خالد أبو شرخ
الحوار المتمدن-العدد: 3503 - 2011 / 10 / 1 - 20:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"إسرائيل الكبرى" مصطلح يتواتر في الأدبيات الصهيونية، بشكل كامن في كتابات المعتدلين, وبشكل علني في كتابات من يُقال لهم "المتطرفون". و"إسرائيل الكبرى" مصطلح غير محدد المعالم, يضم بكل تأكيد الأراضي الفلسطينية التي ضُمَّت عام 1967م, ولكن بما أن حدود أرض الميعاد أو "إرتس يسرائيل" محل خلاف بين المفسرين، فإن المطالبين بضم كل أراضي إسرائيل, يختلفون فيما بينهم حول ما يجب ضمه وما يجب تركه. ومفهوم إسرائيل الكبرى لم يَعُد مفهوماً مهماً, في الفكر الإستراتيجي الصهيوني في إسرائيل، فظهور النظام العالمي الجديد, قد غيَّر وظيفة إسرائيل وطبيعة دورها، ولم يَعُد ضم الأراضي مسألة حيوية بالنسبة لها، بل أصبح من وجهة نظر بعض الصهاينة عنصراً سلبياً, فإسرائيل تحاول الآن أن تلعب دوراً وظيفياً جديدا,ً يتطلب منها التغلغل في العالم العربي, بالتعاون مع بعض النخب الثقافية والسياسية العربية الحاكمة, كجزء من عملية تدويل المنطقة وضمها إلى السوق العالمية والنظام العالمي الجديد, وهذا يتطلب أن تتخلى إسرائيل عن لونها اليهودي الفاقع, وكل المتتاليات السياسية والعسكرية المرتبطة بهذا اللون, وإسرائيل الكبرى جزء من المتتالية القديمة التي طرحت إسرائيل كدولة يهودية غربية وقاعدة للاستعمار الغربي في العالم العربي, تلعب دور الشرطي وتحـاول اغتصاب الأرض وطرد السـكان أو تسـخيرهم, أما إسرائيل الجـديـدة فهي جدُّ مختلفة, وكما قال "شيمون بيريز": "إن الشعب اليهودي لم يكن هدفه في أي يوم السيطرة... إنه يريد فقط أن يشتري ويبيع وأن يستهلك وينتج. فعظمة إسرائيل تكمن في عظمة أسواقها".
وقد حدث تحوُّل في اللهجة الصهيونية, مثَّله بعض قادة حزب العمل واليسار الإسرائيلي, مثل "شيمون بيريز" و"يوسي بيلين" و"يوسي سريد", حدث هذا التحول في اتجاه التخلي عن نظرية "الحدود الجغرافية", واستبدال نظرية "الحدود الاقتصادية" بها، ويعود هذا التحوُّل إلى استنتاجهم, أن القدرة على احتلال المزيد من الأرض العربية غير ممكن, بدون التكلفة الباهظة للاحتلال المستمر, وامتلاك الأقطار العربية أسلحة تهدد الأمن الإسرائيلي من جهة، ولعجزها عن إسكان الأراضي المحتلة بالمستوطنين اليهود من جهة أخرى, في ظل عجزها عن توفير الأمن لهم أولاً، ومتطلبات الحياة الاستيطانية ثانياً.
إن الظروف الذاتية والموضوعية, تستلزم استبدال نظرية مشروع "إسرائيل الكبرى" جغرافياً, بمشروع "إسرائيل العظمى" اقتصادياً وسياسياً وتكنولوجياً, بحيث يستطيع النفوذ والسيطرة الاقتصاديين, أن يحققا الأهداف الصهيونية بصورة أكثر رسوخاً وأطول عمراً، وأقل كلفة وخسارة بشرية, أما مشروع إسرائيل الكبرى جغرافياً, عندما يضم الفلسطينيين, فإن جسمها يتلوث وتظل حبلى بالمشاكل والاضطرابات، وتبقى عرضة للمجابهات المسلحة مع الجيران، وللتوتر في علاقاتها الدولية, وللأوضاع الاقتصادية المتقلبة, ولانخفاض عدد المهاجرين إليها, فالطريق إلى إسرائيل الكبرى يمر عبر الحروب والمجابهات العسكرية، أما الطريق إلى "إسـرائيل العـظمى" فيمر عبر الدبلوماسية والتلويح بالقوة، فإسرائيل العظمى تظل محتفظة بتفوق عسكري نوعي, قائم بالأساس على الرادع النووي.
إن "إسرائيل العظمى" تقبل التنازل, عن بعض الأراضي العربية المكتظة بالسكان، والتي تعتبرها حقاً تاريخياً وجزءاً من أراضي إسرائيل التوراتية, ولكنها كما يقول "بيريز"، ستكون قد "أدت واجباً تاريخياً تجاه نفسها، وذلك بحماية طابعها الخاص من الإفساد والتشويه", ومقابل ذلك سوف تُرفَع المقاطعة العربية عن إسرائيل, وتُفتَح أسواق المنطقة أمام البضائع الإسرائيلية, وتقوم السوق الشرق أوسطية, على أساس تكامل الطاقات, وتقسيم العمل بين النفط العربي، والمياه التركية، والكثافة السكانية والسوق المصرية، والخبرة والمهارة الإسرائيلية، وتُحَل مشكلة المياه في إسرائيل, بإقامة مشاريع مشتركة لاستثمار مياه الأنهار الكبرى في المنطقة, وهذا المشروع هو الذي سوف يحقق الأمن لإسرائيل, ويحقق "إسرائيل العظمى" التي لن تحكم الفلسطينيين فقط, بل ستحكم العرب جميعاً، وتتحقق لها السيطرة والهيمنة والتربع على كامل المنطقة وثرواتها، وتدجين الشعوب العربية وتطويعها، وتخريب النسيج الاجتماعي في العالم العربي، وهذا تأكيد استمرارية مشروعها الأساسي القائم على التوسع.
يعتمد أصحاب هذا الإتجاه من اليسار الصهيوني, على مقولة أن إعتماد التفوق العسكري وحده, لا يُلبِّي مطامع إسرائيل في التحوُّل إلى قوة إقليمية, لها دورها وحضورها الشرعي في المنطقة، وأن على إسرائيل أن تهيئ نفسها لترتيب اتفاقات سلام مع الدول العربية المجاورة، تقوم على تجاوز القضية الفلسطينية, وحقوق الشعب الفلسطيني، لأن المصالح الاقتصادية الهائلة المستجدة, ستؤدي إلى تذويب هذه المشكلات, وهذه هي المقولة الأساسية التي يستند إليها النظام العالمي الجديد: "إن الإنسان كائن اقتصادي دوافعه اقتصادية ومطامحه اقتصادية، وإن الاختلافات الاقتصادية يمكن حلها، وإن خَلْق مصالح اقتصادية مشتركة بين الدول يجعل شعوبها تنسى أفكاراً بالية مثل السيادة والكرامة القومية", وبهذه الطريقة يحاول النظام العالمي الجديد, أن يحوِّل العالم إلى سوق واحدة كبيرة, لا تعرف الحدود، تمر فيها الشركات عابرة القارات والقوميات, دون أن يعوقها عائق, وتستطيع أن تبيع سلعها لمستهلكين يتسمون بالعمومية, ولا يكترثون بالحدود القومية, أو فكرة السيادة أو الحدود أو الأحلام الإنسانية المتجاوزة للمادة، أي أن يظهر الإنسان الطبيعي في كل أنحاء العالم ( وهذه هي العولمة الحقة), وبهذه الطريقة يقضي النظام العالمي الجديد على كل أشكال المقاومة, داخل العالم الثالث, ويمكن أن يقوم بتفكيك الشعوب, دون أن يضطر إلى اللجوء للمواجهة، التي أصبحت مكلفة بل مستحيلة في بعض الأحيان.
وهذا التحوُّل نحو الاقتصاد, لا يعكس تراجعاً عن الأهداف الإسرائيلية الإستراتيجية, والهيمنة السياسية والعسكرية وفرض السلام, حسب الشروط الصهيونية، وإنما هو تحوُّل في التكتيك والإجراءات لتحقيق هذه الأهداف, في ظل التغيرات والتحولات الجديدة على المستويين العالمي والإقليمي، فيتم إدماج إسرائيل في المنطقة, وفق شروط تحفز نموها الاقتصادي، القائم على تفوُّقها التكنولوجي والعلمي، فتصبح إسرائيل الكبرى مفهوماً اقتصادياً لا جغرافياً، وفي هذه الحالة لا يعتبر قيام كيان فلسطيني, محدود الصلاحيات خطراً على وجودها, لأن اندماجه مع إسرائيل يُيسِّر عملية الهيمنة عليه وتوجيهه.
ويقوم المشروع الشرق أوسطي, على عدة مبادئ أساسية أهمها:
- أن تحقيق السلام على أرض الواقع, مرتبط بالتفاعل الاقتصادي، وأن خَلْق مصالح اقتصادية مُتبادَلة, بين الأطراف الداخلة فيه, يؤدي إلى تسهيل التوصل إلى حل سياسي، ويصبح هذا المشروع, مفتاح حل جميع مشكلات العالم العربي, من خلال ترويج مقولة السلام الذي يجلب الرخاء والتنمية، بحيث يحل محل الإنسان العربي الخاص، إنسان اقتصادي عام, لا يمارس أية رغبة في تجاوز واقعه المادي الاستهلاكي المباشر، حدوده حدود السوق، وأفقه أفق السلعة، وفضاؤه متعته، وسماؤه لذته,
- يقوم هذا المشروع, على إعطاء دور كبير للقطاع الخاص ورجال الأعمال، أو ما يُسمَّى "خصخصة صنع السلام", لأن صُنْع السلام في الشرق الأوسط أهم, وأكثر تعقيداً من أن يُترَك للسياسيين والدبلوماسيين وحدهم، بل يجب أن تساعدها وتدعمها علاقات تجارية واقتصادية, يقوم بها القطاع الخاص.
- أهم آليات تحقيق الشرق أوسطية, المؤتمرات الاقتصادية، التي تتم قيادتها عبر مؤسسات من خارج المنطقة, لا من داخلها، مُمثَّـلة في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (سويسرا), ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في نيويورك، كما أنها لم تَعُد مقصورة على ممثلي الدول, بل تضم مستويات مختلفة من الحكومات ورجال الأعمال والمنظمات الدولية .
- تهدف هذه المؤتمرات الاقتصادية, إلى زيادة نفوذ القطاع الخاص وقطاع رجال الأعمال, بحيث يصبحون "لوبي" قوية داخل أي نظام سياسي, وفي الوقت نفسه يزيد تفاعُل أعضاء هذه الفئة بعضهم مع بعض, ومع المستثمرين الأجانب والشركات ذات النشاط الدولي, وهو تفاعُل سيتم في إطار المصالح الاقتصادية المجردة, من القيم الأخلاقية أو القومية, وستتصاعد عملية التعامل تدريجياً إلى أن يتحول الشرق الأوسط بأسره, إلى سوق مشتركة (على غرار الجماعة الأوربية), تسوده مجموعة من المشاريع الضخمة, تموِّلها مؤسسات التمويل الدولية, ويتم ربط كل هذا بالسوق العالمية (أي السوق الغربية).
أما آليات إقامة المشروع الشرق أوسطي فتتمثل في:
- عقد اتفاقات ثنائية بين إسرائيل, وكل دولة من الدول العربية المجاورة من جانب، وعقد اتفاقات متعددة الأطراف من جانب آخر, وتحدِّد الاتفاقات الثنائية علاقات إسرائيل, بكل دولة من دول المحيط العربي, في المجالات الاقتصادية والتجارية والأمنية والعسكرية، إضافة إلى المجالين الدبلوماسي والسياسي، وما يترتب على هذه من ترتيبات تنظيمية وإدارية وفنية وعسكرية مشتركة.
- تركيز في المرحلة الأولى, على تأسيس محور ثلاثي يأخذ، بصورة متدرجة، صيغة تشكيلة سياسية اقتصادية أمنية (شكل من أشكال الكونفدرالية) تضم إسـرائيل والأردن والكيـان الفلسـطيني، وترتبط لاحقاً، وعلى نحو متدرج، بتشكيلة أوسع تضم سوريا ولبنان, ويتم في الوقت نفسه توسيع العلاقات الاقتصادية مع مصر، وبالتحديد في مجالي الطاقة والسياحة, وبعض الصناعات المحددة، كصناعة النسيج.
- بيع العلاقات الاقتصادية (إضافة إلى العلاقات السياسية والدبلوماسية), مع سائر دول العالم العربي, وفق آليات السوق الرأسمالية، أي من دون اشتراط علاقات اقتصادية متميِّزة, كما هي الحال مع الكيان الفلسطيني والأردن، أو مع سوريا ولبنان، لكن مع عدم إغفال الاعتبارات الأمنية أو تجاهلها, ويبدو أن اشتراط إقامة علاقات اقتصادية متميِّزة مع الدول العربية المحيطة, يرتبط بمفهوم إسرائيل لأمنها القومي, وحاجتها إلى توليد مصالح مشتركة تنفي، أو تقلِّص إلى الحـدود الدنيا، لإمكان نشـوب حروب أو نزاعات أو عمليات عسكرية جديدة, ترتيبات مائية مشتركة ـ بنية تحتية مشتركة ـ مشاريع اقتصادية مشتركة ـ تبادُل تجاري غير مقيَّد ـ إضافة إلى إقامة هيئات مشتركة مقررة في مجالات اختصاصها.
وهكذا، فالمسألة ليست مسألة سوق فقط، بل تهدف إسرائيل إلى خَلْق واقع اقتصادي جديد، في مناطق ومواقع مفصلية، يتسع نطاقه بشكل مستمر, بحيث يتم خَلْق أحزمة اقتصادية جديدة, تخترق البلدان العربية, ويصعب الفكاك منها, وتصبح معها تكلفة الانفصال, في حالة توتر الأجواء باهظة الثمن، الأمر الذي يعني زيادة أمن الكيان الإسرائيلي, وأحد أهداف السوق الشرق أوسطية, هو طرح تقسيم عمل جديد بالمنطقة, تتخصص بموجبه الدول العربية, في إنتاج المواد الأولية (البترول) والصناعات التقليدية مثل النسيج والملابس، في حين تتخصص إسرائيل في الصناعات التكنولوجية ذات التقنية العالية,
كما يهدف المشروع, إلى رفع المقاطعة الاقتصادية العربية عن إسرائيل، التي كلفت الاقتصاد الإسرائيلي طبقاً لتقديرات إسرائيلية أكثر من 40 مليار دولار، وإلى زيادة وتيرة التطبيع الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية, بالرغم من أن تجربة التطبيع المصرية الإسرائيلية, كشفت عن محاولات اختراق تمثلت في: تجسُّس وتهريب اقتصادي وتزييف عملات .
إن المشروع الشرق أوسطي, لا يقتصر على كونه سوقاً شرق أوسطية, بمضمونها الاقتصادي, بل إنه مشروع لنظام إقليمي جديد، أي أنه مشروع إستراتيجي, له مقوماته السياسية والاقتصادية والأمنية والأيديولوجية، ويمر عبر إقامة نظام إقليمي جديد, يؤسَّس على إعادة تركيـب النظام الإقليمي العربي، بحيث لا يعـود فاعلاً كواقـع أو كمشروع، ويُستبدَل به نظام تحتل فيه إسرائيل موقعاً محورياً، وإن كان بصورة متدرجة ومرحلية, ورغم أن هذا المشروع بالرغم من تعثره, ومعاناته لثغرات كبيرة، وأنه ما زال في الطور الجنيني, إلا أنه كتوجهات عامة يلقى دعماً دولياً وإقليمياً, بما يملكه من مؤهلات, مثل استناده إلى برنامج يحمل الأيديولوجيا الاقتصادية الليبرالية, التي تحتفل بها مراكز الاقتصاد العالمي ومؤسساته، وطبيعته الإستراتيجية طويلة الأجل، في ظل غياب مشروع عربي بديل.
ولكن هناك توترات وثغرات أساسية, تتعلق بطبيعة الدولة الصهيونية, وتحديداً بين العناصر التي تركز على اعتبارات الأمن، والعناصر التي تركز على اعتبارات اندماج إسرائيلي, في المنطقة اقتصادياً؛ بين الحرص على الهوية الصهيونية, بمضمونها الاستبعادي السلبي للآخر العربي، وطموحاتها السلمية التي ترغب في تفاعُل إيجابي مع ذلك الآخر؛ وبين الرغبة في الحفاظ على سمة وثقافة إسرائيل الأوربية, وعلاقاتـها المتميِّزة بأوربا والولايات المتحـدة، وموضعها الجغرافي الشرق أوسطي, وادعائها الانتماء الحضاري إلى المنطقة, كما نجد تباينات في الآراء, بشأن بعض التوجهات الأساسية للمشروع, داخل حزب العمل بصورة خاصة، وداخل اليسار الصهيوني بصورة عامة .
ومع هذا لا يزال جزء كبير من اليمين الصهيوني, يؤمن في قرارة نفسه, ويتمسك بفكرة إسرائيل الكبرى، فقد صرَّح "إسحق شامير" في لحظة تأثُّر وجداني عميق, من تدفُّق المهاجرين المستوطنين السوفييت, بأن "إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي وحلمي شخصياً", وأنه "بدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم"؛ و"نتنياهو" ما زال يريد العودة إلى "الحدود التوراتية", بإعادة الحياة إلى إسرائيل الكبرى.
#خالد_أبو_شرخ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟