|
في تكوين الثورة السورية و-طبائعها- وتحولاتها المحتملة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3504 - 2011 / 10 / 2 - 18:38
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليست عارضة أو خارجية العلاقة بين تكوين الثورة السورية وبين طابعها السلمي. تفجرت الثورة احتجاجا على نمط عدواني لممارسة السلطة، لكن في انتشارها السريع إلى معظم أرجاء سورية ما يشير إلى سخط منتشر ربما يجد أصوله في ذلك التدامج المحكم بين السلطة والثروة الذي ميز عهد بشار الأسد. حكام سورية الحاليون أناس أثرياء منعمون، لديهم ثروات مهولة لم يتعبوا في تحصيلها، وينظرون إلى السلطة العمومية كامتياز ثابت وأبدي لصيق بهم، ويعتمدون في دوامه على أجهزة عنف متمتعة بالحصانة الكلية، ومتمرسة بالإرهاب. ولقد طوروا في العقد المنقضي موقفا متعاليا على عموم محكوميهم، فباتوا يصفونهم بالحثالات والمتخلفين والمتعصبين. الثورة اعتراض جوهري على هذا البنيان السياسي المتعجرف، الذي يعتمد على ركيزتي العنف والمال. ومن شاركوا فيها هم جمهور متنوع، مديني وريفي، متعلم وعالي التعليم، شاب وكهل، ومن الجنسين. هذا جمهور شعبي، يحفزه في احتجاجه دفاع عن حياته وتطلع إلى تحكم أكبر بها، وإلى أن يكون له كلمة في شأنه العام. وهذا تطلعات تخاطب أكثرية السوريين، متجاوزة من حيث المبدأ الفوارق الجهوية والإثنية الدينية. نوعية المطالب الإنسانية والعامة وتنوع الجمهور المشارك في الثورة، هما ما يجعلان الثورة السورية، على غرار الثورات المصرية والتونسية واليمنية غريبة على العنف من حيث المبدا. الأمر لا يتعلق بدعوة إيديولوجية إلى السلمية، ولا بنزعات لاعنفية يواليها بعض السوريين، ولا بتكتيك سياسي، بل بالتكوين الاجتماعي للثورة، أو بطبائعها. وهذه الطبائع المنفتحة ذاتها هي ما جعلت الثورة غريبة على الطائفية. مطالب الحرية والكرامة لا تخص دينا أو طائفة. ولا يتغير الأمر إذا عرفنا هذه المطالب بلغة حقوقية أو سياسية أو اقتصادية. لا شيء خاصا أو فئويا فيها. أو حزبيا. ولا شيء إيديولوجيا، حين المقصود بالإيديولوجية نسق من الأفكار والقيم موجه نحو العمل، ومزود بمبدأ اتساق داخلي يصون وحدة معتنقيه ويميزهم عن غيرهم. وتجارب القرن العشرين تؤشر على اقتران يكاد يكون قانونا اجتماعيا في شأن ارتباط العنف بالنظم الإيديولوجية المحددة، وبدرجة تتناسب مع تحددها وصلابتها، أو إعلائها من شأن اتساقها الذاتي على تفاعلها مع الواقع المتغير. لطالما اعتبر التيار الشيوعي الثورة عنيفة بالتعريف، إلى درجة أن الكلام على ثورة سلمية كان يبدو تناقضا في الألفاظ. ولعله من باب التأثر بالمثال البلشفي صار كل استيلاء بالقوة على السلطة يعتبر نفسه ثورة. ولقد كانت الثورة العنيفة إغراء للتشكلات القومية العربية، ومنها بخاصة حزب البعث الذي استولى على حكم سورية والعراق بالقوة، بعد أن كان محدود الشعبية فيهما معا. ولطالما فاخر بعثيون الناصريين بأنهم أكثر ثورية منهم لأن لديهم عقيدة محكمة (وليس أفكارا "تجريبية" متناثرة)، ومعلوم أنهم بزوا النظام الناصري بالعنف. والإسلاميون مثال على اجتماع النظام العقدي المغلق والمكتفي بذاته مع النزوع المطرد إلى العنف. والتيار السلفي الجهادي بينهم هو الأكثر حرفية وأصولية ولا تاريخية، والأكثر لجوءا إلى العنف. ولا يشذ عن هذه القاعدة تيار المحافظين الجدد الأميركي في سنوات بوش الابن. فقد جمعوا بين تصلب العقيدة التي تتطلع إلى فرض الليبرالية عالميا وبين الدعوة إلى ممارسة القوة الأميركية عالميا. وقد لا يدعو مثقفون عرب، وبدرجة تتناسب مع تعريف أنفسهم بالحداثة والتنوير، إلى ممارسة العنف ضد عموم المحكومين (بعضهم يفعل)، لكنهم لا يجدون بأسا به إذا مورس ضد الإسلاميين، ومهما بلغ من قسوة. لا شيء من ذلك في الثورة السورية، وفي الثورات المصرية والتونسية واليمنية. هذه ثورات اجتماعية مفتوحة ضد نظم سلطة وثروة مغلقة. وهي ثورات عامة ضد نظم أرستقراطية بلغت حد توريث الحكم. ولأنها كذلك، ثوراتنا لا تمارس العنف. العنف هو منهج النخبة في الحكم، أي الأرستقراطية أو الأوليغارشية، أو "الحزب القائد للدولة والمجتمع"، أو الأسرة العبقرية، عموم ذوي الدم الأزرق الذين لا يقبلون المساواة مع غيرهم. لقد كان من أسوأ ضلالات شيوعية القرن العشرين الربط بين العنف والشعب، أو اعتبار العنف منهج الشعب في التحرر. غير صحيح. بل هو منهج "الطليعة" التي تتعالى على الشعب وتستعبده. وتوفر طبائع الثورة، العامة والمفتوحة والشعبية، رائزا مهما للحكم في شأن "الأخبار" التي تتكلم على عنف أو عصابات مسلحة أو مجموعات إرهابية في سورية. هذه الأخبار تتعارض مع طبائع الثورة، لذلك فهي كاذبة. لكننا لا نستند إلى هذا الرائز الخلدوني وحده. سندنا هو السجل الواقعي بقدر ما تسمح فرص الحصول على معلومات موثوقة، مسنودا هو ذاته بخبرة غير منقطعة بالواقع السوري وبطبائع النظام السوري. وهذا نظام نخبوي، موغل في الرجعية والطغيان. والعنف والطائفية ينبعان من تكوينه بالذات، أي من طابعه النخبوي الأوليغارشي والعنيف. ولذلك مارسهما فورا ومنذ البداية، ولذلك لم يفكر يوما، ولا هو يفكر اليوم، بالحيود قيد أنملة عن نهجه هذا. على أن متابعة السجل الواقعي تفيد بممارسات عنف من جهة منسوبين إلى الثورة ضد قوات النظام في الشهرين الأخيرين. قد يحصل ذلك دفاعا عن النفس أحيانا، أو على يد جنود منشقين، تنحصر خياراتهم بين أن يُقتَلوا أو أن يواجهوا النظام العنيف بالعنف. لكن العنف المعارض يتجه إلى أخذ طابع نسقي أكثر وأكثر. فإذا ترسخ هذا الاتجاه، كان محتملا أن تستقل ممارسة العنف من جهة الثورة عن مسبباتها المباشرة، وتكف عن كونها رد فعل متنحيا (فيما المظاهرات الاحتجاجية السلمية هي الوجه المهيمن) لتمسي الوجه السائد للثورة. وسيكون هذا، إن حصل، علامة طور جديد من أطوال الثورة وبطبائع مغايرة: من طور الثورة الشعبية السلمية التي تعرف نفسها بما تتطلع إليه بعد النظام من حرية وكرامة وديمقراطية، إلى طور ثان، طور المواجهة بالقوة التي تعرف نفسها فقط بإسقاط النظام. وقد ينفتح هذا الطور الثاني على حرب أهلية عامة، ستكون تحقيقا للتخيير الذي ثابر النظام على طرحه على السوريين: نحن أو الحرب الأهلية، لكنها ستكون إبطالا نهائيا للتهديد بها أيضا. أما من جهة الثورة فالعنف علامة على الوضع المعضل الذي تواجهه اليوم. كي تواجه النظام بفاعلية، تجد نفسها مساقة إلى الرد عليه بوسائله. لكنها إن فعلت، هل تؤسس بديلا متفوقا؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في شأن الثورة السورية ولاءاتها الثلاثة
-
ثورة العامة: قضايا أخلاقية وثقافية وسياسية في شأن الانتفاضة
...
-
غياث مطر من دارَيَّا...
-
الثورة السورية وخطر -الوضع الطبيعي-
-
من -تحالف الأقليات- إلى أين؟ -استبداد الأكثرية- أم سياسة الم
...
-
أية نهاية لنظام الحرب الأهلية؟
-
حوار: سورية بعد ليبيا
-
قبول تحدي التغيير دون بديل ناجز
-
حوار متجدد في الشأن السوري
-
في شأن النظام السوري وشركائه الإيديولوجيين
-
في أم معاركه، النظام يخوض حروبه السابقة
-
المعضلة السورية ومآلاتها المحتملة
-
إنقاذ النظام من نفسه أم إنقاذ سورية منه؟
-
-العامية- السورية: انتفاضة مجتمع العمل!
-
الجهلُ مكتفيا بذاته: ردا على أسعد أبو خليل
-
في ذاكرة الانتفاضة السورية وإدراكها السياسي
-
حوار حول الثورات العربية
-
في أصول حرب -النظام- ضد الانتفاضة
-
الطائفية ضد الانتفاضة، الانتفاضة ضد الطائفية!
-
قليل من الأمانة: رد على إبراهيم الأمين
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|