عبد السلام أديب
الحوار المتمدن-العدد: 1040 - 2004 / 12 / 7 - 08:47
المحور:
الادارة و الاقتصاد
لم يطرأ على الأرثوذوكسية المالية المعتمدة في المغرب منذ بداية عقد الثمانينات أي تغيير بل لم يحدث وصول حكومة التناوب الى الحكومة أو تعيين وزير مالية يقال عنه أنه اشتراكي أي تغيير في طبيعة الميزانيات المعتمدة،. فميزانية 2005 لا تندرج في صيرورة تنموية من شأنها نقل البلاد من وضع التخلف الذي توجد عليه إلى مستوى أرقى كما قد توحي بذلك مذكرات تقديم مشروع القانون المتعلق بها وإنما تبرز بوضوح طابعها الانكماشي.
فالميزانية الحالية لن تحافظ على ما تبقى من بعض المكتسبات القليلة للطبقة العاملة وعموم الكادحين، بل تساهم بشكل إيجابي في تكريس ضيق السوق الداخلي وتعميق الفوارق الطبقية وتسهيل وثيرة امحاء كل ما يتوفر من ادخار وطني عبر خدمة الدين الخارجي وتحويل أرباح المستثمرين الأجانب الى الخارج وتزايد وثيرة الاستيرادات من السلع الكمالية ..الخ.
فما هي إذن بنية النفقات والموارد العمومية في اطار مشروع ميزانية 2005؟
(1) – بنية النفقات العمومية
نتيجة تجميد الأجور وإلغاء مناصب الشغل التي يحال أصحابها على التقاعد وتخفيض مستوى التوظيف إلى أدنى حد له في تاريخ المغرب وتراجع دعم القطاعات الاجتماعية ستعرف النفقات العمومية في ظل مشروع القانون المالي لسنة 2005 زيادة طفيفة بنسبة 11,7 % مقارنة مع سنة 2004 أي بمبلغ 160,06 مليار درهم.
تتميز نفقات الميزانية العامة بنفس الاختلالات المزمنة، المتمثلة في هيمنة حصة نفقات التسيير بنسبة 63,50 % أي بمبلغ 101,63 مليار درهم ومحافظة نفقات خدمة الدين العمومي بالمرتبة الثانية بنسبة 24,6 % أي بمبلغ 39,38 مليار درهم منها 26,2 % مخصصة لمدفوعات المديونية الخارجية و73,8 % منها مخصصة لمدفوعات المديونية الداخلية.
أما نفقات الاستثمار العمومي فتضل في أسفل السلم بنسبة 11,89 % فقط أي بمبلغ 19,04 مليار درهم، بل ومسجلة لتراجع عن الميزانية السابقة، علما بأن هناك رصيدا بمبلغ 8,5 مليار درهم من اعتمادات الاستثمار المقررة في إطار ميزانية 2004 لم يتم الأمر بصرفها ، الشيء الذي يرفع حصة نفقات الاستثمار خلال سنة 2004 إلى 27,44 مليار درهم. لكن هذا الرصيد يؤكد لنا أن نسبة إنجاز الأهداف التنموية المعلنة في إطار ميزانية 2004 لم تتعد 44,64 %، كما يؤكد لنا بأن القانون المالي يضل مجرد توقعات لا يمكنه أن يؤكد لنا مصداقية الأهداف الحكومية في العديد من القطاعات، والتي لا بد من أن توفر حسابات ختامية حديثة للتعرف على مدى إنجاز الأهداف المرسومة(علما أن آخر قانون للتصفية قدم للبرلمان هو المتعلق بميزانية 1995 وقد قدم سنة 2001).
إن حساب مختلف الاستثمارات العمومية أي بإضافة الحسابات الخصوصية للخزينة واستثمارات المؤسسات العمومية واعتمادات صندوق الحسن الثاني للتنمية ونفقات استثمار الجماعات المحلية ومصالح الدولة المسيرة ذاتيا، يرفع حصة الاستثمارات العمومية خلال سنة 2005 إلى 70,88 مليار درهم لكن التوقعات التي ترد في ميزانية الدولة لا تعني أبدا أنها تتحقق في غياب رقابة مؤسساتية حقيقية.
وعلى العموم تتمحور الأهداف المعلنة لمشروع القانون المالي لسنة 2005 حول أربعة محاور كما يلي:
1 – انعاش الشغل المنتج؛
2 – توطيد دعائم التعليم النافع؛
3 – توسيع ولوج السكان المعوزين الى السكن اللائق؛
4 – تحقيق نسبة نمو مرتفعة محدثة لفرص الشغل.
الا أن هذه الأهداف لا تعني شيئا بل تعني العكس تماما. فعلى مستوى التشغيل لن تصل أعداد مناصب الشغل المحدثة خلال سنة 2005 سوى إلى 7000 منصب شغل وتهم أساسا قطاعات التعليم والصحة والعدل والداخلية، في الوقت الذي سيشهد فيه قطاع الوظيفة العمومية إحالات واسعة على التقاعد المبكر تصل إلى حوالي 73000 منصب شغل والتي سيتم إقفالها نهائيا تنازلا أمام توصيات الصندوق والبنك الدوليين التي تصر على تقليص حجم القطاع العمومي. كما أن استمرار سياسة خوصصة المرافق العمومية تؤدي مباشرة الى تسريحات واسعة في صفوف المستخدمين.
أما بالنسبة الى سياسة الميزانية في مجال التعليم فإن تدهور قطاع التعليم العمومي أصبح باديا للعيان من خلال ضعف الاعتمادات المخصصة لهذا القطاع إلى جانب تنامي مؤسسات التعليم الخاص الباهضة والمتفاوتة الأسعار ومضامين الدراسات المقدمة والتي تؤدي الى تفاوت طبقي صارخ في هذا المجال وتحرم الطبقة العاملة وعموم الكادحين من فرص تعليم ابنائهم. ومعلوم أن التعليم العمومي لم يعد يؤدي إلى التشغيل حيث أن أحجام حاملي الشهادات المعطلين لا زالت في تزايد مستمر.
أما بالنسبة لسياسة الميزانية في مجال الاسكان فإن مقولة ولوج السكان المعوزين إلى السكن اللائق، فالجميع يعلم حجم المضاربة العقارية المتفاحشة في بلادنا والتلاعب في مجال إعادة إسكان ساكنة دور الصفيح، حيث يصبح هذا المجال مرتعا لكل أشكال الفساد والاغتناء غير المشروع.
إن تحقيق نسبة نمو مرتفعة لا علاقة لها البثة في بلادنا بمجال التشغيل وإحداث مناصب شغل جديدة حيث يمكن تسجيل التسريحات الهائلة التي يقبل عليها القطاع الخاص من أجل تقليص الكلفة وتشجيع الأعمال المؤقتة والهشة التي لا تخضع المقاولة لالتزامات مدونة الشغل.
إن سياسة الميزانية في مجال الأجور والوظيفة العمومية تخضع منطق الإصلاح لتعاليم المؤسسات المالية الدولية التي تعتبر بأن مستوى الأجور الذي يشكل 52,7 % فقط من مجموع نفقات التسيير يعتبر مرتفعا وذلك بهدف دفع الحكومة إلى تقليصها. فيقال أن قطاع التعليم الابتدائي والثانوي يستحوذ على 26,4 % من نفقات التسيير.
لكن هذا الاتهام غير صحيح في الوقت الذي تتفشى فيه معدلات الأمية ويتراجع فيه مستوى التعليم بهدف خوصصته إضافة إلى أن رجال التعليم إذا كانوا يشكلون حوالي 60 % من مجموع الموظفين فإنهم لا يتقاضون سوى 26% من نفقات الميزانية، فهذا القطاع يعاني من حيف كبير في هذا المجال. فأجر امرأة أو رجل التعليم لا تتجاوز في أغلب الأحوال 4000 درهم شهريا بينما تتجاوز أجور بعض موظفي وزارة الداخلية أو المالية 20.000 درهم شهريا. أما إذا احتسبنا أجور وتعويضات أعضاء الحكومة والبرلمانيين والكتاب العامين للوزارات والمدراء وكبار موظفي الدولة بالقطاع العمومي، إضافة إلى الامتيازات العينية التي يحضون بها كالمساكن الفخمة وأعداد السيارات الفارهة ونفقات تعهدها والأسفار والفنادق ذات التكاليف الباهظة وما تستهلكه السفارات المغربية خارج البلاد من نفقات باهضة، فلا شك أنها تشكل أكبر نسبة من ميزانية التسيير.
إن مثل هذه الحقائق تفند ادعاء استهداف محاربة الفقر ومحاربة الفوارق الاجتماعية والجهوية.
إن قطاع الصحة يعاني من حيف كبير، في الوقت الذي يحتاج فيه الشعب المغربي إلى ثلاث أضعاف ما هو متوفر من أطباء وممرضين وأدوية وبنيات تحتية على امتداد التراب الوطني.
كما أنه في الوقت الذي يعاني فيه أكثر من 2 مليون عاطل من حاملي الشهادات من عواقب البطالة فإن ميزانية الدولة لا تلتفت إليهم حيث تقرر تخصيص 7000 منصب شغل فقط للسنة الثالثة على التوالي كأقل عدد تسجله الميزانيات العامة في المغرب منذ الاستقلال وحيث تحظى الترقيات الداخلية للموظفين بالنصيب الأوفر من هذه المناصب. بل أن سنة 2005 ستشهد إحالة حوالي 73000 موظف على التقاعد المبكر بهدف تخفيف عبء الكتلة الأجرية كما يقال والاكتفاء بالأعداد اللازمة لسير المرافق العمومية.
إن هذا النقص الهائل في التشغيل تقابله إعفاءات ضريبية مغرية لأصحاب رؤوس الأموال والشركات، كما تمنح لهم إعفاءات عن أداء متأخرات مساهمات الضمان الاجتماعي. فالبرجوازية الهجينة في المغرب تتمكن بفضل نفوذها وتغلغلها في أجهزة السلطة من تحقيق كل ما تطمح إليه من امتيازات لكنها لا تقوم بأية استثمارات إنتاجية حقيقية في المقابل.
(2) – بنية الموارد العمومية
ستعرف الموارد العمومية التي ستبلغ سنة 2005 ما قدره 185,9 مليار درهم زيادة طفيفة بنسبــة 10,91 % عن سنة 2004.
وترجع هذه الزيادة بالأساس إلى المداخيل الاستثنائية كمداخيل الخوصصة التي تصل إلى 12 مليار درهم والاقتراضات الخارجية التي تصل إلى 49 مليار درهم. أما بالنسبة للمداخيل العادية فستعرف نموا ضعيفا أهمها الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة التي ستتزايد بنسبة 11,86 %.
ومعلوم أن مداخيل الدولة تتدهور سنة بعد أخرى بفعل بيع الدولة للمرافق العمومية وبفعل تفكيك الرسوم الجمركية. فإذا كانت الخوصصة تؤدي إلى بعض المداخيل الاستثنائية فإنها تؤدي بالمقابل إلى حرمان الدولة من المداخيل العادية التي تدرها ممتلكات واحتكارات الدولة. فهذه المداخيل لا تمثل في مشروع القانون المالي لسنة 2005 سوى 0,14 % فقط من مجموع المداخيل بدلا من 4 % في القانون المالي لسنة 2004. أما مداخيل الخوصصة فتبلغ في مشروع القانون المالي لسنة 2005 12 مليار درهم حيث من المتوقع خوصصة مجموعة البنك الشعبي و16 % من اتصالات المغرب والتحضير لخوصصة كل من المكتب الوطني للنقل والمكتب الوطني للسكك الحديدية ومكتب استغلال الموانئ وتحويل بريد المغرب إلى شركة مساهمة. والملاحظ أن مداخيل الخوصصة إما أن تستعمل لتغطية عجز الخزينة العامة فلا يتم توظفها في مجال الاستثمار أو توضع في صناديق لا توجد مراقبة ديموقراطية عليها ولا علاقة لها بميزانية الدولة.
كما تعرف مداخيل الرسوم الجمركية تراجعا سنة بعد أخرى نتيجة تفكيك هذه الرسوم تطبيقا لإملاءات اتفاقيات مراكش حول التجارة الدولية واتفاقيات الشراكة الأورومتوسطية التي تلزم المغرب بإزالة كل الحواجز الجمركية في أفق سنة 2010 وحاليا التزامات المغرب اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية برسم اتفاقية التبادل الحر. فعواقب تراجع هذه المداخيل لن تستشعر بحدة إلا حينما لا يتبقى للمغرب ما يبيعه من مقاولات عمومية مربحة وحينما يعجز عن أداء مستحقات موظفيه ومتقاعديه.
لقد أصبحت نسبة المداخيل العادية تتراجع أمام نسبة المداخيل الاستثنائية لميزانية الدولة فالمداخيل الضريبية تبلغ 55,34 % من ميزانية الدولة، بينما تبلغ مداخيل الخوصصة والقروض الجديدة وعائدات احتكارات الدولة 42,50 % من هذه المداخيل، و تعتبر هذه الظاهرة خطيرة بالنسبة للمستقبل، لأن النفقات ستبقى في تزايد مستمر.
وأمام التدهور الحاصل في مداخيل الميزانية لن تجد السلطات العمومية أمامها سوى القيام بمزيد من الاستدانة الخارجية غير أن الدولة لا يمكنها أن تتجاوز حدود معينة لهذه المديونية، أو الزيادة أكثر في معدلات الضرائب التي تعتبر وسيلة سهلة.
ونظرا لهيمنة العقلية البرجوازية على دواليب السلطة فإن الزيادات المتوقعة في الضرائب ستهم بالأساس الضرائب على الإنفاق التي يؤديها أوسع الجماهير ولا تميز بين الغني والفقير كما ستتزايد الضرائب المفروضة على دخل الطبقة العاملة بينما ستتزايد في المقابل الإعفاءات الممنوحة للشركات ولأرباب العمل وللمداخيل العليا.
إن كلمة الإصلاح في المغرب لا تعني بالنسبة للطبقة العاملة وعموم الكادحين في جميع المجالات وخاصة في المجال الضريبي سوى تكريس مزيد من الحيف ومزيد من اتساع الفوارق الطبقية.
فالإصلاح الجبائي الذي اعتمد في المغرب منذ أواسط عقد الثمانينات لم يكن هدفه تحقيق العدالة الجبائية وتقليص الفوارق الاجتماعية بل كان يسعى إلى تكريس المزيد من هذه الفوارق. ففي إطار هذا الإصلاح تم تخفيض معدلات الضريبة العامة على الدخل المفروضة على المداخيل العليا وتكريس الضغط الجبائي على الشرائح الدنيا من المداخيل. كما تم تخفيض الضريبة على الشركات من 48 % الى 35 % وتخفيض معدلات الضريبة على القيمة المضافة المفروضة على السلع الكمالية مثل الويسكي والذهب والتحف النادرة...الخ من 30 % إلى 20 % لتصبح في نفس مرتبة المواد الأساسية. فهذا الإصلاح جاء لتدعيم توجهات سياسة التقويم الهيكلي التي تخدم بالأساس مصالح الكومبرادور والشركات متعددة الاستيطان.
#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟