|
كيف انفجر مرجل الإرهاب في مصر؟ وكيف انتشر لبقية العالم؟
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 3511 - 2011 / 10 / 9 - 11:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنفجار المَرْجَـلْ في مصـر لم ينفجر المرجل فجأة، فقد سبق انفجاره مقدمات موضوعية، وهيأت له إرهاصات فكرية، أدت في نهاية المطاف إلى حرف بوصلة مصر الفكرية والثقافية باتجاه صاعق الانفجار، بدأت هذه الإرهاصات تتشكل في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرت وتراكمت حتى نهاية القرن، وفي هذا الصدد يقول المفكر المصري طارق حجي : عندما كانت قِبلة مصر المعرفية والثقافية باتجاه الشمال والغرب، كان أعلامها وروّادها من نوعية أحمد لطفي السيد، وعبدالعزيز فهمي، وطه حسين، وعباس العقاد، وإبراهيم عبدالقادر المازني، وسلامة موسي، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس ... وعندما تحولت قبلتها المعرفية والثقافية وأصبحت صوب الشرق، أي باتجاه السعودية وما تمثله من فكر وهّابي منغلق، صار أعلامها ومنظّريها من أمثال حسن البنا، محمد عمارة، وسليم العوا، والشيخ حسان، والشيخ كشك، وعمر عبد الرحمن .... وهو "تطور" عكسي، كانت نتائجه تأثر الثقافة المصرية التقدمية والليبرالية المنفتحة على آفاق الإنسنة بثقافة رجعية متزمتة تؤمن بالعنف، لها مفرداتها وخطابها المختلف كليا. ويمكن القول أن التطور الأبرز والأكثر أهمية في فكر الجماعات الأصولية - حسب رأي محمد محفوظ في كتابه الذين ظُلموا - تمثّل في فكر الراحل سيد قطب، من خلال كتابيه الشهيرين: معالم في الطريق وجاهلية القرن العشرين، اللذين سيغيّران من البنية الفكرية للحركة الإسلامية برمتها، فقد صاغ "قطب" هذين الكتابين وهو على فراش مرضه في سجن "ليمان طره" وقد تقمصته عقلية الشهيد الذي ينتظر نهايته، ولا يملك تغييرها، فأصبح يستعجل إنجاز مهمته قبل أن تنقضي أيامه ويفوت الأوان، فنادى بضرورة إسقاط النظام، وإقامة يوتوبيا الخلافة على أنقاضها، ووصف المجتمع بالجاهلي، رفَضَ كل أشكال الحكم الأرضية، لأن الحاكمية لله فقط . تتسلل كتبه خارج الزنزانة ويلتقطها شباب طحنتهم ظروف بالغة القسوة وأرهقهم البحث عن أجوبة سهلة لأسئلة صعبة ما فتئت تحثهم وتدفعهم للخروج على الوضع الراهن بأسرع ما يمكن، شبان خبروا العشوائيات والأزمات الخانقة والقمع السلطوي والفقر والبطالة والقهر الاجتماعي وما إلى ذلك من بيئة مجافية لا تورث إلا العنف والحدة، ومن تربة لا تنبت إلا التطرف والحقد على كل شيء. وعن هذا الموضوع يعلق محمد محفوظ قائلا: "وفي ذروة التحولات الاجتماعية السياسية يأتي الرئيس المؤمن أنور السادات كبهلوان يتوهم أنه قادر على الإمساك بكل الخيوط، فيطلق العنان للإسلاميين، ويحررهم من السجون، ويدعمهم، بل ويفتح لهم معسكرات التدريب ظنا منه أنه سيلعب بهم داخل الجامعات، وسيكنس بهم مخلفات العهد الناصري وبقايا الماركسيين " .. وفي النهاية انقلب السحر على الساحر، وانتهى المشهد المأساوي بحادثة المنصة. وطوال عهده الذي تجاوز العقد بعام واحد، ترعرت الحركات الإسلاموية وفقصت من بيوض الأخوان تنظيمات وتشكيلات عدة، وتخرّج مشايخ وخطباء، أجادوا تماما صناعة الكلمة وتسويق الأشرطة بملايين النسخ، وامتلأت الأرصفة بكتب سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وخطب الشيخ كشك وعمر عبد الرحمن والقرضاوي وغيرهم، ممن دخلوا سباقا محموما في الاستحواذ على عقول وأفئدة الشبان، ثم تمكنت الجماعات الاسلامية من السيطرة على الجامعات، وخرجت الأمور عن سيطرة النظام ودخلت البلاد مرحلة اللاعودة. بعض المتدينين الذين عجنهم الفقر في ما اعتبروه "المجتمع الجاهلي" أرادوا أن ينبذوا هذا المجتمع في ضمائرهم ويمارسوا التقية انتظارا للفرج، ولكن آخرين رفضوا هذا المبدأ السلبي، وشرعوا بممارسة المفاصلة الكاملة مع المجتمع، فهجروا مجتمع الكفر - أسوة بالرسول الذي هجر مكة - ولكنهم أقامو يثربهم على تخوم المجتمع وناصبوه العداء .. كان شكري مصطفى مؤسس جماعة التكفير والهجرة هو نتاج مجتمع قريته في الصعيد التي أدمنت الخروج على القانون وامتهنت التهريب، وكانت أفكاره استمرارا لنهج المطاريد المعشعش في رأسه، ولكن هذه المرة بثوب إسلامي. ويضيف محفوظ قائلاً: "عاد الإسلاميون للسجون والمعتقلات مرة ثانية، حيث هناك يطفو الرعب البدائي من السجان، وحيث ظروف القهر والتنكيل تجعل السجين يحس نفسه كفأر في مصيدة، وأحياناً يتأجج الكُرْه في دواخل البعض حتى يصبح الهواء مشبعا به وينقل عدواه للآخرين، وقد يفقد السجين هنا إنسانيته إذا ما فقد اتزانه فتبدأ غرائزه بتحريكه .. في هذه السجون وُلدت أفكار التعصب والحقد على المجتمع، ونشأت مفاهيم التكفير، ووُلدت التنظيمات التي لا تؤمن إلا بالعنف كتنظيم الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية وغيرها" . في هذه الفترة المفصلية من تاريخ مصر والحركات الإسلامية شهدت البلاد أحداثا جسام وتغيرات جذرية ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة ككل، كان لها أثرا هاما على تطور الفكر الجهادي للحركات الإسلامية، حيث دخلت مصطلحات ومفاهيم جديدة من نوع: الولاء والبراء، التتريس، الخروج على الحاكم، قتل المرتد، إلزام أهل الذمة "المسيحيين" بدفع الجزية، تحريم السياحة، نبذ المجتمع الجاهلي، إلزام النساء بارتداء النقاب، تطبيق الشريعة، الحاكمية لله، دار الإسلام ودار الكفر .... هذه المفاهيم باتت عماد الأيديولوجيا الجديدة ومحور خطابها الإعلامي وبرنامجها العملي، وهي وإن كانت موجودة أصلاً في التراث الإصولي الإسلامي إلا أن إعادة إحيائها على يد فقهاء الحركات الجهادية مسألة تندرج في إطار تسييس الدين، وتوظيفه لأهداف سياسية حزبية. داخلياً أدت سياسة الانفتاح إلى إزدياد الهوة بين طبقات الشعب وتعميق الظلم الاجتماعي، وانتشر الفساد في مؤسسات الحكم، وتحولت المساجد إلى بؤر توتر ومراكز تصدير لأفكار التعصب والغلو، بينما هبط مستوى العديد من الجامعات وتراجع دورها الحضاري، ويشرح "محفوظ" حيثيات هذا الوضع قائلاً: "فمدرجات الطلبة التي تتسع إلى بضعة مئات على أكثر تقدير صارت تُحشر فيها الآلاف من الطلبة الذين بالكاد يرون استاذهم أو يسمعون ما يقوله، والمختبرات تكدست فوق طاقتها الإستيعابية، وهاجر الكثير من الأساتذة المميزون، وأصبحت الجامعات مكانا مكتظا لا يختلف عن وسط البلد يتجمع فيه الشباب ومعهم شقاؤهم ورعبهم من المستقبل بينما أعداد الخريجين تفوق كثيرا حاجة البلد ضمن توزيع غير متوازن، وكانت النتيجة مزيدا من الشبان ينخرطون في التنظيمات الجهادية وهجرة الكفاءات للخارج حيث أن الدولة لجأت للحل الأسهل وهو المزيد من البطالة المقنعة". وخارجيا كانت نهاية حقبة السبعينيات مفصلا هاما في تاريخ تطور الحركات الأصولية، وبدءَ ما سُمي بالصحوة الإسلامية التي تأثرت إلى جانب العوامل الداخلية السابقة بحدثين هامين: إنتصار الثورة الخمينية في إيران، وبدء الحرب الأفغانية بدعوى الجهاد ضد الشيوعية والكفر .. ومما لا شك فيه أن هذين الحدثين كان لهما صدى واسع في كل البلاد العربية، وقد أرادت الجماهير العربية من إيران أن تسد الفراغ السياسي الذي تركته مصر الخارجة عن الصف العربي بعد توقيعها كامب ديفيد، وأن تشكل البديل الإسلامي لفشل الخيار القومي ووصوله حائط التجزئة ، أما الحرب الأفغانية فقد رأى فيها الشباب العربي النموذج الجهادي الذي يحلم به كل من يتوق للجنّة أو من أراد صب جام غضبه على معسكر الكفر. في الجزائر أدت خيبة أمل الجماهير العريضة في أداء جبهة التحرير الوطني التي تفردت بحكم البلاد ثلاثة عقود متتالية، وما لمسوه منها من فساد وقمع للحريات طوال فترة حكمها، وهي التي تُوجت بأزمة اقتصادية خانقة، أدى ذلك كله إلى بروز تيار ديني يبشر الناس بالحل ويطرح نفسه بديلا إقصائيا لكل ما هو موجود، وتتشابه نفس العوامل والنتائج إلى حد كبير في كل من تونس والمغرب. في حقبة التسعينات هُزم العراق، وانقسمت البلاد العربية على نفسها وتفكك الاتحاد السوفياتي، وأطلت الفتنة برأسها في الجزائر، وانتهت الحرب الأفغانية، وبرز الطالبان وتنظيم القاعدة ودخلت البلاد والعباد في المرحلة الأمريكية، ومعها دخل العالم ما عُرف بحقبة الحرب على الإرهاب. وفي هذا المجال يجد الكاتب محمد جمال باروت في "يثرب الجديدة"، أن هنالك ثمة فرق مهم بين الحركات الأصولية الإخوانية وبين الحركات الجهادية ، بل ويرى ثمة فرق واضح بين تيارات داخل التنظيم الواحد تجاه العديد من القضايا كتكفير المجتمع أو تكفير النظام، وهل الغاية دولة إسلامية أم دولة دينية ؟ وهل الحاكمية لله أم للجماعة المسلمة ؟ وهل يستمد الخليفة سلطانه من الله أم من الشعب ؟ وللدلاة على هذه الفروقات يقارن بين أطروحات مصطفى السباعي الأخواني الإشتراكي وبين "جند الله" لسعيد حوى الأخواني المتشدد، وكلاهما سوريان، وبين مذكرات الدعوة والداعية المنفتحة المرنة لحسن البنا نفسه، وبين مشكلات الدعوة والداعية للأخواني المتشدد فتحي يكن، وهذه كلها داخل تنظيم الأخوان، وإذا ما انتقلنا إلى مستوى آخر من المقارنة سنجد البون شديد الاتساع، كما هو بين "دعاة لا قضاة" للهضيبي وبين "توسمات" شكري مصطفى أمير التكفير والهجرة، ويصل التناقض إلى مداه الأقصى في "الحصاد المر" للظواهري الذي ينتقد فيه الإخوان ويهاجمهم بمنتهى القسوة التي تصل لدرجة التخوين ! ويرى "باروت" أن رشيد رضا هو الأب النظري للخطاب الأخواني، بينما أبا الأعلى المودودي هو الأب النظري للخطاب الجهادي، ونظريته الثيوقراطية للدولة الدينية التي تتخطى نظرية تطبيق الشريعة الإخوانية. إذاً، لاحظنا من خلال هذا التحليل السسيولوجي كيف نمى وتشكل هذا التراث الأصولي، وكيف كانت أفكار إبن تيمية التي ورثها بن عبد الوهاب ثم حملها المودودي وسيد قطب هي الحاضنة الفكرية التي نمت فيها أفكار التطرف والغلو وتكفير الآخرين، والتي صارت أساس بنية الحركات الجهادية فيما بعد، بدءً من التكفير والهجرة والجهاد الإسلامي حتى تنظيم القاعدة، وكان للإخوان المسلمين الدور الخفي والداعم والحاضن لكل تلك الأفكار. فالإخوان المسلمين إذاً - وهم أول وأكبر وأهم جماعة إسلامية في العالمين العربي والإسلامي - ليسوا مجرد تنظيم سياسى بقدر ما هم ثقافة دينية وأيديولوجيا يجرى اعداد المجتمع على مهل للايمان بها وللتضحية فى سبيلها باسم الاسلام، وبهذه الأيديولوجيا وهذه الرؤيه الدينية يتم تقسيم الوطن والعالم كله إلى معسكرين معسكر الاسلام ومعسكر الكفر، وتقوم فلسفة الحاكمية لله وتكفير المجتمع وضرورة الجهاد لإقامة الدولة الإسلامية، وبالتالي فإن الخطاب الإخواني والإسلاموي عامة لن يحمل في طياته مفاهيم العفو والصلح والمسالمة بل سينادي بالعنف وحمل السلاح والقتال في سبيل الله .. وهذه الأفكار يسهل تسويقها في ظل تربية دينية للفرد تصل به الى حد إلغاء عقله واخضاعه للسمع والطاعة بدون مناقشة.
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإخوان المسلمون العباءة التي خرجت منها التنظيمات الأصولية
-
الحرب المزعومة على الإرهاب
-
حديث في العنف والإرهاب والتطرف
-
الخطاب المغلق - من أنماط التفكير لدى العقل السياسي العربي
-
المجتمعات العربية في عيون الآخرين
-
ما المميز في خطوة أبو مازن وخطابه في الأمم المتحدة ؟!
-
هل تسهم مدارسنا في تكريس التخلف ؟؟ الرياضة والفن والموسيقا م
...
-
نماذج من القهر الاجتماعي - النساء والأطفال ضحايا تخلفنا
-
الأب البطريرك - جرائم تربوية بحق أطفالنا
-
جرائم تربوية بحق الأطفال
-
وأد البنات بالزواج المبكر
-
المرأة المستلبة في المجتمع العربي
-
المرأة بين العصر الجاهلي والعصر الإسلامي
-
جرائم متسربلة برداء الشرف
-
الكبت الجنسي
-
مفهوم الشرف في الثقافة العربية
-
الاحتباس الحراري ظاهرة خطيرة تهدد مصير الكوكب - وجهات نظر مت
...
-
ملاحظات على هامش تقرير التنمية البشرية العربية
-
تركيا تضع الهوية الأوروربية على المحك
-
رغم حملات الإدانة والإستنكار - إسرائيل تفلت من العقاب الدولي
...
المزيد.....
-
كلمة مرتقبة لقائد الثورة الاسلامية بذكرى تأسيس منظمة تعبئة ا
...
-
كلمة مرتقبة لقائد الثورة الاسلامية آية الله السيد خامنئي بمن
...
-
إيران تنفي التورط بمقتل حاخام يهودي في الإمارات
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|