أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد البشيتي - دفاعاً عن -مادية- المادة.. في الفيزياء!















المزيد.....



دفاعاً عن -مادية- المادة.. في الفيزياء!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3496 - 2011 / 9 / 24 - 10:30
المحور: الطب , والعلوم
    



عالَمُنا، ومن وجهة نظر مكانية فحسب، يتألَّف من ثلاثة أبعاد، هي: الطول، والعرض، والارتفاع (أو السُّمْك، أو العُمْق).

إنَّه "الجسم" الذي فيه تَجْتَمِع "الأجسام" بكل حجومها وأنواعها (كالمجرَّات والنجوم والكواكب والجزيئات والذرَّات والإلكترونات والبروتونات والنيوترونات..).

و"الجسم"، مع "مُصَغَّره"، وهو "الجسيم"، ليس "سَطْحاً" فحسب؛ لكنَّه يشتمل، حتماً، على "السَّطْح" ببعديه (الطول والعرض).

إنَّ "السَّطْح"، مهما اتَّسَع أو ضاق، ومهما رَقَّ وترقَّق، لا بدَّ له من أنْ يَشْتَمِل على "البُعْد (المكاني) الثالث"، أي "السُّمْك"، أو "العُمْق"؛ فـ "الجسم"، أو "الجسيم"، الذي له "طول" و"عَرْض" فحسب، أي لا يَشْتَمِل، في الوقت نفسه، على "السُّمْك"، أو "العُمْق"، أو "الارتفاع"، إنَّما هو جسم لا وجود له في الكون؛ لم يُوْجَد قط، ولن يوجد أبداً.

وهذا إنَّما يعني، أيضاً، أنْ لا وجود أبداً لجسمٍ (أو جسيمٍ) بلا حجم، ولو كَرِه جمهور الفيزيائيين الذين يقولون بشيءٍ (Singularity) يَفْنى فيه "الحجم"، فيزيائياً ورياضياً، أو يغدو "مُطْلَق الكثافة".

"الجسم"، أو "الجسيم"، وعلى استحالة نفيه "واقعياً"، على ما أرى وأعتقد، نُفِيَ (ولو جزئياً) نظرياً؛ فثمَّة فيزيائيون وكوزمولوجيون توفَّروا على إنشاء وتطوير نظريات مؤدَّاها أنَّ "فناء الحجم" هو أمْرٌ ممكن، وحتمي، فيزيائياً وواقعياً، فـ "النقطة (Singularity)" من "الثقب الأسود" Black Hole، هي "شيء" يُمثِّل "الكثافة المُطْلَقة"؛ لأنَّه اجتماع "الكتلة"، أكانت من الكِبَر بمكان أم من الصِّغَر بمكان، و"فناء الحجم".

لكنَّهم جعلوا هذه "النقطة (عديمة الحجم، مُطْلَقَة الكثافة)" جزءاً من كُلٍّ؛ وجعلوا لهذا "الكُلِّ"، وهو "الثقب الأسود"، "حجماً".

لقد تخيَّلوه (نظرياً) جسماً كروياً، له "مركز"، هو تلك "النقطة"، وله "سطح (افتراضي، رياضي)"، يسمَّى "أُفْق الحدث" Event Horizon، وله، من ثمَّ، "نصف قطر (Schwarzschild radius)". و"نصف القطر" هذا يمتدُّ (من "النقطة المركزية" إلى "السَّطح") في "فضاء خالصٍ خالٍ" Empty Space.

في "النقطة المركزية"، والتي هي جزء من "الثقب الأسود"، "أعْدموا" الحجم، أي المكان بأبعاده الثلاثة؛ لكنَّهم، في "الكُلِّ" أبقوا عليه، مُدْخلين فيه خاصِّية عجيبة هي "قابليته لنُمُوٍّ لا نهائي"؛ فحجم، أو نصف قطر، "الثقب الأسود" يمكن أنْ ينمو نُمُوَّاً لا نهاية (ولا سَقْف) له من خلال استمراره في التهام "المادة"؛ فإنَّ كل "مادة" يلتهمها تُنَمِّي كتلة "النقطة المركزية (عديمة الحجم، مُطْلَقَة الكثافة)"، فيَنْمو حجم، أو نصف قطر، "الثقب الأسود".

وهذا إنَّما يعني نظرياً، أي في نظريات "نجح" أصحابها في الانتقال من "الخيال العلمي" إلى "العلم الخيالي"، أنَّ كل المادة في الكون يمكن إدخالها في "النقطة المركزية (Singularity)" لـ "ثقب أسود" في منتهى الصِّغَر، كتلةً وحجماً، فيصبح، من ثمَّ، "الثقب الأسود" الأضخم، كتلةً وحجماً، أي أنَّه يظلُّ، مع ذلك، مُحْتَفِظاً بماهيته وخواصِّه الجوهرية نفسها!

حتى هذا "الحجم"، أو "نصف القطر (Schwarzschild radius)"، "أعدموه" في "النقطة الكونية"، أو "البيضة الكونية"، التي منها انبثق الكون، بحسب نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang؛ فهذه "النقطة العجيبة (Singularity)" عُرِّيَت، في تلك النظرية، من "ثيابها"، أي من "السَّطح"، أو "أُفْق الحدث"، ومن "نصف القطر"، وجَعَلوا من تلك "التعرية" فَرْقاً جوهرياً "النقطة الكونية" و"النقطة المركزية" في "الثقب الأسود".

أمَّا "المُشْتَرَك" بين "النقطتين" من خواصَّ وسمات فأبقوا عليه؛ فكلتاهما تُمثِّل "الكثافة المُطْلَقَة"، و"المادة" التي فَنِيَ فيها "الحجم"، أو "المكان بأبعاده الثلاثة"، وفَنِيَ فيها، من ثمَّ، وحتماً، "البُعْد الرابع"، أي "الزمان".

ولكَ أنْ تتخيَّل، بعد ذلك، وإذا ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، تلك "النقطة الكونية"، بـ "مادتها غير المادية"، أي بمادتها "محدودة الكتلة (على عِظَمِها)"، "مُطْلَقَة الكثافة"، "عديمة الحجم"، "عديمة الجسمية (أو الجسمانية)"، و"عديمة المكان والزمان".

وإيَّاكَ أنْ تَقَع في "التناقض المنطقي" الذي وَقَعوا فيه إذ تصوَّروا "النقطة الكونية" على أنَّها (في إحدى خواصِّها الجوهرية) الانحناء المُطْلَق لـ "الزمكان (اجتماع واتِّحاد واندماج الزمان والمكان)" Spacetime؛ فهل من وجودٍ لـ "انحناء بلا مُنْحَنٍ"، أي بلا مكان وزمان؟!

وإنَّ من السُّخْف بمكان أنْ يتصوَّروا تلك "النقطة" على أنَّها (وفي خاصية جوهرية أخرى لها) الجاذبية المُطْلَقَة؛ فلا وجود للجاذبية حيث يَنْعَدِم انحناء "الزمكان"؛ لانعدام "الزمكان" نفسه.

جمهورٌ آخر من الفيزيائيين حارب "جسمية (أو جسيمية)"، أو "جسمانية"، المادة في طريقة (نظرية) مختلفة؛ فأنشأ وطوَّر نظرية "الخيوط (الأوتار)" The Superstring theory.

هذا الجمهور رَفَض الاعتراف بـ "جسيم ديمقريطس"، أي "الجسيم الأوَّلي (البسيط، غير المُركَّب)"، كالإلكترون والكوارك، على أنَّه "أصْل" المادة، أو "أبجديتها"، متصوِّراً المادة، في مبتدأها، على أنَّها "خيوط".

نظرية "الخيوط" تَجْعَل "الجسيم الأوَّلي"، كالإلكترون، "غير أوَّلي"؛ فـ "المادة"، في مكوِّناتها الأولية والأساسية، تتألَّف، بحسب هذه النظرية، من "خيوط"، وليس من "جسيمات (أوَّلية)".

"الخيط (أو "الوتر"، أو "الشُّعيرة")" هو أصغر جزء (على الإطلاق) من المادة؛ إنَّه متناهٍ في الصغر، طولاً؛ فـ "الخيط"، الموجود في حالة "اهتزاز" دائم، هو، لا "الجسيم الأوَّلي، الجزء الأصغر من المادة.

و"الخيط"، من حيث "الماهية" و"النوع" هو واحد أحد، لا ينقسم، ولا يتجزَّأ؛ لأنَّه الجزء الأصغر (على الإطلاق) من المادة؛ لكنَّه "يهتز" في استمرار.

"المُركَّبات" من المادة هي في أصلها "خيوط" تتَّصِل وتتَّحِد؛ وقد تتقطَّع وتتكسَّر وتتمزَّق صلاتها؛ وقد تعود "الخيوط" إلى الاتِّصال والاتِّحاد؛ وبحسب "اتِّصالها" و"انفصالها" و"اهتزازها"، تَكْتَسِب "الخيوط" خواص هذا الجسيم، أو ذاك، أو ذلك.

حتى "الجسيمات عديمة الكتلة (أي عديمة كتلة السكون)"، كالفوتون، تتألَّف من "خيوط".

ولأسباب مختلفة، منها "الاهتزاز"، تتقطَّع وتتمزَّق وتتكسَّر الصِّلة بين "الخيوط"؛ لكَّنها (أي "الخيوط") يمكن أن تعود إلى الاتِّصال والاتِّحاد، مكوِّنةً "مُركَّبات" جديدة من المادة.

بفضل هذه النظرية (نظرية "الخيوط") نتصوَّر "المادة"، في أصلها، ومبتدأها، وأبجديتها، على أنَّها "خيط"؛ لكنَّ هذا التصوُّر"، الذي قد يكون سليماً، يغدو خاطئاً إذا ما تصوَّرنا، أو صوَّروا لنا، "الخيط" على أنَّه مفهوم مضاد لمفهوم "الجسم (أو الجسيم)"، أو لمفهوم "الجسمية (أو الجسمانية، أو الجسيمانية)"، أو لمفهوم "الحجم"؛ فـ "الخيط"، ولو كان، أو لو صحَّ كونه، الجزء الأصغر (على الإطلاق) من المادة، "المهتز" دائماً، والذي هو نفسه، دائماً، من حيث "الماهية" و"النوع"، فليس ثمَّة ما يجيز تصوُّره على أنَّه مادة لا تتألَّف من أبعاد المكان الثلاثة (الطول والعرض والسُّمك).

إنَّ المادة، ولو كانت "الخيط"، لا يمكن، ولا يجوز، تصوُّرها على أنَّها شيء فاقِدٌ ولو لبُعْدٍ واحدٍ من أبعاد المكان الثلاثة؛ فهي إمَّا أنْ تكون موجودة بهذه الأبعاد الثلاثة (غير القابلة للاجتزاء أبداً) وإمَّا ألاَّ تكون موجودة.

و"الجسمية (أو الجسمانية، أو الجسيمانية)" هي "مبدأ وجود" لا تشذُّ عنه، ولا يمكنها أنْ تشذَّ عنه، حتى "الطاقة"، فـ "الطاقة"، والتي هي جزء لا يتجزَّأ من مفهوم "المادة"، لا تُنْقَل، ولا تُحْمَل، ولا تُشْحَن، عبر الفراغ، أو الفضاء، إلاَّ بـ "عربات" هي "جسيمات"، كجسيم الفوتون.

إنَّ كل شيء في الكون (كل جسم، وكل جسم) له أربعة أبعاد متَّحِدة اتِّحاداً لا انفصام فيه، وهي "الطول" و"العرض" و"السُّمك" و"الزمن"؛ فالجسم، أو الجسيم؛ ولأنَّه "مادة"، ينبغي له أنْ يَشْغُل حيِّزاً (فضاءً، فراغاً) وأنْ يكون له، من ثمَّ، ثلاثة أبعاد مكانية، يتِّحِد معها اتِّحاداً لا انفصام فيه بُعْد "الزمن".

و"الأبعاد المكانية الثلاثة" هي ما يَجْعَل للجسم (أو الجسيم) حجماً؛ وهذا الحجم يمكن أنْ يزيد أو ينقص؛ لكنَّه مهما نَقَص لا يصل، ولا يمكن أنْ يصل، إلى "الصِّفْر" بمعناه الميتافيزيقي، فالحجم يتضاءل؛ لكن لا ينعدم.

"العدد" الذي يُعبِّر عن الحجم يمكن أنْ يتضاءل، ويستمر في التضاؤل؛ لكنَّه مهما تضاءل لن يصل أبداً إلى "العدد الذي لا يُمْكِنه التضاؤل أكثر"؛ فإنَّ "تضاؤل العدد" غير قابِلٍ للنفاد؛ لأنَّ "المادة"، بجانبيها "النوعي" و"الكمِّي"، غير قابلة للنفاد.

وأحسب أنَّ الحاجة، فيزيائياً وكوزمولوجياً، تشتد إلى نَبْذ مفهومي "انعدام الحجم"، و"الكثافة المطلقة"، في "النقطة المركزية (Singularity) من "الثقب الأسود".

"المنطق الميتافيزيقي" عاث فساداً أيضاً في مفهوم "السَّطح"، فنشأ في "الذِّهن (وفي الذِّهن فقط)" مفهوم "السَّطح الخالص"، الذي لا وجود له أبداً في "الواقع الموضوعي" للكون؛ لأنْ لا وجود لشيء (لجسم، أو لجسيم) له "طول" و"عرض"؛ لكن ليس له "سُمْك".

الشيء، ومهما ترقَّق، أي أصبح رقيقاً، لن يَفْقِد أبداً بُعْد "السُّمْك"، ويصبح، من ثمَّ، "سطحاً خالصاً"، له "طول" و"عرض" فحسب.

لو كنتَ على سطح كوكب، أو في أيِّ موضع في الفضاء، فإنَّكَ تستطيع السَّير إلى الأمام، أو إلى الوراء، إلى اليمين، أو إلى اليسار. وهذا "السَّيْر السَّطحي" قد يكون في "خطٍّ مستقيم (أو في سلسلة من الخطوط المستقيمة)"، أو في "خطٍّ مُنْحَنٍ (أو في سلسلة من الخطوط المنحنية)"، أو في "سلسلة، بعضها من الخطوط المستقيمة، وبعضها من الخطوط المنحنية".

لكنَّك، في الوقت نفسه، يُمْكِنكَ السَّيْر في البُعْد المكاني الثالث، أي في البُعْد المسمَّى "السُّمْك"؛ فأنتَ تستطيع السَّير إلى أعلى وإلى أسفل.

وبحسب نظرية "انحناء الكون"، لا بدَّ لكَ من أنْ تعود (نظرياً) إلى النقطة التي منها ابتدأ سَيْرك.

سِرْ (واسْتَمِرْ في السَّير) في الاتِّجاه نفسه، أي في مسارٍ (أو خطٍّ) مستقيم، إلى الأمام، أو إلى الوراء، إلى اليمين، أو إلى اليسار، إلى أعلى، أو إلى أسفل، تَصِلْ، في نهاية سَيْرِكَ، إلى النقطة التي منها ابتدأ سَيْرك.

مهما سِرْت إلى أعلى (صعوداً) فلن تَخْرُج من الكون؛ لن تَصِلَ إلى "فضاء آخر"؛ لأنْ لا فضاء يُمْكِنك الاتِّصال به إلاَّ فضاء كوننا؛ وللسبب نفسه، لن تَصِل إلى "مركز" الكرة الكونية، أو إلى "الفضاء الافتراضي" في داخل هذه الكرة، إذا ما كانت كرة، مهما سِرْتَ إلى أسفل (أي نزولاً).

مفهوم "الحجم (Volume)" كان من جُمْلِة المفاهيم الفيزيائية التي شَمِلَتْها الثورة الفيزيائية الكبرى التي عَرَفَها القرن العشرين؛ وثمَّة من يرى في ما حلَّ بهذا المفهوم من تغيير عميق وواسع ثمرة من ثمار نظرية "النسبية العامة" لآينشتاين، أو عاقبة نظرية (حتمية) لها؛ لكنَّ هذا التغيير لم يُرَ واضحاً جليِّاً إلاَّ في نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، وفي نظرية "الثقب الأسود" Black Hole.

أمَّا جوهر التغيير الذي اعترى مفهوم "الحجم" فهو "تصفيره"، أي جعله "صِفْراً" في قيمته؛ فانهيار المادة على نفسها (في نجم ضخم الكتلة مثلاً) يمكن أنْ ينتهي (على ما يزعمون) إلى نشوء جسمٍ "عديم الحجم"، أو "صِفْرِيِّ الحجم".

في التعريف الفيزيائي لـ "المادة" Matter، أو في بعضٍ منه، تُعَرَّف "المادة" على أنَّها "كل شيء يَشْغُل حيِّزاً (مكاناً)"، أي كل شيء (أو جسم) يَشْغُل، أو يملأ، فراغاً، أو فضاءً.

ومن هذا التعريف يمكننا وينبغي لنا أنْ نستنتج أنَّ "الفضاء (أو الفراغ)" نفسه غير مشمول بالتعريف الفيزيائي لـ "المادة"؛ فـ "المادة" هي ما يَشْغُل (أو يملأ) الفضاء، الذي لا يمكن، من ثمَّ، أنْ يكون هو نفسه "مادة"، أو من "جنس المادة"؛ وهذا عَيْبٌ من عيوب هذا التعريف، أو وجه من أوجه القصور فيه.

ونحن يكفي أنْ نَكْشِف، أو نكتشف، هذا العيب أو القصور حتى نقول بأهمية وضرورة أنْ تعيد الفيزياء تعريف "المادة" بما يسمح بِضَمِّ "الفضاء (أو الفراغ)" نفسه إلى "المادة"، مفهوماً؛ لأنَّه، واقعياً، جزء (لا يتجزَّأ) من "عالَم المادة".

ما معنى أنْ يَشْغُل جسم ما فضاءً (أو فراغاً، أو مكاناً، أو حيِّزاً)؟

معناه، الذي لا ريب فيه، ولا لبس، هو أنَّ لهذا الجسم "حجماً"، أي أنَّ له ثلاثة أبعاد مكانية، هي "الطول"، و"العرض"، و"الارتفاع (أو السُّمك، أو العُمْق)"؛ ونحن نعيش في عالَمٍ يتألَّف من ثلاثة أبعاد مكانية، أضاف إليها آينشتاين "الزمن"، بصفة كونه "البُعْد الرابع" للعالَم، أو الكون. وهذه "الإضافة" ليست بالإضافة الميكانيكية؛ فإنَّ "الأبعاد الأربعة (الطول، والعرض، والارتفاع، والزمن)" تتَّحِد اتِّحاداً عضوياً، أي لا انفصام فيه؛ وهذا "الاتِّحاد" هو ما أسماه آينشتاين "الزَّمكان" Spacetime.

"الفضاء" Space يظل سؤالاً إجابته مُسْتَغْلَقة؛ وتظل كل إجابة (فيزيائية وكوزمولوجية) عن سؤال "ما هو الفضاء؟"، تَلِدُ كثيراً من الأسئلة.

وثمَّة مَنْ يَفْهَم "الفضاء" و"الفراغ" Vacuum على أنَّهما شيء واحد؛ لكنَّ هذا الفهم لا يمكن تبريره والدفاع عنه إلاَّ إذا عَرَفْنا "ماهية الفضاء (أي ما هو)"، و"ماهية الفراغ"، وتوصَّلْنا بعد هذه المعرفة، ومن خلال المقارنة بين الشيئين ("الفضاء" و"الفراغ") إلى أنَّهما شيء واحد؛ و"المقارَنة" إنَّما هي أداة معرفيه، تتوصَّل من خلال استعمالِكَ، وحُسْن استعمالِكَ، لها إلى تَعرُّف أوجه التماثُل (التشابه) وأوجه الاختلاف (التباين) بين شيئين؛ وليس من شيئين في الكون تستحيل المقارَنة بينهما؛ لأنَّ كل شيء يتماثَل في ناحية ما مع كل شيء، ويختلف في ناحية ما مع كل شيء.

إذا تصوَّرنا الكون كله على هيئة بالون يَنْتَفِخ (يتمدَّد، يَكْبُر حجماً) فإنَّنا جميعاً سنسأل، ونتساءل، عندئذٍ، بما يَكْشِف لنا، ويُوضِّح، استعصاء إجابة سؤال "ما هو الفضاء".

بحسب نظرية كوزمولوجية، الكون هو كل شيء؛ كل شيء نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف. والكون ليس البالون كله؛ إنَّه فحسب سطح (أو غشاء) البالون. سطح البالون، حيث يَقَع الكون كله، رُسِمَت عليه دوائر صغيرة (كثيرة). وكل دائرة من تلك الدوائر لا تَرْمُز إلى نجم أو مجرَّة؛ وإنَّما إلى مجموعة (أو تكتُّل، أو زُمْرَة) من المجرَّات. و"الفاصِل" بين كل دائرة وسائر الدوائر (على سطح البالون) إنَّما يَرْمُز إلى ما يسمَّى "الفضاء الكوني"، أي الفضاء بين مجموعات المجرَّات.

وكلَّما انْتَفَخ (أو تمدَّد) البالون رأيْنا هذا "الفاصِل" يتَّسِع؛ ومع اتِّساعه نرى مجموعات المجرَّات تتباعد (وكأنَّها تتنافَر).

البالون العادي (أي "غير الكوني") هو شيء موجود "ضِمْن"، أو "في داخل"، فضاء؛ فإذا تمدَّد، أي إذا نَفَخْته، فإنَّه لا يتمدَّد إلاَّ لكونه موجوداً "ضِمْن" فضاء. والبالون العادي "يَتَضَمَّن" فضاء؛ فالفضاء موجود، ويظل موجوداً، في داخل البالون (العادي) وفي خارجه.
أمَّا البالون الكوني (المتمدِّد في استمرار تمدُّداً متسارِعاً) فلا وجود لفضاءٍ يتمدَّد فيه، أو ضِمْنه؛ كما لا وجود لفضاءٍ ضِمْنه، أي في داخله؛ لأنْ لا وجود لفضاء غير ذاك الفضاء الفاصِل بين "الدوائر" المرسومة، أو الموجودة، على سطح البالون؛ والكون كله، أي كل شيء، لا وجود له إلاَّ في (أو على) هذا السطح.

الكون يتمدَّد؛ لكن ليس "في"، أو "ضِمْن"، الفضاء، أو فضاء؛ لأنَّ الفضاء جزء من الكون؛ وليس من المنطق في شيء أنْ يتمدَّد "الكل (أي الكون)" ضِمْن "الجزء (أي الفضاء)".

إنَّ عليكَ أنْ تتخيَّل (إذا ما استطعتَ إلى هذا التخيُّل سبيلاً) الكرة الكونية الضخمة (إذا ما كان الكون على هيئة كرة) تتمدَّد، وتَكْبُر حجماً؛ لكن من غير أنْ تكون "ضِمْن" فضاء آخر، ومن غير أنْ تكون (أيضاً) مشتَمِلَة على فضاء.

الكون، وُفْق هذه النظرية الكوزمولوجية، كبالونٍ يتمدَّد ويَكْبُر "ضِمْن شيء هو لا شيء".

تلك هي الإشكالية الأولى في معرفة ماهية الفضاء، أو في إجابة سؤال "ما هو الفضاء؟".

الإشكالية الثانية نَقِف عليها في نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang؛ فبحسب هذه النظرية، كانت "البيضة الكونية"، التي منها انبثق ووُلِد الكون، بقوَّة انفجار ليس كمثله انفجار، ولم يكن من وجود لهذا الذي نسميه "الفضاء"؛ فإنَّ "الفضاء" مخلوق من مخلوقات "الانفجار الكبير".

وإذا كان لهذه "البيضة" من "حجم" فإنَّ حجمها من الضآلة بمكان؛ إنَّه يقلُّ عن حجم "الإلكترون" بملايين، أو ببلايين، المرَّات. وعلى ضآلة حجمها هذا اشتملت "البيضة" على كل مادة الكون.

هذه "البيضة" إنَّما هي شيء لا فضاء في خارجه، ولا فضاء في داخله؛ فـ "الفضاء" وُجِدَ، أو خُلِقَ، إذ "انفجرت"، فـ "الانفجار الكبير" هو خالِق الفضاء (وكل شيء).

وفي نظرية "الانسحاق الكبير" Big Crunch، نَقِف على الإشكالية الثالثة.

إذا تصوَّرنا الكون (وإذا ما جاز لنا عِلْمياً أنْ نتصوَّره) على أنَّه شيء يتألَّف من عنصرين هما "المادة" و"الفضاء"، فإنَّ "الفضاء" هو عنصره، أو مُكوِّنه، الأكبر والأعظم.

وإذا قُيِّض للكون ("المُغْلَق" افتراضاً) الذي بلغ تمدُّده منتهاه أنْ يشرع ينكمش ويتقلَّص، منهاراً (بمادته كلها) على نفسه، فإنَّ الفضاء الكوني، أو ذلك "الفاصل" بين "الدوائر"، يظل ينكمش ويتقلَّص، وصولاً إلى "بيضة كونية جديدة" لا وجود فيها للفضاء.

وينبغي لنا أنْ نَفْهَم انكماش أو تقلُّص الكون، أو الفضاء، على أنَّه مسارٌ تتغيَّر فيه نوعياً، وفي استمرار، مادة الكون؛ ففي طورٍ من الانكماش الكوني قد نرى مجرات ونجوماً؛ لكن في الطور الذي يليه، أو في الأطوار التي تليه، رُبَّما لا نرى من مادة الكون إلاَّ أنواع بسيطة متناهية في الصِّغَر.

الفضاء، في تمدُّده وتقلُّصه، إنَّما يشبه مادة من المطَّاط؛ لكنَّ هذا التشبيه، الذي يفيدنا في فَهْم تمدُّد أو تقلُّص الفضاء، لا يجيبنا عن سؤال "ما هو الفضاء؟"، أي ما هو هذا الشيء القابل للتمدُّد والتقلُّص.

حتى نظرية، أو فرضية، "الطاقة الداكنة (المُظْلِمة)" Dark Energy لا تحل هذه المشكلة، ولا تجيب عن ذاك السؤال؛ فإنَّ وجود هذا النوع الغريب من الطاقة يفسِّر لنا فحسب سبب تمدُّد الفضاء، وتسارُع تمدده.

بحسب هذه النظرية، يُنْظَر إلى الفضاء بين مجموعات المجرَّات على أنَّه مجالٌ، أو حيِّزٌ، مُفْعَم بـ "الطاقة الداكنة"، والتي هي، لجهة تأثيرها، مضادة للجاذبية الكونية؛ ذلك لأنَّها تتسبَّب في دَفْع مجموعات المجرَّات بعيداً عن بعضها بعضاً؛ وكلَّما اتَّسَع الفضاء بين هذه المجموعات اشتدَّ وعَظُم تأثير هذه الطاقة (والمعاكِس لتأثير الجاذبية الكونية).

وأحسب أنَّ "الطاقة الداكنة"، إذا ثَبُت وتأكَّد وجودها، وإذا ثَبُت وتأكَّد تأثيرها هذا، يجب أنْ تتخلَّل كل فضاء، وليس الفضاء بين مجموعات المجرات فحسب؛ وهذا إنَّما يعني أنَّها شيء واجب الوجود في الفضاء الداخلي لكل مجموعة مجرَّات، ولكل مجرَّة، ولكل ذرَّة؛ لكنَّ الجاذبية (القوية) في داخل المجرَّة، مثلاً، تَكْبَح هذا التأثير لـ "الطاقة الداكنة".

في الفضاء (المنبسط المستوي) بين مجموعات المجرات يتضاءل كثيراً تأثير الجاذبية الكونية، فيشتدُّ ويقوى ويَعْظُم، من ثمَّ، التأثير المضاد، أي تأثير "الطاقة الداكنة"؛ وكلَّما اتَّسَع (وتمدَّد) الفضاء بين مجموعات المجرات نما تأثير هذه الطاقة؛ وهذا ما يُفسِّر "تسارُع" تمدُّد الفضاء؛ لكن، هل تَصِل سرعة تمدُّد الفضاء (بفضل تسارُع تمدُّده) إلى ما يَعْدِل، أو يتجاوز، سرعة الضوء التي هي 300 ألف كيلومتر في الثانية؟

إنَّني لستُ من القائلين بـ "الكمية التي لا نهاية لتزايدها، أو تناقصها"؛ وهذا إنَّما يعني، ويجب أنْ يعني، أنَّ تزايد تمدُّد (أو سرعة تمدُّد) الفضاء ليس بالتزايد الذي لا نهاية له؛ فثمَّة نهاية (حتمية) لكل تزايد، أو تناقُص، في "الكمية"، أي في "الجانب الكمِّي" من كل شيء.

لا شيء في الكون يمكنه أنْ يكون أسرع من الضوء إلاَّ شيئاً واحداً هو "الفضاء في تمدُّده"، على أنْ يُفْهَم هذا التمدُّد على أنَّه السرعة النسبية لابتعاد مجموعة من المجرَّات عن مجموعة أخرى (أو عن المجموعة التي أنتمي إليها أنا بصفة كوني المراقِب الذي يراقِب المجموعة المبتعدة، ويقيس سرعة ابتعادها عن مجموعته).

إذا تسارَع تمدُّد الفضاء أكثر فربَّما تكون عاقبة ذلك هي انفصال كل مجموعة عن سائر المجموعات انفصالاً (فيزيائياً) تاماً. وهذا يَحْدُث عندما تبتعد كل مجموعة عن مجموعتي بسرعة تفوق سرعة الضوء. إذا حدث ذلك فلن أرى في الكون من مجموعات المجرَّات إلاَّ مجموعتي؛ ولن تتبادل مجموعتي أي تأثير فيزيائي مع سائر المجموعات، وكأنَّ مجموعتي غدت هي كل الكون.
ولسوف تستمر هذه الحال (حال المجموعة التي هي كل الكون) حتى ينكمش الفضاء بما يسمح للضوء الذي غادر من قبل سائر المجموعات بالوصول إلى مجموعتي (بعد طول تأخُّر).

وهذا الذي قُلْت يمكن أنْ يَشُقَّ الطريق إلى نظرية "الأكوان الأخرى"، والتي تتضمَّن نظرية "الفضاءات الأخرى"؛ فالفضاء (الافتراضي) بين كوننا وبين أكون أخرى تمدَّد بسرعةٍ ترتَّب عليها أنْ ابتعدت الأكوان الأخرى عن كوننا بسرعة فاقت سرعة الضوء، فانقطع، من ثمَّ، كل تأثير فيزيائي بيننا وبينها؛ ولن نرى الأكوان الأخرى، أو بعضها، إلاَّ إذا انكمش الفضاء (الافتراضي) بيننا وبينها بما يسمح للضوء المنطلق منها من قبل، والذي تأخَّر وصوله إلى كوننا، بالوصول أخيراً.

على أنَّ هذا الذي قُلْت يثير إشكالية رابعة هي إشكالية "الفَرْق في الماهية بين الفضاء في كوننا وبين الفضاءات الأخرى"، أي الفضاء بين الأكوان (الافتراضية).

إشكالية خامسة تثيرها نظرية "الفضاء الذي يَلِد في استمرار أزواج من الجسيمات الافتراضية (غير الواقعية، غير الحقيقية)".

وهذه النظرية اتُّخِذَت تفسيراً لظاهرة تبخُّر "الثقب الأسود"، من طريق "إشعاع هاوكينج".

بحسب هذه النظرية، يَلِدُ الفضاء، في استمرار، أزواج من الجسيمات الافتراضية، كالزوج "إلكترون ـ بوزيترون". لكنَّ هذين الجسيمين الافتراضيين المتضادين ما أنْ يُوْلدا حتى يتبادلا الفناء؛ فهما لا يستمران على قيد الحياة إلاَّ زمناً متناهياً في الصِّغَر؛ ولتناهيه في الصِّغَر يَعْجَز حتى قانون "حفظ المادة" عن "الإحساس" بوجودهما. إنَّهما كالظلال والأشباح والصُّوَر.

وقد يظهران على مقربة من "ثقب أسود"؛ فإذا ظهرا هناك، وإذا سقط أحدهما في هذا "البئر الكوني العميق (أي جوف "الثقب الأسود")" قبل أنْ يتبادل الفناء مع ضديده، فإنَّ نزراً من مادة (أو كتلة، أو طاقة) هذا "الثقب" يَخْرُج منه "متبخِّراً"، ليَدْخُل في ذاك الضديد، محوِّلاً إيَّاه من جسيم افتراضي إلى جسيم واقعي حقيقي، فتظل كمية المادة في الكون ثابتة.

إنَّ "الفضاء" و"المادة" متداخلان تداخلاً لا يسمح أبداً بوجود "الخالص" من "المادة"، أو من "الفضاء"، فلا وجود لـ "مادة خالصة من الفضاء"، ولا وجود لـ "فضاء خالص من المادة".

إنَّكَ تستطيع الآن، وبفضل بعض المجاهِر، أو الميكروسكوبات، أنْ ترى ذرَّة كبيرة كذرَّة الذَّهب (عددها الذَّري 79).

أُنْظُر إليها، فماذا ترى؟

ترى أنَّ لها "حجماً"، أي أنَّها تَشْغُل، أو تملأ، فضاءً، أو فراغاً.

هذا في النِّصف الأوَّل من المشهد الذي تراه؛ أمَّا في نصفه الآخر فترى، ويجب أنْ ترى، الفضاء، أو الفراغ، الكبير في داخلها، والذي هو مُكوِّنها الأكبر، أو الأضخم؛ وفي هذا الفضاء، أو الفراغ، ترى "نواة الذَّرة"، والتي تشتمل على الجزء الأعظم من كتلتها (أي من كتلة ذرَّة الذَّهب).

وهذه "النواة" تَشْغَل، أو تملأ، جزءاً (صغيراً) من الفضاء، أو الفراغ، الداخلي للذَّرة.

إذا كانت "المادة" هي كل شيء (أو جسم) يَشْغُل فضاءً، أو فراغاً؛ فهل لهذا الشيء (أو الجسم) أنْ يكون غير مشتملٍ، في الوقت نفسه، على فضاء، أو فراغ؟!

وإنِّي لأرى "القاعدة"، لا "الاستثناء"، في هذا المثال (مثال الذَّرة).

إنَّ الفضاء ليس بالشيء الذي تَشْغُلُه "المادة" فحسب؛ بل هو "مُكوِّن جوهري وأساسي من مكوِّناتها الداخلية"، فـ "الجسم (أو الجسيم) الخالص من الفضاء" هو، لجهة استحالة وجوده، كالجسم الذي لا يَشْغُل فضاءً.

وإذا كان كل جسم يَشْغُل، وينبغي له أنْ يَشْغُل، فضاء، أو فراغاً، فإنَّ "حجم" هذا الجسم هو "مقدار الفراغ الذي يَشْغُله (أو يملأه)".

وللجسم (أو الجسيم) ثلاث خواص أساسية جوهرية هي "الكتلة" Mass، و"الحجم" Volume، و"الكثافة" Density. وأُضيف إليها خاصَّة (أو خاصية) رابعة هي "الزَّمن" Time؛ فإنَّ لكل جسمٍ زمنه الخاص به.

و"المادة"، لجهة خاصية "الكتلة"، على نوعين اثنين: مادة (أو جسيمات) لها "كتلة"، كالبروتون والنيوترون والإلكترون، ومادة (أو جسيمات) ليس لها "كتلة"، أو "عديمة الكتلة" Massless، كجسيم "الفوتون".

و"كتلة" الجسم، أو الجسيم، ليست بالقيمة (أو المقدار) الثابتة المُطْلَقَة؛ فإنَّ كل زيادة في سرعة الجسم تَزيد كتلته؛ فكلَّما زادت سرعة مركبة فضائية (على سبيل المثال) زادت كتلتها.

وإنِّي لأرى في "الكتلة"، أي كتلة جسم، أو جسيم، ما، وهو في "حالة السكون"، كالمركبة الفضائية، أو الإلكترون، خاصية فيزيائية جوهرية تَمْنَع حاملها، أي الجسم أو الجسيم، مَنْعَاً مُطْلَقَاً من أنْ يسير بسرعة تَعْدِل (أو تتجاوز) سرعة الضوء، التي هي السرعة القصوى في الكون 300) ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، تقريباً). إنَّ المادة "عديمة الكتلة" هي وحدها التي يمكنها السير بسرعة تَعْدِل (ولا تتجاوز) سرعة الضوء.

والجسم (أو الجسيم) الأعظم كتلةً، أو الذي تعاظمت كتلته مع تزايد سرعته، إنَّما هو نفسه الجسم (أو الجسيم) الأعظم في مقدار "قصوره الذاتي". وفي بعضٍ من التجارب الفيزيائية، رأيْنا أنَّ الجسيم (الذي له كتلة) كلَّما زِدتَّ سرعته اشتدت صعوبة جَعْلِه يُسْرِع أكثر.

والآن، اخْضِعْ مادة ما، هي "ذرَّة الذَّهب" مثلاً، للتجربة الفيزيائية النظرية الآتية:

اضْغَطْ هذه الذَّرة، أي قلِّص حجمها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ فماذا ترى؟

ترى أنَّ "كثافة" هذه المادة تزداد مع كل تقلُّص في حجمها (الكثافة = الكتلة ÷ الحجم).

مع ثبات (مقدار) كتلتها، يتضاءل حجمها، وتَعْظُم كثافتها، باستمراركَ في "ضغطها".

لكن إيَّاكَ أنْ تَظُن أنَّ هذه المادة تظلُّ "ذرَّة ذهب" مع استمراركَ في "ضغطها". كتلتها تظل ثابتة القيمة والمقدار؛ لكنَّ هذه المادة (ذرَّة الذَّهب) تتغيَّر نوعاً، وتكويناً.

ضاعِف تَخيُّلِكَ، متخيِّلاً أنَّ لديكَ من "قوى الضغط" ما يسمح لكَ بأنْ تستمر في ضغط هذه المادة (الثابتة الكتلة، المتغيِّرة النوع والتكوين) حتى تَجْعَل قيمة حجمها "صِفْراً".

إذا تمكَّنت من ذلك، أي من "تصفير" حجمها، فإنَّ كثافتها تصبح عندئذٍ "مُطْلَقَة (لا نهائية)"؛ ولتتذكَّر، في هذا الصدد، معادلة الكثافة (الكثافة = الكتلة ÷ الحجم).

إنَّ شيئاً يشبه هذا يَحْدُث للنجم الذي لديه من ضخامة الكتلة ما يَفْرِض على مادته، في نهاية حياته، أنْ تنهار على نفسها انهياراً متسارِعاً، لا نهاية له إلاَّ تلك "النقطة" التي تشتمل على الجزء الأعظم من كتلة ذاك النجم، والتي كثافتها المادية مُطْلَقَة، لا نهائية؛ لأنَّها نقطة "صفرية (أو عديمة) الحجم".

وهذه "النقطة" إنَّما هي "المركز (Singularity)" من "الثقب الأسود"؛ وإنِّي لأرى في هذه "النقطة" ما يشبه "الجسر" الذي ابتناه بعض الفيزيائيين والكوزمولوجيين للانتقال عبره بالفيزياء من موطنها الأصلي، أي الطبيعة، إلى الميتافيزيقيا، أي عالَم ما وراء الطبيعة.

"تصفير" الحجم، في تلك "النقطة"، لا يمكن فهمه إلاَّ على أنَّه إلغاء لـ "مادية" المادة؛ فـ "الحجم الصفري" إنَّما يعني الاحتفاظ بـ "مادة" لها كتلة، أو لها الكتلة نفسها تقريباً، مع إخراجها، في الوقت نفسه، من عالَمنا المؤلَّف من ثلاثة أبعاد مكانية. وأنتَ يكفي أنْ تلغي أبعاد المكان الثلاثة (في تلك "النقطة") حتى تلغي أيضاً "البُعْد الرابع"، وهو "الزمن"؛ فـ "النقطة" تلك إنَّما تشبه "مَقْبَرة" دُفِن فيها "الزمكان" Spacetime؛ لأنْ لا وجود لـ "الزمكان" حيث انعدم "الحجم"، أي حيث انعدمت أبعاد المكان الثلاثة، وهي "الطول" و"العرض" و"الارتفاع"، وحيث ينعدم "البُعْد الرابع"، وهو "الزمن"، مع انعدام أبعاد المكان الثلاثة.

أمَّا الناجي الوحيد (في تلك "النقطة) من الموت فهو "مادة ليست بمادة"؛ لأنَّها "مادة احتفظت بكتلتها نفسها تقريباً، وأصبحت بكثافة مُطْلَقَة، لا نهائية"!

إنَّ "المادة" التي لا حجم لها هي كائن خرافي؛ لأنْ ليس من مادة (أو جسم، أو جسيم) تنعدم فيها أبعاد المكان الثلاثة؛ وهذه الاستحالة هي نفسها استحالة وجود جسم، أو جسيم، ينعدم فيه بُعْدٌ، أو بُعْدين، من تلك الأبعاد الثلاثة؛ وليس من جسم، أو جسيم، في الكون له "طول" و"عرض"؛ لكن ليس له "ارتفاع (أو سُمْك، أو عُمْق)"؛ لأنْ ليس من جسمٍ له "مساحة" وليس له، في الوقت نفسه، "حجم".

لقد اغتالوا "الحجم" في تلك "النقطة"؛ لكنَّهم سرعان ما اكتشفوا أهمية وضرورة الإبقاء عليه في "الثقب الأسود" عموماً؛ فهذا "الثقب" صوَّروه (هندسياً) على هيئة "كرة"، لها "نصف قطر"، يمتد من "المركز"، أي من تلك "النقطة (Singularity)"، التي ينعدم فيها الحجم، إلى "المحيط"، أي إلى الحدِّ المسمَّى "أُفْق الحدث" Event Horizon.

و"الثقب الأسود" يَكْبُر "حجماً" مع كل زيادة في طول "نصف قطره؛ أمَّا سؤال "كيف يمكن أنْ يَكْبُر حجماً؟" فأجابوا عنه إجابةً "فيزيائية" من حيث الشكل ليس إلاَّ.

في إجابتهم قالوا إنَّ "الثقب الأسود" كلَّما التهم مزيداً من المادة زاد حجمه أي استطال نصف قطره؛ فلو انهارت مادة الشمس على نفسها، وتحوَّل هذا النجم، من ثمَّ، إلى "ثقب أسود"، لَمَا تجاوز طول "نصف قطر" هذا "الثقب" ثلاثة كيلومترات. ولو "أطْعَمْنا" هذا "الثقب" مادةً تَعْدِل في كتلتها مليون شمس لظلَّ "ثقباً أسود"، في ماهيته وخواصه الجوهرية، ولاقتصر التغيير فيه على حجمه؛ فإنَّ "نصف قطره" يصبح أطول بكثير.

أمَّا لو شرع هذا "الجسم"، أي "الثقب الأسود"، "يتبخَّر" من طريق "الإشعاع"، المسمَّى "إشعاع هاوكينج"، فإنَّ حجمه (أو نصف قطره) يشرع يتضاءل؛ وبهذا "التبخُّر" تعود، تدريجاً، مادة "الثقب الأسود" والتي مُسِخَت "ماديتها" إلى عالَم المادة الطبيعي العادي.

إنَّ "قابلية المادة للانهيار على نفسها (أو للانضغاط)"، هي من خواصها الجوهرية؛ لكنَّ هذا "الانهيار"، أو "الانضغاط"، ومهما عَظُمَ، لن يصل أبداً إلى "الحجم الصفري"؛ لأنَّ "المادة" التي أصبحت "عديمة الحجم" هي مادة جُرِّدت من "الزمكان"؛ وليس من "مادة" مجرَّدة، أو يمكن تجريدها، من "الزمكان".



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -سؤال الهوية-.. أُردنياً وفلسطينياً!
- كمال أردوغان!
- لو زار غزة مصطحباً معه عباس ومشعل!
- -التدليس اللغوي- عند العرب!
- شعب مصر يَحُكُّ جلده بظفره!
- رحلة شيِّقة مع د. همام غصيب في عوالم -النسبية-!
- إشكالية -حُرِّيَّة الإرادة-.. إسلامياً وماركسياً!
- من نيويورك يبدأ -الربيع الفلسطيني-!
- الولايات المتحدة تكيد ل -الربيع العربي-!
- كيف نفهم -توقُّف الزمن-؟
- -حزب الله- خَلَع -الغار- ولبس -العار-!
- -الربيع العربي- في محاذيره الثلاثة!
- العبوس.. أردنياً!
- اليوم سقط ثالثهم.. وغداً رابعهم!
- نارٌ سوريَّة تُنْضِج -الطبخة الليبية-!
- -ارْحَلْ- إذ وصلت إلى -السفير- و-السفارة-!
- ما هو -الفضاء-؟
- إنَّه عدوٌّ للسوريين والفلسطينيين معاً!
- لم يَفْقِدْ الشرعية وإنَّما العقل!
- بعضٌ من أوجه المَسْخ الدِّيني للمادة


المزيد.....




- بعد انتشارها فى أمريكا نتيجة جزر عضوى.. ما هى البكتيريا الإش ...
- الصحة العالمية: حالات الكوليرا بلغت 486760 ألفا و4018 وفاة ف ...
- تصاعد نسب التلوث.. رائحة الكبريت تُقلق البغداديين
- كل ما تريد معرفته عن الالتهاب الرئوي عند كبار السن.. الأعراض ...
- الأعراض الأولى لسرطان القصبة الهوائية والوقاية منه
- أطعمة ومشروبات تجنبها عند تناول المضادات الحيوية
- الضغوط تتزايد على عمالقة التكنولوجيا.. ماذا يعني قانون الأسو ...
- الحكومة الأميركية تطلب من القضاء إجبار غوغل على بيع -كروم-
- ” سجل الآن من هنا “.. التسجيل في مسابقة الشبه الطبي في الجزا ...
- مخدر الاغتصاب GHB .. مراحل تأثيره السلبى على الجسم وكيف يحدث ...


المزيد.....

- هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟ / جواد بشارة
- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - جواد البشيتي - دفاعاً عن -مادية- المادة.. في الفيزياء!