أخبار الشرق - 2 أيلول 2002
الذين يحنون رؤوسهم للعاصفة، سياسة، أو جبناً، أو تذاكياً، أو إدماناً .. ومهما كانت قوة العاصفة، أو جهة هبوبها .. ومهما كان نوع العاصفة (طبيعية أو بشرية ..) .. ودون أن يفكروا مجرد تفكير، في دراسة هذه العاصفة، ومعرفة ماهيتها، أو قوتها، أو نوعها أو مصدرها؛ هؤلاء يشكلون صنفاً خاصاً من المخلوقات لا نعرف له مثيلاً في عالم الإنسان أو الحيوان! فالإنسان العاقل، يحسب ما حوله من قوى وعلاقات، وضغوط واحتمالات وأخطار، ثم يتصرف على هدى عقله، سلباً أو إيجاباً، ثباتاً أو فراراً، مجابهة أو استسلاماً، تحدياً للعواصف أو خضوعاً لها.
أما الحيوان المسلح بحواس مرهفة، وغريزة يقظة متحفزة، فله أساليبه في التعامل مع الأخطار؛ في تمييزها أولاً، ثم في اتخاذ القرار المناسب تجاهها ثانياً. فما كل خطر يفزع كل حيوان. ما يفزع الفراشة لا يفزع الأرنب بالضرورة، وما يفزع الشاة لا يفزع الفهد، وما يفزع النملة أو الذبابة، لا يفزع الجمل أو الفيل أو الأسد .. وهكذا.
فلِمَ يفزع الساسة في بلادنا، وبالتحديد صناع القرار وعلى وجه الدقة، أصحاب الكراسي؟
لمَ يفزعون من كل صيحة تأتي من أمريكا على سبيل المثال؟ بل من كل همسة فيها إنذار مبطن، بل من كل نظرة زوراء .. ويتسابقون إلى استرضاء السيد "الإمبراطور" وطأطأة الرؤوس أمامه، وحلف الأيمان له، بأنهم، هم وشعوبهم، ما هم إلا عبيد من عبيده، ملتزمون بتنفيذ قراراته بشكل حرفي، بل بأكثر مما يتمناه السيد "الإمبراطور" ويحلم به؛ بسحق كل من يفكر من مواطني دولهم في أن يقول "لا" للسيد الكبير، حتى قبل أن يقول هذه الـ "لا" المزعجة؟!
لقد وعى هؤلاء الساسة "العباقرة" الدرس جيداً: إذا لم تكن معنا، فأنت - بالضرورة - مع الإرهاب ..! وبالطبع قولة "لا" للسيد الكبير، هي نوع بشع ومخيف، من أنواع الإرهاب!
وليس مهماً ما يفعله السيد الكبير في بلاد المسلمين عامة، وبلاد العرب خاصة، من استباحة ونهب، ومن ملاحقة واعتقال وتعذيب ..! فما يفعله السيد "الإمبراطور" هو حق له. إنه "حق القوة". أما الضعيف فلا حق له في أن يقول "لا" لأن الضعف ليس له أي حق في أي شيء، إنما عليه جملة من الواجبات، أولها وأهمها، أن يقول للسيد الكبير: "أمرك سيدي"! وبالطبع يقول هذه الجملة للسيد الكبير، عبر وكلائه، الساسة السادة المحسوبين على شعوبهم "صناع قرارات" لدولهم ومواطنيهم.
والسؤال الكبير هو: لماذا؟
لماذا لا يجيد هؤلاء "السادة صناع القرارات" إلا حني الرؤوس، أمام "السيد الكبير"؟ والجواب متعدد الوجوه:
1- لأنهم وضعوا في مواضع "السادة" على شعوبهم، وهم يعلمون جيدا أن هذه المواقع ليست لهم.
2- لأنهم احتلوا مواقع "صناعة القرار" في دولهم، وهم يعلمون جيداً، أنهم مجرد منفذين لقرارات غيرهم، وهو "السيد الكبير".
3- وبناء على ما تقدم، لا يجد هؤلاء "المنفذين" سنداً لهم، يدعم كراسيهم، إلا السيد الكبير، يدعمهم ضد شعوبهم، التي ينبغي أن تدعمهم هي ضده، بحسب الأصل.
وعند هذه النقطة، عند معرفة الأسباب الحقيقية الفعلية، لحني الرؤوس أمام السيد الإمبراطور، واتخاذ هذه المعرفة ركيزة أساسية للتفكير الواقعي؛ يعاد طرح السؤال مرة أخرى على هؤلاء (السادة)!، لتكون إجابتهم عليه، ضرباً من ضروب "التسويغ" العبثي، بقصد "التسويق" المجاني الرخيص؛ تسويق أنفسهم أمام شعوبهم، بأنهم ساسة "دهاة" أذكياء، حكماء، يجيدون اتقاء "العواصف"، وتسويق "عبوديتهم" للأجنبي، على أنها عين الحكمة، وعين الرشاد، وعين السياسة المتزنة العاقلة، التي تجنب الشعوب غضب السيد الكبير.
فإذا طرح عليهم السؤال:
لماذا تحنون رؤوسكم أمام هذا "السيد"؟
سارعوا إلى الإجابة، بابتسامة مغلفة بغلاف من "التداهي" الفج:
نحن نحني رؤوسنا، أمام العاصفة الهوجاء، لنقي شعوبنا وبلادنا خطر السحق والتدمير، فإذا مرت العاصفة بسلام، عدنا إلى رفع الرؤوس من جديد، فنحن قوم "أعزة كرام"، لا نحني رؤوسنا إلا لله!
وهنا لا تملك الشعوب، إلا الخضوع لهذا المنطق، "منطق الرؤوس والعواصف"، متغافلة عن "منطق الرؤوس وحبال العبودية" الذي يحكم هؤلاء السادة، منذ قفزوا إلى كراسي السلطة، وسواء أهبت الرياح عليهم، على شكل عواصف، أو أنسام عليلة.
وربما دار الحوار التالي، بين الشعب وحاكمه (وهو دائر فعلاً، لكن بصمت، لأنه حوار عقول لا حوار ألسنة):
الشعب: لم تضعون رؤوسكم ورؤوس شعوبكم، تحت نعال الأجنبي، فتسلمونه وثائق عن مواطنيكم، وتبيحون له بلادكم، يضع فيها قواعده العسكرية، ويفتش في زواياها عن كل مواطن من أبناء دولتكم، يلفق له تهمة ما، أو يظن به ظناً ما!؟
السيد الصغير: إنها الحكمة يا عزيزي .. إذا لم تُحن رأسك للعاصفة سحقتك. ألم تتعلم فن السياسة بعد؟!
الشعب: ولكن ليس في الأجواء كلها عاصفة تهب باتجاه بلادنا اليوم.
السيد الصغير: إذا لم تهب اليوم، فسوف تهب غداً يا عزيزي. وإذا لم تكن العاصفة نفسها موجودة، فإن نذرها موجودة. وإننا نراها من مسافات بعيدة جداً، ولو انتظرنا وصولها إلينا لنحني لها رؤوسنا، لكنا سذجاً مغفلين لا نفهم شيئا في السياسة، لأنها إذا وصلت إلى حدود بلادنا، فلن تبقي لنا رؤوساً نحنيها!
الشعب: تقصد أنها لن تبقي لك رأساً!
السيد الصغير: لن تبقي لي أو لك رأساً، فنحن شيء واحد. أنت أنا وأنا أنت. فإذا طار رأسي طار رأسك، لذا يجب أن نحصن رأسنا الواحد ضد العاصفة، بحنيه أمام نذرها التي تتلامح من بعيد.
الشعب: كلا .. لقد أذللت رأسك للأعداء، يفعلون به ما يحبون، وأمروك أن تذل رأسي لهم، وأنت تفعل ذلك، بحجة المصلحة الوطنية العامة تارة، وبحجة اتقاء العاصفة تارة أخرى. والحقيقة أن المصلحة الوطنية لديك، هي بقاؤك على كرسي الرئاسة، وأن اتقاء العاصفة لديك، هو خضوعك لأوامر الأجنبي ليبقيك على الكرسي.
وإلا فأية مصلحة للوطن أو الأمة، في تنفيذ أوامر الأعداء؟
وأية عاصفة تتقي هبوبها، ولا عواصف قريبة من بلادنا؟
السيد الصغير: إن العاصفة موجودة لا محالة، لكنها تختلف عن العواصف العادية الطبيعية. ودعني أصارحك، فأكشف لك سراً:
إن العاصفة التي أحدثك عنها متعلقة بحركة رؤوسنا: إذا رفعنا رؤوسنا هبت علينا وأطاحت بنا. وإن خفضنا الرؤوس لم تهب علينا، لأننا نفذنا ما تريد، دون أن نضطرها للهبوب علينا.
أفهمت الآن؟!
الشعب: لم أفهم هذا الآن .. بل فهمته منذ وثبت أنت على ظهر دبابتك، واستلمت مقاليد السلطة في البلاد. ودعني أبادر أنا الآن، فأكشف عن قانون يتعلق بهبوب بعض العواصف، وهي العواصف التي تتحدث عنها الآن. فأقول لك:
إنك تتحدث بمنطق معكوس تماماً. فالعواصف التي تتحدث عنها، لا تهب إلا على الرؤوس المنحنية، لأنها عواصف من النوع المفكر الذي يحسب الربح والخسارة. فالرأس المرفوع، الذي يقول للعواصف "لا" يجعلها تتردد كثيراً في الهبوب، مخافة أن يكلفها هذا الهبوب ثمناً باهظاً، هو أكثر بكثير من الفائدة التي سيحققها لها الهبوب. أما الرأس الخانع المنحني، فتجني منه كل شيء، دون أن يكلفها أية خسارة. إنه منطق "الضبع" يا عزيزي.
السيد الصغير: وما منطق الضبع؟
الشعب: الضبع يا عزيزي - حسبما يتحدث عنه العارفون - يقترب من الإنسان الذي يريد افتراسه .. فيطلق صوتاً معيناً، لإخافة هذا الإنسان، أو "إرهابه" وغالباً ما يكون هذا في الظلام. فإذا دب الرعب في قلب الفريسة المرشحة "للافتراس"، وارتعدت فرائصها، وجف ريقها، وتجمد الدم في عروقها، اطمأن الضبع إلى نجاح مهمته، وسار مطمئنا إلى "وجره"، وسارت الفريسة وراءه، خائفة ذليلة مشلولة التفكير من الرعب، وكأنها منومة تنويماً مغناطيسياً، لا تعي شيئاً مما حولها.
فإذا وصل الضبع إلى مكانه الآمن، ووصلت فريسته معه، انقض عليها فأنشب فيها أنيابه ومخالبه، ومزقها وأكلها هنيئاً مريئاً.
وهذه يا عزيزي هي الحالة التي يسميها الناس حالة "الرجل المضبوع": ولعلك سمعت بها.
أما إذا كان الرجل قوي المراس، جريئاً، فيكفي أن يزجر الضبع بصوت قوي، حتى يخيفه ويدفعه إلى الهرب.
وكذلك هي حالتك يا عزيزنا (السيد الصغير) مع سيدك الكبير الضبع البشري! إنك "مضبوع" بداية، لكن سيدك "الضبع" ليس حريصاً على أكلك أنت، بل على أكل شعبك وبلادك من خلالك.
فسلطك على هذه البلاد وشعبها، لتمارس عليها وعلى أهلها دور الضبع "الوطني"، فتضبع الناس بأجهزة أمنك، لمصلحة الضبع الكبير. وكل ذلك - بالطبع - باسم الوطن، ومصلحة الوطن، والوحدة الوطنية، التي تترجمها أنت "بأن رأسك هو رأس الشعب، ورأس الشعب هو رأسك"، لتظل رأساً "رئيساً" على هذا الشعب، تسحقه لمصلحة أعدائه، حتى يخطفك الموت، أو يخطف ضبع آخر الكرسي من تحتك، أو يفيق الشعب المضبوع من الرعب الذي يشل تفكيره، فيقذف بك إلى حيث يجب أن تكون.
أرأيت يا عزيزنا، أن عواصف الضباع، لا تهب إلا على الضعاف الأذلاء؟ وأن رفع الرأس، يفني هذه العواصف، وهي ما تزال نيات مبيتة في صدور أصحابها، أو رؤوسهم؟!
ما كل عاصفة تُحنى الرؤوس لها بعض العواصف رفع الرأس يفنيها
__________
* كاتب سوري يعيش في المنفى