|
القانون الاقتصادي العام
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3503 - 2011 / 10 / 1 - 09:09
المحور:
الادارة و الاقتصاد
مقال نشر في العدد (32) أيار العام1995 لمجلة أسرار الشرق الأوسط ، الصفحتان(10 – 11) . هناك قوانين تحكم سيرورة الوجود ككل ، وهناك قوانين خاصة بكل جانب من جوانب السيرورة العامة . المقصود بالوجود كل موجود من مادة طبيعية ونباتية وحيوانية وإنسانية . هذه المسميات تشترك وتختلف معا في قوانين سيرورتها وفقا لعلاقة العام والخاص ، والوحدة لاتنفي الخصوصية . مثلا : لكل من النبات والحيوان آلية حركته ونشاطه في النشوء والارتقاء والموت .. الخ . وهذا لاينفصل عن الآلية العامة المشتركة فيما بينها . مثال آخر: غذاء الإنسان يحتوي على ذات العناصر التي يحتويها غذاء النبات والحيوان بالمعنى النسبي ، فالنبات يتغذى من التربة والماء والهواء والضوء ، والحيوان يتغذى من النبات ، ومن بعضه البعض ( الأسماك تأكل بعضها) كما في البر والغابة ، والانسان يركب غذاءه من هذه الأشياء مجتمعة . كذلك حياة الانسان لاتستقيم دون هواء وماء وضوء .. الخ . مع ذلك فله خصوصية تطور تميزه عن سواه من الكائنات والموجودات . كل شيء يتحرك ويتطور. الحركة موجود ة ، بينما السكون المطلق لاوجود له . ولاحركة بمعزل عن المتحرك الذي يعتبر وجودا ، لافراغا أو عدما . أنتقل من هذه المقدمة إلى الحياة الاجتماعية ، ومنها إلى واحد من أهم جوانبها الحيوية ، إنه النشاط الاقتصادي الذي منطلقه ومستقره الإنسان ، بوجوده الكلي عامة ، والعضوي خاصة . الإنسان .. إنه طرف فاعل في الحياة الاقتصادية ، لكنه بنفس الوقت طرف منفعل به ، محكوم نسبيا بقوانينه . لقد أكد ت العلوم الاجتماعية أنه ليس ثمة اعتباطية فوضوية في حركة التطور الاجتماعي ، بل إن المجتمع وفي سياق حركته يخضع للقوانين العامة من جهة ، ولقوانين تطوره الخاص من جهة ثانية . وهذا ماأتاح فرصة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية انطلاقا من قواعد المنطق العام والمنهج الخاص . ومكن من اعتبار علم الاجتماع علما إنسانيا له منهجه ونظرياته ومجالاته . وموضوعه الإنسان الذي يؤثر ويتأثر بمحيطه الاجتماعي . ولننتقل خطوة أخرى من العام إلى الخاص ، فالأخص ، وتحديدا إلى الجانب الاقتصادي للحياة الاجتماعية .هذا الجانب الذي استرعى انتباه واهتمام الفلاسفة ورجالات الفكر منذ أقدم العصور وحتى الآن (سقراط ، أفلاطون ، أرسطو ، ابن خلدون .. الخ ) . للحياة الاقتصادية ظواهرها التي تعبر عن نفسها بضرورات وسنن خاصة لايمكن تجاهلها أو العبث بحقيقتها وسيرورتها وتأثيراتها ، وقد تمكن العقل العلمي من دراستها وتحليلها ومن ثم فهم الكثير منها ، واستنباط الكثير من قوانينها . وشكل التراكم المعرفي لها ميدانا علميا 6 مستقلا ، أسماه علم الاقتصاد . والعلم يعني فيما يعنيه المفاهيم اليقينية من بدهيات ومسلمات وقوانين وبراهين ونظريات .. الخ . والقانون الاقتصادي ركيزة علم الاقتصاد هو إذن موضوعي يؤدي حركته ويمارس ضرورته بمعزل عن الإرادة الإنسانية الفاعلة فيه والمنفعلة به .وهنا لاإعني عدم إمكانية الإفادة من ذلك القانون ، واستثماره لمصلحة الإنسان . ولاأنفي إمكانية السيطرة عليه والتحكم بتوجهه ، بل أعني استحالة إلغائه وشطبه ونفيه ، وبلغة علم النفس : كبته وقمعه . وإلا سيتكيف ويتحول إلى كيفية تمكنه من البقاء والاستمرار تحت مسميات مختلفة ، ويفضي ذلك للإضرار بالإنسان ، إنه يتخذ مسارا منحرفا ومرضيا مؤذيا للواقع الاقتصادي والاجتماعي . القانون الاقتصادي سلاح ذو حدين ، فإما أن يفيد منه الإنسان ، أو ينعكس عليه ضررا . القانون الاقتصادي هنا يصبخ خطرا مهددا ، عندما يتحول من حالة الكبت إلى ديناميت متفجر يودي بمن حوله ، وقد يشعل حربا داخلية محلية أو أقليمية أوحتى حربا عالمية كما شهد القرن العشرون ، وماأسفرت عنه تلك الحروب من دمار وخراب وضحايا ، كل هذا بسبب النظام الاقتصادي الامبريالي الاستعماري وتجلياته السلبية العنفية العالمية . وماحدث في بلدان المعسكر الاشتراكي يبرهي مرة أخرى على أنه لابد من أن نأخذ بعين الاعتبار مفاعيل القوانين الاقتصادية المستقلة ، قبل أن تتحول إلى زلزال لايبقي ولايذر . لقد حاولت البلدان الاشتراكية قتل قوانين السوق ، ولم تفلح ، وحدث العكس ، حيث قوانين السوق لبست لبوس السوق السوداء أوالسقوق المهربة ، أي ظلت حية تعمل وتفتك في جسد الاقتصاد الاشتراكي تحت أسماء وعناوين ومظاهر شتى ، وهدمت ذلك النظام بطريقة مذهلة ومؤلمة . ترتب عليها نتائج ضارة ماتزال سارية المفاعيل حتى الآن في العديد من البلدان التي تدفع ضريبة التحول والعودة إلى نظام الاقتصاد الحر الذي ينسجم و يعكس جوهر القانون الاقتصادي العام ومتطلباته الموضوعية ولايتعارض أو يتناقض معها . ماركس نفسه فهم وقدم الاقتصاد على هذا النحو في كتابه الشهير " رأس المال" وأكد ضرورة وحتمية مفاعيل القوانين الاقتصادية الموضوعية ، وهي قوانين السوق الرأسمالي الحر ، وكان ماركس مصيبا تشخيص الواقع وتحليل الظواهرالاقتصادية في حينه . ولم يكن مصيبا في اختياراته وفرضياته وبرنامجه للمعالجة والحل ، وجاء مشروعه السياسي العلاجي وصفة مسبقة وغير مجربة لاستبدال القوانين الرأسمالية بالقوانين الاشتراكية التي افترض إمكانية فرضها وتطبيقها على الواقع المعطى ، وثبت أن مقاساتها لاتلائم الجسم الاقتصادي وأنها غريبة عنه مثل محاولة تركيب عضو غريب في جسم الانسان . نجح ماركس في التوصيف والتحليل والتشخيص وفشل في المعالجة التي جاءت سما ووبالا وزادت المشكلة تعقيدا واتساعا وعمقا ، وأسفر عن أمراض أخطر وأشد ضررا ، مايبرهن على أن للجسم الاقتصادي مناعته الذاتية ، وأسلوبه الخاص في تحقيق توازناته الداخلية عبر تناقضاته نفسها التي حاول ماركس إخراج المجتمعات منها ، لكن المجتمع باعتباره الفاعل الأساسي في العملية الاقتصادية بتنوعه يعبر عن عدم توازنه بسلوك تأزمي إلى أن يستعيد عافيته وتوازنه من جديد . 7 إن الصراع الاجتماعي الناتج عن الخلل في الصيرورة الاقتصادية .. ينتهي بشكل أو بآخر بالتصحيح والإصلاح الذاتي ، حتى استعادة الاستقرار والتوازن والحركة الطبيعية . كالنهر الذي يتكيف بالتغير مع تضاريس الوادي الذي يحتله في جريانه . وهوماحدث في البلدان الرأسمالية المتقدمة ، التي تغلبت عبرأطوار تطورها وأزماتها على مساوئ وسلبيات أنظمتها الاقتصادية بسبب كونها تمتلك آليات تصحيح وإصلاح نفسها بنفسها ، والارتقاء نحو شكل أفضل وأكثر توافقا وتلاؤما مع متطلبات الواقع . وحققت درجة من العدل الاجتماعي الاقتصادي بعد أن ثبت الترابط الحيوي الوثيق بين الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي ودوره في الأمن والاستقرار ورفع الإنتاجية العامة ، والصحة العامة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . وهو مايصب في مصلحة الفرد وفئات المجتمع كافة بشكل مباشر وغير مباشر . إن الحياة الاقتصادية والاجتماعية وجهان لكينونة كلية واحدة ، وأي مرض أو خلل يصيب الحياة الاقتصادية .. لابد وأن يعبر عن ذلك بصورة اجتماعية ، والعكس صحيح تماما . وإن وعي هذه العلاقة الجدلية يسهم في تحقيق التوازن والاستقرار والنمو الطبيعي المطرد . إن الإنسان لايستطيع إن يلغي قوانين الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية بل يتعامل معها يكيفها ويتكيف معها وفقا للمكن من جهة وطبقا لاحتياجاته من جهة ثانية . وإن دور الإنسان هو اكتشاف القانون لاخلقه لأنه موجود بذاته وبمعزل عن الإنسان ، أما القانون الاقتصادي فهو موجود بفعل النشاط الإنساني وليس بمعزل عنه ، وهذا لايغير في الأمر شيئا من حيث أن الإنسان هو جزء من القانون لا بإرادته المحضة بل لمجرد وجوده ونشاطه الضروري في الواقع ، تدفعه حاجاته للبقاء وتحدد سلوكه . إن الإنسان لا يستطيع إلغاء الريح والزلازل وأشعة الشمس والبرد وتنوع الأقاليم مناخيا ، إنه يفيد من الريح ويستخدم قوتها وقدرتها على توليد الطاقة الميكانيكية والفيزيائية بل والكهربائية ، ويتقيها ويتحاشى أضرارها عندما تتحول إلى عواصف وأعاصير ، كذلك الشمس نتحاشى حرارتها ونستخدم طاقاتها للتدفئة وتوليد الطاقة ، ونتكيف مع الحياة في المنطقة القطبية الباردة ، أو مع ارتفاع الحرارة في المنطقة الاستوائية ، وتلك هي الحال مع الواقع الاقتصادي نستثمره لفائدتنا نكيفه لمصلحتنا ، وأحيانا نضطر للتكيف معه ونتحاشى سلبياته ونعالج آثاره السلبية عند الضرورة . ولايتحقق ذلك بالرغبات والتمنيات بل بالتشخيص الصحيح والعلاج الصحيح . مثلا قد يتمنى بلد صغير متخلف أن يضارع البلدان المتطورة ويتفوق عليها من حيث القدرة الاقتصادية أو سواها من القدرات ، فهل يمكن تحقيق هدف كهذا مع فقدان المقومات والشروط والإمكانات المتاحة ؟ يمكن للمجتمع أن يدفع بالواقع الاقتصادي نحو التقدم والنمو المطرد . ولكن ضمن الحدود المتاحة والممكنة ، أما القفز فوق هذا الاعتبار ، وتحميل الواقع الاقتصادي أعباء تفوق قدرته على تحملها ، فهذا مايؤدي إلى الفشل والإضرار بالجسم الاقتصادي ككل ، وقد يصاب بمرض: " الديسك" ( مرض يصيب العمود الفقري) الاقتصادي ، فيعيق الجسم الاقتصادي عن أداء عمله الطبيعي المطرد . كان رهان البلدان الاشتراكية يقوم على خنق السوق التبادلية الحرة ، ولكن التاريخ برهن على أنه كان رهانا خاسرا من البداية وحتى النهاية الفاجعة التي أودت بالنظام الاشتراكي وبالقوى الاجتماعية الحامية والمؤيدة له ، وسقط سياسيا ، ومن ثم اجتماعيا واقتصاديا إلى غير رجعة ..وثبت أن للسوق قوته وغرائزه التي لو تعرضت للكبت استحالت إلى مظاهر ومنافذ أخرى ، تفرغ شحناتها عبرها . من تلك المظاهر الانحرافية المرضية : التهريب والسوق السوداء ، وتشوهات التنمية والانتاج ، والعطالة التي تصيب الاقتصاد ككل وكأجزاء مكونة ، والتي تعبر عن نفسها بانتشار الفساد وتضخم العمالة والبيروقراطية وترهل البنى والمؤسسات والنمو بالعجز ، والخسائر في المشروعات ، والروتين والرشاوى وازدواجية الأسعار أو حتى تعددها بالنسبة للسلع والخدمات والنقد الأجنبي ، ولايمكن لأي قرارات حكومية مهما كانت زاجرة أن تعطل هذه المفاعيل أو تلغيها ، لأن ذلك لايتعلق بالرغبة والإرادة ، بل بعلاج جذري للأسباب التي يولدها الواقع ، وكلما اشتدت القرارات ضد قوانين السوق ، كلما ضاقت الدائرة المستفيدة من السوق السوداء ، وازداد النهب والسلب واحتكار التهريب من قبل رأس الهرم السلطوي الذي يتحول إلى حاميها حراميها ، ويصبح محورا لآليات النظام الاقتصادي المغلق والمسير بطريقة تتعارض مع القانون الطبيعي العام للاقتصاد . إن الاقتصاد كالإنسان ، إذا مرض لايعالج بالأمر والنهي والعقاب والثواب ، بل بالتشخيص والإجراءات العلاجية الدوائية وأحيانا الجراحية التي تستأصل المرض وتجتث العلة من جذورها . ودور السياسة الاقتصادية يشبه دور السياسة الطبية المتبعة مع المريض ، فإن كانت أقرب مايمكن للواقع والحقيقة والحكمة ، أفضت إلى الشفاء ،وإن حدث العكس أفضت إلى تفاقم المرض وربما ينتهي بالموت . والموت باعتباره تحولا من صيغة الوجود الحيوي إلى صيغ عضوية أخرى ، كذلك هو الموت الاقتصادي ، إنه التحول من صيغة بائدة إلى صيغة مختلفة وجديدة ، وهذا يعني أن الموت الاقتصادي لايعني الفناء ، أو التحول من الوجود الاقتصادي إلى العدم الاقتصادي ، إذ لاوجود لما هو غير موجود أصلا ، وما هو موجود أصلا لايفنى أو يتحول إلى لا وجود " حسب لافوازييه" ، والموت ماهو سوى تحول من صورة قائمة إلى صورة جديدة منبثقة عن الصورة القائمة الحاضنة للصورة الجديدة ، وهذه الأخيرة تعيد تشكيل العناصر المكونة للصورة الأم ، لتكوين مخلوق مختلف وقادر على توليد صور تحل محله في المستقبل . إنها عملية إنجاب متسلسلة ومستمرة ، وهي سنة التطور المادي والمعنوي الديالكتيكي . إذن تتم عملية نفي الشكل الاقتصادي المستنفذ لمقومات بقائه ، من أجل توليد وتثبيت كينونة أخرى تحمل كل مقومات الحياة الطبيعية . الموت هو موت الصورة ، وليس العناصر المكونة لها ، لأن العناصر باقية .. سرمدية من حيث هي جوهر مطلق الوجود ، على العكس من الشكل أو الصورة التي تتبدل: تولد .. تنمو .. تشيخ .. تموت وتزول . إنها تظهر وظهورها عرضي طارئ مهما امتد عمرها ، الصورة وحسب هي التي لها عمر ، أما الجوهر فعمره مطلق . وعليه فإن فناء الكينونة ماهو سوى فناء لشكلها وصورتها ، وليس لعناصرها الجوهرية التي تدخل مجددا في تركيب الصيغة الجديدة . فيموت نظام ويولد منه نظام ، ومن الميت يولد الحي ، والموت هو حالة انتقال من حالة حياة إلى حالة حياة مختلفة ، حيث تختفي الصورة لتظهر الأخرى . أمراض شتى تصيب الجسم الاقتصادي كالتضخم والركود وفيض الإنتاج( التخمة إذا صح التعبير) الخ . وجميع البلدان تعاني من هذه الأمراض بنسب متفاوتة من العمق والشدة والشمول . وقد يعبر المرض الحدود ليجتاح بلدانا .. بل والعالم كله . وكما أن المرض كثيرا مايفاجئ الإنسان قبل أن يدركه بأعراضه ، كذلك حال الاقتصاد يداهمه المرض ويتمكن منه ، ثم يعبر عن ذاته بأعراضه الكارثية أحيانا ، وبشكل مفاجئ إلى حد كبير ، وهو مايؤكد حقيقة موضوعية القانون الاقتصادي العام ، والذي يبدو وكأن الإنسان هوالذي يصنعه بإرادته ، بينما الحقيقة هي أن الإنسان عامل أساسي في صنع القانون الاقتصادي ولكن ليس بإرادته المحضة ولا بوعيه المحض ، تماما كما تؤدي بعض وظائف الأعضاء في الجسم الإنساني عملها بشكل لا إرادي ، بمعزل عن تدخل إرادته ووعيه المسبق . فهو ، أي الإنسان ، في سياق العملية الاقتصادية ، هو فاعل ومنفعل ، فاعل ومفعول به إذا جاز التعبير ، وبالتالي يكون الإنسان يمارس فعلا " لازما" يندمج فيه الفاعل بالمفعول به في كيان واحد متحد : نام ، قام ، عام ، وهي أفعال لازمة لاتحتاج إلى مفعول به ، وهكذا هي حال الفعل الإنساني الاقتصادي ، والذي هو فعل موضوعي إلى درجة كبيرة ، يقتصر فيها الوعي على التدخل السلبي وأحيانا الإيجابي في سيرورة العملية الاقتصادية ، ومع كل هذا ، كثيرا مايفقد الإنسان كمجتمع ونظام السيطرة على الحصان الاقتصادي ، في حالات تشبه حالات الحرن أو الجموح ..الخ . إن الإنسان لايخلق أويصنع القانون الاقتصادي إلا بقدر مايخلق ويصنع ذاته ، وإمكانية تحكمه بالقانون الاقتصادي كإمكانية تحكمه بذاته جسدا وروحا . إنها إمكانية موجودة نسبيا على الرغم من كونه محصلة للسابق (وراثة .. بيئة .. الخ ) ومنتج للاحق . إن الإنسان لايستطيع التحكم المطلق والسيطرة الكلية بذاته جسدا وروحا ، ولابمحيطه الضيق والواسع . ومن الطبيعي أن يفلت زمام الأمور من يده حيال حركة وحياة جسده ، وحيال حركة وحياة وجدانه وكينونته النفسية . إن سيادة الإنسان على ذاته ومجتمعه نسبية ، هو فاعل ومنفعل ، خالق ومخلوق لكينونته المادية والمعنوية ، لامن حيث كونه فردا وحسب ، بل ومن حيث كونه جزءا مكونا وعاملا ومؤثرا في الجماعة والمجتمع ، وهذا هو شأن الحياة الاقتصادية وقوانينها ،والتي يعتبر الإنسان محركا أساسيا لها ، لابإرادته المطلقة ، بل النسبية ، ولو اعتبرنا المجتمع كائنا كليا عاما من مجموع الأفراد ، فكيف للفرد من حيث هو جزء أن يحدد الكل ؟ الجزء يؤثر في الكل نسبيا وليس بشكل رئيسي وكلي ووحيد ، وقد ينبذ الكل الجزء إن شذ عن النظام الكلي . ولايستطيع الفرد ،ولافئة أو شريحة تقرير المسار العام لمصير المجتمع وأنشطته الاقتصادية بالمطلق . ودونما اعتبار للقوة المعاكسة النابذة للوحدة الكلية وقوانينها العامة المستقلة نسبيا عن القانون العام للفرد الجزء المكون له مهما كانت مشيئته . المجتمع الاقتصادي يتحرك وفق أسس موضوعية محددة لاقبل لأحد بالتمرد عليها أو محوها وشطبها واقتلاعها ، ولنضرب مثلا آخر على استقلالية القانون الاقتصادي العام في إطار السياق السابق ، فالحكومات في جميع البلدان لم تستطع نفي ظاهرة تدعى التضخم الاقتصادي ، وهو المرض المزمن الملازم للاقتصاد الرأسمالي ، والمفارقة هي أننا لانستطيع التخلص من التضخم لأنه كتناقض هو قاعدة النظام الرأسمالي ، التضخم هو تناقض ضروري بين كونه داء ودواء في آن معا للحياة الرأسمالية ، وهنا يصح قول القائل :" وداوه بالتي كانت هي الداء" ، هذه الحكمة المعروفة والشائعة بالتراث ا لفكري العربي تلخص ضرورة مبنية على الديالكتيك الهيغيلي الكلي ، والتي هي قاعدة كلية ، ومن هنا فإن التضخم هو خاصية النظام الرأسمالي ، التي لا قبل لأحد أو نظام الهروب من استحقاقاتها ومتطلباتها في السياق الطبيعي ، أو في سياق الأزمات والتقلبات المفاجئة كما ونوعا . التضخم إذا هو داء بالنسبة للمتضررين منه ، ودواء وعلاج لابد منه لاستعادة التوازن بعد الاختلالات البنيوية الكمية والنوعية التي تطرأ على الحياة الاقتصادية والتي تشبه الزلزال أحيانا . ويعبر التضخم عن نفسه بصورتين رئيستين : انخفاض القيمة الشرائية للأوراق النقدية من جهة ، وارتفاع أسعار السلع والخدمات من جهة ثانية ، إنهما صورتان متناسبتان عكسا . وتلجأ الحكومات للعلاج بالتضخم مرغمة ، إنه يتحدة التشريعات الحقوقية وسلطة القيادات السياسية والاقتصادية ، وهذا يؤكد أن الظاهرات الاقتصادية هي التي تفرض تشريعاتها وقوانينها وسلطتها على الواقع في النتيجة . وتفرض احترامها والتقيد بها على الحكومات وأنواع السلطات . إنها تفرض شروطها وحتميتها بكل الحالات والأشكال العادية والاستثنائية . لقد عانت الولايات المتحدة من التضخم كغيرها من بلدان العالم ، وبلغ معدله أكثر من عشرة أضعاف منذ السبعينات من القرن الماضي ، مع العلم أن لدى الولايات المتحدة قيادة سياسية اقتصادية متفوقة في أدائها وإدارتها ، وتملك إمكانيات البحث والتحليل والتضخيص والتنبؤ ورصد حركة سير الواقع الاقتصادي ، وتحديد سموته القائمة والمحتملة ، ومع كل ذلك لم تفلح الإدارة الأمريكية من كلح جماع التضخم ، والسيطرة على العجز بأنواعه ، وبالطبع ليست الولايات المتحدة هنا أكثر من مثال نموذجي يضيء الهدف من هذا السياق البحثي الذي أعتبره مجرد محاولة لإضاءة فكرة محددة . إن جميع البلدان تعاني ذات المشاكل ، وبعضها بنسب ودرجات خطرة . إذا كان التضخم في الولايات المتحدة قد بلغ عشرة أضعاف ، فإنه تجاوز هذا الحد في الكثير من البلدن الأخرى ، كالبرازيل وتركيا وفرنسا ، والعديد من البلدان النامية تجاوز فيها المعدل المائة ضعف . كل ماسبق يؤكد أن دور الإنسان كفرد أو سلطة عامة في الاقتصاد هو دور مندمج فيه ، وقد يكون إيجابيا أو سلبيا . والدور السلبي منفعل ، أما الإيجابي فهو فاعل ومنفعل معا ويصورة متزامنة ومتوازنة .. تسير على ساقين للتناقض المتلازم والصحي والصحيح للحركة الاقتصادية ، الدور الإيجابي هو دور تفعيلي إبداعي ، يرتكز على وعي الضرورة الاقتصادية من خلال مراقبتها واستقرائها ودراستها وتحليلها واستنباط قوانينها ،ومن ثم التنبؤ بآفاق تلك الحركة ، ونتائجها القريبة والبعيدة ، مايتيح للإدارة السياسية الاقتصادية القدرة على البرمجة والتخطيط للحاضر والمستقبل القريب والبعيد ،وهذا الدور الإيجابي وقائي ، يتحاشى ماأمكن القفز فوق الواقع الاقتصادي وتجاهل حاجاته وشروطه ومتطلباته . هو يعمل بمقتضاها ، وطبقا للإمكانات المتاحة ضمنها ، وهو لايقف في وجه الحركة ، بل في الاتجاه نفسه ، أي معها وليس ضدها بالمعنى النسبي لا المطلق . إنه يقودها .. يوجهها ضمن الممكن ، وإلا فإن الحركة الاقتصادية ستتمرد ، وتفرض نفسها وسياقها ، ستجمح وتتمرد ، وتجرف كل مايقف في وجه سيلها الندفع . أنا أتعامل مع الأشياء ، ولكنني لست خالقها ، بل أنا مجرد مخلوق مثلها تماما ، وهذا هو شأن الظاهرات الاقتصادية ، نتعامل معها ، نتداخل بها ، نشكلها وتشكلنا رغما عنا ، تماما كما أننا نعيش ونموت رغما عنا ، ورغم أننا نتصرف بما يحقق الحياة والموت بغض النظر عن وعينا لهما أو إرادتنا حيالهما ، فالقرار موضوع وموجود مسبقا ، ونحن ننفذه ، ترغمنا على تنفيذه غرائزنا ودوافعنا وقوانين وجودنا البيولوجي . من منا يستطيع أن يلغي قانون الأكسدة من الطبيعة ؟ من يستطيع أن يجعل الخشب ينصهر كالحديد ، أو يذوب كالثلج ، تلك إمكانية لاوجود لها ، إلا كفكرة متخيلة ، ولكننا نستطيع أن نحول الخشب إلى طاولة وكرسي وخزانة الخ وهكذ الاقتصاد يملك شرعته وإمكاناته التي لايمكن تخطيها . إن الصحة الاقتصادية الاجتماعية تقوم على الواقع المعطى من جهة ،وعلى التدخل الواعي المدرك والرشيد للإنسان من جهة ثانية ، وهو مضمون وهدف علم الاقتصاد بأنواعه واختصاصاته ، ومن حيث كونه علما نظريا وتطبيقيا تجريبيا أيضا .
#رياض_خليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن - الكرنفال- يكتب الشاعر فيصل خليل:
-
المحارب: شعر
-
النار: شعر
-
الوحش
-
الغريق: شعر
-
لن أختم القصيدة
-
رحلة إلى الجزيرة
-
البحر-:شعر
-
الملك: شعر
-
الكرنفال: شعر
-
سورة الألق: شعر
-
أيها العندليب: شعر
-
أضعتك لحظة مني
-
السؤال: شعر
-
الجريمة: شعر
-
مشاهد الجسد: المشهد الأول : شعر
-
مشاهد الجسد: شعر
-
طائر الكلمات:شعر
-
الرجل المسافر: قصة قصيرة
-
الصندوق : قصة قصيرة
المزيد.....
-
محللون: إسرائيل تعيد إنتاج معادلة جديدة مع حزب الله
-
إسرائيل تعفي السلع الأمريكية من جميع الرسوم
-
البيت الأبيض: عمليات النصب علينا انتهت وغدا يوم تاريخي للاقت
...
-
المركزي يُعلن موعد عودة عمل البنوك الحكومية والخاصة
-
النفط يرتفع وسط ترقب تبعات رسوم ترامب الجمركية والعقوبات
-
المقاطعة الأوروبية لأميركا تمتد إلى السياحة
-
بريطانيا تعلق صادرات الأسلحة لإسرائيل وتنتقد ما تفعله الدولة
...
-
الاتحاد الأوروبي يلوح بـ-خطة قوية- جاهزة ردا على رسوم ترامب
...
-
ثاني أيام العيد.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 1-4-2025
-
يوم التحرير أم يوم العزلة؟.. أفكار مهمة عن -يوم تحرير أمريكا
...
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|