مشرق المنصور
الحوار المتمدن-العدد: 3507 - 2011 / 10 / 5 - 00:25
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
يُفترض أن يكون عذبا... هكذا سمعنا عن الحب دائما !! لماذا اذا صار اجاج ؟
نعم .. عندما تختلط ايام صغري بكلمات التحقير من امي , يكون كذلك ... و عندما تتورد وجنتاي الطريتان من اثر صفعات والدي... يكون الحب كذلك ... و حينها تكبر اشياء عندي و تصغر اشياء اخرى . !!
فيستحيل كياني الى ركام من الطفولة و الشيخوخة !!... لقد هجرت من موطني ... من طفولتي ..باكرا .. باكرا جدا , ولما اقضي وطري منها على عجل .
احاسيس الطفل عندي مبعثرة هنا و هناك , و مرارة العيش عند المجرمين و الهاربين .. استوطنت روحي !! كل ذلك لأجل ماذا ؟؟ ... لأجل المدرسة .
و الان و بعد ان صار عمري اربعون عاما تقريبا ادعوكم للحديث بعيدا عن اسماع اولادنا , لكي لا تتكرر الجريمة معهم من جديد .
المشكلة ببساطة هي ان الاهل يريدون ان يكون ولدهم ناجح و متميز , فأن هذا ممتع لهم اولا , و مفيد لمستقبل ولدهم ثانيا , و لا جل ذلك يستعملون شتى الطرق لتحقيق هذا الامر , و لكن قد تتحول هذه الرغبة الى انانية وحشية و حرب ضروس مع ولدهم التلميذ .
ففي الوقت الذي يسعون فيه لجعل ولدهم تلميذا متفوقا , هم يحرفون و يشوهون طبيعته النفسية تجاه المدرسة التي يفترض ان تكون كباقي امور الحياة الاخرى , و السبب هو انه لم يتفهموا سبب قلة رغبته في المدرسة , ان موقفا واحد مؤلم او مخجل او مخيف في اول ايام الحياة المدرسية , كفيل بان يجعل من المدرسة و الدراسة عالم من العذاب , بل جحيم لا يطاق , و طبعا ان كان التلميذ يراها هكذا فلا ننتظر ان يقفز بعصا الزانة و يتخطى هذه الحفرة لوحده , و النتيجة هي مستوى متدني وفشل يتبعه فشل طيلة مراحل الدراسة .
ردة فعل الاهل تجاه هذا المستوى المتدني لولدهم هي ... التصرفات البطولية ! كيف ؟
الان صار الحديث ذو شجون .
المشهد الاول ... يعود الولد من المدرسة بعد نهاية الدوام الى بيت اهله , بخطوات بطيئة لعله يكسب بعض الوقت ليلتقط حبات السلام الصغيرة الموجودة في الدقائق الممتدة من باب المدرسة الى باب الدار .
المشهد الثاني... يدخل الولد الذي يعلم ان اهله ينظرون اليه انه فاشل دونا عن كل اولاد الجيران و الاقارب , لانهم عادة ما يعيرونه بالمتميزين منهم , هنا تلتقي النظرات المستهزئة الجريئة للأهل مع النظرات المرتجفة مع رجفة الخد و الشفة العليا قليلا و فم صغير جاف , هذا اول الغيث , ثم يمن عليه احدهم بإعطائه وقت لتناول الطعام , يأكل بصمت , و يكثر من شرب الماء بين اللقيمات ليدفعها , فأنه لا يجرء ان يمضغ طعامه جيدا ! خشية ان يثير غضبهم في انه ولد طبيعي و يتمتع بحقوقه البشرية في المضغ ! حيث ان هذا الامتياز لا يمنح الا للولد المتفوق فقط !
لعل القارئ يستغرب من هذا التفصيل و لكن الموضوع منقول... ليس من موقع او منتدى اخر ! بل من النقش الذي لازال على قلبي و في ذاكرتي منذ الصغر !! فلا تلمني .
و الان و بعد ان امتلأت معدته بالطعام ( الهنيء ) يأخذ افراد الاسرة بتشكيل طابور الخطباء الابطال المتمرسين في التعنيف و التحقير و التهديد و احيانا صفعات حنونه تتورد منها خدوده الطرية البعيدة جدا عن وجود شعر الذقن فيها .
المشهد الثالث ... يبدأ التحقيق و يتفحص دفاتره احد اخوته الكبار , وقد جلس الوالدان لتقرير الحصة الموجعة من الكلمات المعروفة , و تتزايد نبضات القلب الصغير بينهم , صغير و خائف كأنه قلب عصفور علق داخل احد غرف منزلنا , فترتجف حتى لا تكاد تفهم كلمات جوابه عن سبب نتيجة الاملاء 3من10... اول ما يقرع اسماعه كلمة مألوفة لديه(أمٌدآك) بتشديد الميم جيدا !! كي لا تفلت من ذاكرته لاحقا , و تنتقل خطب ( الرزاله ) من فرد الى اخر حتى تتحول الى حفل على شرف ضياع مستقبل الولد الصغير الذي لا يعي معنى و قيمة الشهادة الدراسية و المستقبل .
المشهد الرابع ... بعد اليوم الحافل الذي يشبه الايام التي قبله , تتوارد الخواطر الكبيرة على قلبه الصغير , محاول ان يجد منفذا للخلاص من العذاب و التوتر اليومي , الذي سلبه متعة اللعب بالدمية الوحيدة لديه و المحرمة عليه , التي صار يناغيها بنظراته من بعيد , ممني نفسه بقضاء وقت جميل و طويل عند حلول العطلة الصيفية , هذا ان لم تكن النتيجة مكملا في احد الدروس , فحينها يعلم انه قد ضاع عام كامل بين الاشواك .
و تشتد المشاكل و تكبر , و تندثر الطفولة حتى انه قرر ان يهاجر على صغر سنه , هاربا من المدرسة و الاسرة , و لقد قام بذلك فعلاً ! قام بذلك حين اشتد عظمه قليلاً و بالتحديد في نهاية المرحلة الابتدائية , و كان الحال هو أن المدرسة عندما قررت اقامة اجتماع الاباء و المعلمين ( الروتيني ) امرت الطلاب ان يبلغوا ابائهم للحضور غدا , و كذلك توعدت بالعقاب الشديد لمن لا يُحضر ولي امره ! ... الان ما الحل ؟ هكذا كان صديقنا يضرب اخماسا في اسداس ... طول الليل , فأن حضر والده الاجتماع ... فسيكون يومه في البيت حافلاً , و إن لم يحضر ... فسيهان و يضرب امام التلاميذ ... على رقعة التربية و التعليم بين مربعات الحب الاجاج من الاهل و مربعات الارهاب من المدرسة ( كش ملك .. كش ملك .. مات الملك ) .
عند الصباح مد يده الصغيرة ببرود الى قبضة حقيبته و خرج , متجها صوب المدرسة , توقف عند منتصف الطريق , نظر يمينا و شمالا و اذا ببركة ماء راكدة , توقف على جرفها بصمت , و هنا انفجر و لكن ليس بالبكاء , بل بحسرةٍ شديدة الحرارة و ربما دمعت عيناه و سالت قطرة واحدة فقط , ثم رمى بحقيبته الى وسط البركة , و هرب صوب الطريق الزراعي , فرحا بأحضان التشرد الدافئة التي فيها الخلاص من الجحيم المستمر , ركض طويلا, و عند انتصاف النهار, وصلت به اقدامه الى نهر, جلس عنده , لكنه هذه المرة , بكى بكاء شديد , فأنه لا زال صغيرا , و للأسف حن الى امه و ابيه رغم الاوقات المريرة معهم , ثم عاد ادراجه فوصل قبيل غروب الشمس الى بركة الماء , انتشل حقيبته المبللة , و دخل الدار متأخراً و متعبا و جائع , ملابسه ملطخة بالوحل , يراجفه مزيج من البرد و الخوف....... اين كنت !؟ ........ .
هكذا تكون ردة الفعل النفسية تجاه تعامل الاهل و المدرسة غير المدروس , و هنالك الكثير من ردود الفعل المختلفة بين الطلاب الذين عايشوا هذه الظروف , فمنهم من كان ينتقم لنفسه من الاهل في تعمد حصوله على درجات متدنية جدا ليغيظهم , و الكثير منهم من كان يمزق كتبه و يتلفها بل و يقذفها في حاويات النفاية , و كل هذه التصرفات لا تخفى على اذهان القارئ , و قد يكون جربها سابقا !!
ارجو ان اكون قد وضحت الصورة بهذا القدر من التفصيل , و الباقي من ايامه المدرسية و العائلية سأترك صورتها الى خيال القارئ .
بطبيعة الحال لا يمكن ان نعمم هذا على جميع اولادنا الاعزاء , فأن منهم و الحمد لله لا يشكو من اي عقدة نفسية تجاه المدرسة و يتمتع بحياة طبيعية في المدرسة و البيت , و لكن لا ينبغي لنا اهمال شريحة واسعة من الطلبة و هم الذين على حالة الطالب المعذب التي ذكرناها انفا , و التي عادة ما تحدث في العوائل البعيدة عن الثقافة النفسية بسبب شظف العيش و المتاعب , لكن هنا لا يقع اللوم على الاهل فقط , و ان وقع عليهم فذلك بسبب جهلهم في التعامل مع مشاكل الاولاد و اهتمامهم في الصحة النفسية , انما المقصر الحقيقي بحق الطالب و اهله هو ... المعلم !!
لقد كان و ما يزال اسم الوزارة التي ينتسب لها المعلم , هو ( وزارة التربية ) اذا لماذا لا يؤدي المعلم واجبه كاملا , و هو التربية و التعليم ؟ اليس من الوجوب الاخلاقي و الذوقي على المعلم الاهتمام بالصحة النفسية للتلاميذ ؟ بدليل ان من المواد التي درسها في منهجه الجامعي هي مادة علم النفس !
لقد تحدثت مع بعض المعلمين و مدراء المدارس في هذا الموضوع , و أقروا بوجود هذه الحالة عند العديد من التلاميذ , و لكن عندما القيت باللوم عليهم لتقصيرهم تجاه توعية الاهل من خلال جلسات الاقناع و التوعية و تبيين خطورة الحالة , ذكروا اسباب من ابرزها تقصير الوزارة في الدعم النموذجي لبناء المدارس بصورة افضل , و ذكروا ايضا تعامل الاهل الغير لائق مع المعلم و الادارة , و قالوا لعل المعلم يضطر للضغط على الطالب احيانا من اجل التعليم , فيتحول الحال الى مشكلة عشائرية و قد تصل الى ما يسمى ( كوامة ) !!
نقول للمعلم ... الذي ربما يكون لنا اخ او جار او صديق , نحن نعلم ان واقع الدولة و خطط بناء مجتمع متعلم متدني جدا , و عوامل الرفاهية الحقيقية الانسانية مستوى الحضيض , و انت تعاني من ذلك في حياتك مثلنا , و لكن اود ان اذكر لك جانب مشرق في حياة التلميذ الذي حدثتك عن حاله في بداية الموضوع , و هي انه كان يحصل في المرحلة المتوسطة على درجة 98 من 100 في مادة واحدة فقط و هي الرياضيات !! قد تعجب من ذلك , و لكن السبب منطقي جدا , و هو ان استاذ الرياضيات كان يحترم الطلاب و يحبهم كاهم مما جعل التلاميذ يحبونه و يحبون مادة الرياضيات , رغم جفافها , ارجو ان تكون قد فهمت مقصدي من هذا الكلام , فلا تدع الظروف المادية و الواقع الاجتماعي يحرمك من الخلود في ذاكرة التلاميذ الذين هم اطباء , و مهندسي , و ادباء الغد , لا تدع الفرصة تفوتك في نيل لذة العطاء الثر و الذكر العطر , و الرضا و الكرامة عند الله تعالى و عند النبلاء على مر العصور السابقة و الحاضرة و اللاحقة , و لا يكلفك ذلك الخير كله سوى تأمل قليل في وجه تلميذك و كلمة لطيفة فقط , و لك القرار .
كلمة الى الاهل ... ان كنتم لا تستطيعون احتواء خلجات الطالب النفسية و فهم ما يجب عليكم فعله , فيجب ان لا تتعاملوا معه بغضب و انتقام , بل الحل هو في التعاون مع المعلم و الادارة في كيفية الرقي بواقع ولدكم و استقراره الطبيعي و سوف تجدون النتائج سريعة و مبهجة و كل ذلك لا يكلفكم سوى ساعة واحدة كل يوم لزيارة المعلم في المدرسة لمدة اسبوع فقط , و بذلك تكفلون استقامة مستقبل ولدكم و ازدهاره ,
و تحية طيبة لكل الامناء على ما ائتمنوا عليه .
#مشرق_المنصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟