهو لا محالة ناجز، مرحلة الانتقال من زمن الاستبداد والدكتاتورية إلى تاريخ الشرعية والديمقراطية. فالمقاومة والمعارضة الممثلة لتقاليد التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية بلا آفاق ومستقبل. انها الممثل النموذجي للماضي واللاشرعية ونفسية المؤامرة وتقاليد الجريمة المنظمة والعقائدية المتحيونة. ومن ثم لا تعني مقاومتها ومعارضتها من الناحية التاريخية سوى العمل ضد فكرة الدولة الشرعية ونظام المؤسسات والديمقراطية الاجتماعية. من هنا رجوعها إلى قيم ما قبل الدولة والتاريخ الفعلي للمعاصرة. وهو الأمر الذي يجعلها تتكلم بمنطق الطائفية والجهوية والمصالح الضيقة واستعمال أساليب العنف والإكراه والغدر والخديعة. بعبارة أخرى إن هذه المقاومة والمعارضة التوتاليتارية تتمثل في وسائلها وغاياتها تقاليد الخروج على منطق الدولة والشرعية والديمقراطية. وهو الأمر الذي يجعل منها معارضة ومقاومة للمصالح الجوهرية للعراق وآفاق تطوره الطبيعي. ومن ثم يخرجها عن حقيقة العلاقة بالعراق. كل ذلك يفترض التعامل معها حسب قواعد القانون في تعامله مع القوى الخارجة على الدولة والشرعية والحق. لاسيما وأنها مقاومة ومعارضة موجهة من حيث الجوهر ضد القانون والشرع. من هنا فإن التعامل معها ينبغي أن يكون بمنطق عدمها خير من وجودها. من هنا خطورة وخطأ الفكرة القائلة بإمكانية الحوار معها. فهي قوة تتمثل وتمثل ما يمكن دعوته بتقاليد السفيانية، التي شكلت من الناحية التاريخية أحد عوامل سقوط الإسلام. أما هذا الصنف من المقاومة والمعارضة التوتاليتارية العراقية فهي ليست سفيانية فقط بل ومروانية أيضا. إضافة إلى ذلك لا معنى للحوار معها بأي شكل كان من الأشكال، انطلاقا من عقم وعدم جدوى فكرة الحوار في مرحلة تأسيس الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية، ومن الاستبداد إلى الشرعية. فالجميع تتمتع بحق النشاط والعمل ضمن حدود الشرعية المكفولة للجميع. وبالتالي فإن الحوار الخاص مع أي طرف يتضمن دلالة الاستثناء لجهة على أخرى. بينما الحوار الممكن ولضروري هنا هو فقط الحوار مع النفس ومع المجتمع من خلال الرجوع إليه وكسبه إلى صندوق الاقتراع . إذ لا يؤدي الحوار. إن طلب الحوار والجلوس على طاولة المفاوضات من اجل تقاسم السلطة أو الحصول على أماكن وثيرة أو إنجازات زهيدة هي من بقايا النفسية التقليدية، أي من بقايا ما قبل الدولة الشرعية. وذلك لأنها تستبدل العمل "السياسي" بالعمل الاجتماعي، أي انها عوضا عن الرجوع إلى المجتمع تهرب إلى السلطة من اجل الدفاع عن مصالحها الخاصة. وهي مصالح لا علاقة لها من حيث الجوهر بالمجتمع كما انها مصالح غير شرعية. ثم أن السماح بهذا النوع من "الحوار" و"المصالحة" يجري دون تزكية اجتماعية مبنية على إدراك حجم القوى السياسية، التي لا مقياس واقعي ودقيق له غير صناديق الاقتراع. وبالتالي فان "الانفراد" بأي قوة "للحوار" معها لا يعني في الواقع سوى استعادة وتعميق وترسيخ نفسية المؤامرة والمغامرة عند القوى السياسية. إذ لا يعني هذا النوع من "الحوار" سوى الصيغة "السياسية" لنفسية اقتسام الغنيمة. فهي النفسية التي تعودت على "الصعود" إلى هرم السلطة دون الحصول على تزكية اجتماعية وسياسية علنية. بعبارة أخرى انها نفسية القوى التي تعودت على مخاطبة السلطة والبحث معها عن موقع أو مركز أو سلطة خارج قواعد اللعبة السياسية التي يحددها القانون وأصوات الناخبين الحرة. ولعل تاريخ العراق الحديث خصوصا في فترة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هو نموذج كلاسيكي لكشف مدى خطورة وانحطاط هذا النوع من الممارسة "السياسية" التي تجعل السياسة مجرد وسيلة لا أخلاقية لمصالح ارذل. وهي مصالح سرعان ما تسحق المشتركين فيها بطريقة لا يحسد عليها من حصل عليها! وإذا كان هذا الأمر جليا في "حوار" السلطة الدكتاتورية مع القوى "الأخرى" في بداية السبعينيات التي توجت بالاتفاق على "اتفاق 11 آذار" و"الحكم الذاتي" مع القوى القومية الكردية و"ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" مع الشيوعيين، بمعنى نهايته المنطقية في مجازر متتالية لفكرة الحوار والوطنية والشرعية، فان التاريخ المعاصر لا يمكنه أن يتجنب هذه النتيجة في حال خوضها. وذلك لان آلية فعلها واحدة، الا وهي "الاتفاق" حول قواعد للعبة والعمل السياسي لا علاقة لها بالسياسة الشرعية. انها علاقة أطراف خارج سيطرة القانون والمجتمع. كل ذلك يبرهن على أن القاسم المشترك بين القوى السياسية في "حوارها" الممكن لا ينبغي أن يجري فيما بينها هي، بل بينها وبين المجتمع. وذلك لان أي "حوار" من هذا القبيل هو أما مغامرة أو مؤامرة يجري الاتفاق على بنودها خارج المجتمع والقانون والشرعية. بينما لا أسلوب حقيقي في بناء الحوار الفعلي في المجتمع سوى أسلوب الحوار مع النفس من خلال الرجوع إلى المجتمع. انها مهمة تاريخية من اجل تفعيل دور المجتمع وليس السلطة. والشيء نفسه ينطبق على الصنف الثاني من المقاومة والمعارضة، أي صنف الأصولية الجديدة. إذ ليست هذه المقاومة والمعارضة سوى الصيغة الأكثر تطرفا للراديكالية الإسلامية. وبهذا المعنى يمكن النظر إليها بوصفها الوجه الآخر للمقاومة والمعارضة التوتاليتارية. كما انها المكمل الأكثر تخريبا للأولى بفعل استغلالها فكرة "المقدس" والعبارة الدينية. من هنا يمكننا اعتبارها الصيغة الأكثر خطورة وتخريبا من المقاومة والمعارضة التوتاليتارية وذلك بسبب فشلها الذريع وضرورة اندثارها التاريخي المجمع عليه في أوساط الحركات السياسية والمجتمع. أما التيار الأصولي الجديد، فانه ما زال يتمتع بقدر من التأييد النفسي للقوى الرثة والدعم الخارجي العربي والإسلامي المتخلف. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون الفكر السياسي والاجتماعي العربي والإسلامي عموما يتصف بنزوع توتاليتاري ويفتقد في اغلبه إلى مصادر ومقومات الرؤية الواقعية والعقلانية، من هنا إمكانية استمداده النسبي لتأييد العوام. فالعوام هي الصفة السائدة في الواقع العراقي بسبب اندثار الطبقات والفئات المتمايزة في مجرى التخريب المنظم والشامل للبنية الاجتماعية في مرحلة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهو الأمر الذي نعثر عليه في التقارب التام والتمازج شبه الشامل في الوسائل والغايات بين المقاومة والمعارضة التوتاليتارية والأصولية الجديدة، التي صنعت في ظروف العراق الحالية نموذجا متميزا ادعوه بسبيكة الغلاة الجدد. وهي سبيكة صلدة للغاية، من هنا قدرتها الكبيرة على التخريب وابتعادها المطلق عن منطق الحرية والديمقراطية والشرعية. وفي هذا نكمن الضمانة المطلقة لتفتتها السريع واندثارها التام. فالتجربة العراقية للتوتاليتارية والإرهاب الشامل لم تعد مقبول للأغلبية المطلقة. مما يجعل من هذين الصنفين من المقاومة والمعارضة بلا تاريخ ولا آفاق ولا مستقبل. كل ذلك يجعل من الضروري بلورة رؤية جديدة للمقاومة والمعارضة، أي رؤية جديدة للبدائل التي ترافق عملية الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. ولا يمكن لهذه الرؤية أن تكون شيئا غير الفلسفة القادرة على تأسيس حقيقة المقاومة والمعارضة بوصفها منظومة من الأفعال الواقعية والعقلانية لبناء الدولة والشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني. مما يفترض بدوره بلورة الرؤية العامة عن الفكرة الوطنية. فالعراق ليس بحاجة إلى حوار وطني أو مصالحة وطنية، بقدر ما هو بحاجة إلى فلسفة وطنية عامة قادرة على استقطاب الجهود المختلفة والمتباينة والمتصارعة من اجل إيجاد افضل السبل لتحقيق الحوار والمصالحة مع المجتمع أولا وقبل كل شئ. وهي الفلسفة التي أطلق عليها تسمية الاستعراق، أي تلك التي تنظر إلى العراق على انه عراق وليس تجمع أعراق، وانه هوية ثقافية سياسية، وانه غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافدينية العربية الإسلامية، وأن العربية الإسلامية هي جوهر ثقافي، وأن الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية هي الاستعراق، وان الاستعراق هو الحد الأقصى للقومية في العراق، كما أن الاستعراق هو البيت الذي تتعايش فيه جميع القوميات في العراق بصورة متساوية ومنسجمة، وان الاستعراق ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية الذاتية له، وأن الخروج على الاستعراق هو رجوع إلى العرقية، ومن ثم فهو خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية، وأخيرا أن الخروج على الاستعراق هو خروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، ومن ثم فهو خروج على القانون أيضا. وهي مبادئ كبرى يمكن تمثلها بطرق ومستويات متباينة ومختلفة، الا أن ما يوحد فاعليتها بالنسبة لفكرة المقاومة والمعارضة بالمعنى المشار إليه آنفا يقوم في استعدادها لتحقيق حقيقة الحوار والمصالحة بوصفهما حوارا ومصالحة مع النفس. مما يفترض بدوره استنادهما إلى معايير ومقاييس المبادئ الشرعية والقيم الديمقراطية وقواعد المجتمع المدني. حينذاك تصبح حقيقة المقاومة والمعارضة كل ما ينبغي أن يعمل من اجل ترسيخ الشرعية والحق والقانون. وهي رؤية تفترض بدورها السلوك الحاسم والضارب بشدة، ولكن بقوة القانون، ضد كل مقاومة ومعارضة تنتهك قيم الحق والشرعية. وهي رؤية تضعها بالضرورة على طرفي نقيض مع أصناف المقاومة والمعارضة التوتاليتارية والأصولية الجديدة. لاسيما وانه التناقض الجوهري الذي يفصل العراق بين زمن همجي (استبدادي أصولي) وتاريخ مدني (شرعي وديمقراطي)، وبين مستقبلين، أحدهما مصيره الهاوية والثاني هو مستقبل البدائل والاحتمالات المتنوعة بوصفه الشرط الضروري لتحقيق الحرية والعدالة.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإرهاب والمخاض التاريخي للحرية في العراق
-
المهمة التاريخية للمثقف العراقي
-
علماء السوء – التدين المفتعل والسياسة المغامرة
-
تأجيل الانتخابات ونفسية المصلحة السياسية
-
معارك المدن العراقية - الأبعاد الوطنية والاجتماعية
-
تأجيل الانتخابات أم تأصيل المغامرات
-
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل
-
أدب التصوف
-
اسلام الشرق و الشرق الاسلامي
المزيد.....
-
بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
-
بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف
-
-وسط حصار خانق-.. مدير مستشفى -كمال عدوان- يطلق نداء استغاثة
...
-
رسائل روسية.. أوروبا في مرمى صاروخ - أوريشنيك-
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 80 صاورخا على المناطق الشم
...
-
مروحية تنقذ رجلا عالقا على حافة جرف في سان فرانسيسكو
-
أردوغان: أزمة أوكرانيا كشفت أهمية الطاقة
-
تظاهرة مليونية بصنعاء دعما لغزة ولبنان
-
-بينها اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة والصاروخية -..-حزب ال
...
-
بريطانيا.. تحذير من دخول مواجهة مع روسيا
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|