أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - بهاء أبو زيد - ستيفن هوكينج يسأل: ما هو الواقع؟















المزيد.....


ستيفن هوكينج يسأل: ما هو الواقع؟


بهاء أبو زيد

الحوار المتمدن-العدد: 3490 - 2011 / 9 / 18 - 23:34
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


مدونة بهاء
http://blog.bahaa.info/2011/09/16/

تقديم

في كتابه التصميم العظيم، يقدم ستيفن هوكينج شرحًا بسيطًا جدًا للفلسفة الواقعية والفلسفة اللاوقعية والواقعية المعتمدة على النموذج وفلسفة النظرية العلمية، ونظرًا لأنني أعتبر هذا الجزء من أفضل ما قرأت على الإطلاق وذلك لبساطته الشديدة وعمقه الشديد في نفس الوقت، قمت بترجمة هذا الجزء إلى العربية لعله يفيد قراء اللغة العربية.

ما هو الواقع؟



منذ سنوات قليلة، منع مجلس مدينة منزا الإيطالية ملاك الحيوانات الأليفة من وضع السمكة الذهبية في أحواض مقوسة. راعي القرار وهو يشرح القرار قال أنه من القسوة وضع السمكة في حوض ذو جوانب مقوسة لأن السمكة سيكون لديها فكرة مشوهة عن الواقع. لكن كيف نعرف أننا لدينا الصورة الحقيقية والغير مشوهة عن الواقع؟ أليس من الممكن أن نكون نحن أيضًا في حوض أسماك كبير ورؤيتنا مشوهة بواسطة عدسة هائلة؟ صورة السمكة الذهبية عن الواقع مختلفة عن صورتنا، لكن هل نستطيع أن نتأكد أنها أقل واقعية؟



رؤية السمكة الذهبية ليست مثل رؤيتنا، لكن السمكة الذهبية ما زالت تستطيع أن تصيغ القوانين العلمية التي تحكم حركة الأشياء التي تلاحظها خارج الحوض الموجودة به. على سبيل المثال، نتيجة للتشويه، الشيء الذي يتحرك بحرية الذي سوف نراه يتحرك في خط مستقيم سوف يلاحظ بواسطة السمكة الذهبية كأنه يتحرك في مسار مقوس. ومع ذلك، تستطيع السمكة الذهبية أن تصيغ قوانين علمية من خلال إطارها المرجعي المشوه والتي ستكون دائمًا صحيحة والتي ستمكن السمكة من عمل تنبؤات مستقبلية عن حركة الأشياء خارج الحوض. قوانين السمكة ستكون أكثر تعقيدًا من القوانين التي نصيغها من خلال إطارنا، لكن البساطة هي مجرد مسألة ذوق. لو قامت السمكة الذهبية بصياغة هذه النظرية، يجب أن نعترف أن تصور السمكة هو تصور صحيح للواقع.

مثال شهير على تصورات مختلفة للواقع هو النموذج الذي قدمه بطليموس (85-165) حوالي عام 150 بعد الميلاد ليصف حركة الأجرام السماوية. نشر بطليموس عمله في دراسة من ثلاثة عشر كتابًا معروفة عادة باسمها العربي المجسطي. يبدأ المجسطي بشرح أسباب التفكير في أن الأرض كروية، وساكنة، وموجودة في مركز الكون، وصغيرة لا تذكر إذا قورنت بالمسافة إلى السماوات. باستثناء نموذج أرسطرخس لمركزية الشمس، هذه المعتقدات اعتنقت بواسطة معظم الإغريق المتعلمين على الأقل منذ وقت آرسطو، الذى اعتقد لأسباب غامضة أن الأرض يجب أن تكون عند مركز الكون. الأرض في نموذج بطليموس تقع في المركز والكواكب والنجوم تتحرك حولها في مدارات معقدة تستخدم أفلاك التدوير، كعجل يدور على عجل.



هذا النموذج يبدو طبيعيًا لأننا لا نشعر بأن الأرض تتحرك تحت أقدامنا (إلا عند الزلازل ولحظات الحب). فيما بعد، التعليم الأوروبي كان مبنيًا على المصادر الإغريقية التى مررت إليهم، لذلك كانت أفكار آرسطو وبطليموس هي أساس الفكر الغربي. نموذج بطليموس للكون تم تبنيه بواسطة الكنيسة الكاثوليكية، واعتبر المذهب المذهب الرسمي لمدة أربعة عشر قرنًا. ولم يظهر نموذجًا بديلا حتى عام 1543 على يد كوبرنيكوس في كتابه في ثورة الكرات السماوية، الذي نشر فقط في نفس سنة وفاته (رغم أنه عمل على نظريته لعدة عقود).

كوبرنيكوس، مثل أرسطرخس قبله بحوالي سبعة عشر قرنًا، وصف العالم بحيث تكون الشمس ثابتة والكواكب تتحرك حولها في مدارات دائرية. وبرغم أن الفكرة لم تكن جديدة، فإن إحياءها ووجه بمقاومة عنيفة. اعتبر نموذج كوبرنيكوس متعارضًا مع الكتاب المقدس، الذي كان يفسر على أن الكواكب تدور حول الأرض، رغم أن الكتاب المقدس لم يقل هذا صراحةً أبدًا. في الحقيقة، في الوقت الذي كتب فيه الكتاب المقدس كان الناس يظنون أن الأرض مسطحة. قاد نموذج كوبرنيكوس إلى جدال حول كون الأرض ساكنة أم لا، وتوج هذا الجدال بمحاكمة جاليليو بتهمة الهرطقة سنة 1633 لأنه دافع عن نموذج كوبرنيكوس، ولأنه يعتقد أن "المرء من الممكن أن يعتنق ويدافع عن رأي بعدما أعلن أنه مخالف للنصوص المقدسة". واعتبر جاليليو مذنبًا، ووضع تحت الإقامة الجبرية لباقي حياته، وأجبر على التراجع عن أفكاره. ويقال أنه تمتم تحت أسنانه وقال "لكنها ما زالت تتحرك". في عام 1992 أخيرًا اعترفت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أنها كانت مخظئة لإدانتها جاليليو.

إذًا أيهما هو الحقيقي، النظام البطليموسي أم الكوبرنيكوسي؟ بالرغم من أنه ليس من غير المألوف أن يقول الناس أن كوبرنيكوس أثبت أن بطليموس كان خاطئًا، فهذا ليس حقيقي. كما في حالة تصورنا العادي مقابل تصور السمكة الذهبية، يستطيع المرء أن يستخدم أي التصورين كنموذج للكون، حيث أن ملاحظاتنا للسماوات من الممكن أن تفسر بافتراض أن الأرض أو الشمس في حالة سكون. بغض النظر عن دورها في الجدالات الفلسفية حول طبيعة كوننا، فالميزة الحقيقية لنظام كوبرنيكوس ببساطة هي أن معادلات الحركة أبسط بكثير في إطار المرجعية الذي تكون الشمس فيه ساكنة.

نوع آخر من الواقع البديل نجده في فيلم الخيال العلمي ماتريكس The Matrix أو المصفوفة حيث يعيش البشر بدون أن يعرفوا في واقع خيالي تم محاكاته بواسطة كمبيوترات ذكية كي تحافظ عليهم مسالمين وقانعين بينما تمتص الكمبيوترات طاقتهم البيوكهربائية (أيا كان هذا الشيء). ربما لا يكون هذا بعيد الاحتمال، لأن العديد من الناس يفضلون قضاء وقتهم في واقع محاكى في مواقع الانترنت مثل Second Life. كيف يمكننا أن نعرف أننا لسنا مجرد شخصيات في مسلسل درامي يتم انتاجه بواسطة الكمبيوترات؟ لو كنا نعيش في عالم خيالي مصطنع، لن يكون بالضرورة للأحداث أي منطق أو اتساق أو طاعة لأي قوانين. الكائنات الفضائية المسيطرة ربما تجد من المثير أو المسلي أن يروا ردود أفعالنا، على سبيل المثال، لو أن البدر انشق إلى نصفين، أو أن أي شخص في العالم يمارس الحمية يصاب بولع شديد نحو فطيرة كريمة الموز. لكن لو فرضت هذه الكائنات الفضائية قوانينًا متسقة، فلن يكون هناك أي طريقة لكي نعرف أن هناك واقع آخر وراء الواقع المحاكى. سيكون من السهل وصف العالم الذي تعيش فيه الكائنات الفضائية بأنه العالم "الحقيقي" والعالم المصطنع بأنه العالم "الزائف". لكن – مثلنا – لو كانت الكائنات في العالم الحقيقي لا تستطيع أن تنظر إلى كونها من الخارج، فلن يكون لديهم أي سبب كي لا يشكوا في تصورهم للواقع. هذا تصور حديث لفكرة أننا جميعًا مجرد خيالات في حلم شخص آخر.

هذه الأمثلة توصلنا إلى هذا الاستنتاج: لا يوجد هناك مفهوم للواقع مستقل عن النظرية أو التصور. عوضًا عن ذلك سنتبنى التصور الذي سنسميه الواقعية المعتمدة على النموذج: فكرة أن النظرية الفيزيائية أو تصور العالم عبارة عن نموذج (عامة ذو طبيعة رياضية) ومجموعة من القواعد التي تربط النموذج بالمشاهدات. وهذا يمنحنا إطارًا نستطيع منه أن نفسر العلم الحديث.

الفلاسفة منذ أفلاطون وصاعدًا تجادلوا عبر السنين حول طبيعة الواقع. العلم الكلاسيكي مؤسس على الاعتقاد بأن هناك عالم حقيقي خارجي وخواصه محددة ومستقلة عن المراقب الذي يشاهدها. وفقًا للعلم الكلاسيكي، توجد أشياء محددة ولها خواص طبيعية مثل السرعة والكتلة، والتي لها قيم معرفة جيدًا. في هذا التصور نظرياتنا عبارة عن محاولات لوصف هذه الأشياء وخواصها، وقياساتنا وإدراكاتنا تتقابل معها. كل من المراقِب والمراقَب عبارة عن أجزاء من العالم ولهما وجود موضوعي، والتمييز بينهما لا معنى له. بكلمات أخرى، لو رأيت قطيع من الحمير الوحشية تتشاجر من أجل مكان في موقف السيارات، فهذا لأن هناك فعلا قطيع من الحمير الوحشية تتشاجر من أجل مكان في موقف السيارات. كل المراقبين الآخرين الذين ينظرون سوف يقيسون نفس الخواص، والقطيع سوف يكون له تلك الخواص سواء كان يراقبها أحد أم لا. في الفلسفة هذا المعتقد يسمى واقعية.

على الرغم من أن الواقعية تبدو وجهة نظر مغرية، فما نعرفه عن الفيزياء الحديثة يجعل من الصعب على المرء أن يدافع عنها. على سبيل المثال، وفقًا لمبادئ فيزياء الكم (الكوانتم)، والتي تعتبر وصفًا دقيقًا للطبيعية، الجسيم لا يوجد له موقع معين أو سرعة معينة ما لم وحتى يتم قياس هذه المقادير بواسطة مراقب. من ثم ليس من الصحيح أن نقول أن القياس أعطى نتيجة معينة لأن المقدار الذي يتم قياسة كان له هذه القيمة في وقت القياس. في الواقع، في بعض الحالات الأشياء الفردية لا يوجد لها وجود مستقل لكن بدلا من ذلك توجد فقط كجزء من تجمع متعدد. ولو تم إثبات أن نظرية مبدأ الهولوجرافيك صحيحة، فنحن وعالمنا رباعي الأبعاد ربما نكون ظل على حدود زمكان خماسي الأبعاد أكبر. في هذه الحالة، فإن وضعنا في الكون مماثل لوضع السمكة الذهبية.

الواقعيين المتشددين دائمًا ما يقولون بأن البرهان على أن النظريات العلمية تمثل الواقع يكمن في نجاحها. لكن نظريات مختلفة تستطيع أن تصف بنجاح نفس الظاهرة من خلال أطر مفاهيمية متفاوتة. في الواقع، عديد من النظريات العلمية التي أثبتت نجاحها تم استبدالها لاحقًا بنظريات أخرى ناجحة مبنية على مفاهيم جديدة كليةً للواقع.

عادة الذين لا يقبلون الواقعية يسمون اللاواقعيين. اللاوقعيين يقترحون تمييزًا بين المعرفة التجريبية والمعرفة النظرية. هم عادة يقولون أن الملاحظة والتجربة ذات معنى لكن النظريات ليست أكثر من مجرد أدوات مفيدة لا تشمل أي حقائق أعمق وراء الظاهرة التي يتم مشاهدتها. بعض اللاواقعيين يريدون حتى أن يحصرون العلم في في الأشياء التي يمكن مشاهدتها. ولهذا السبب، رفض العديدون في القرن التاسع عشر فكرة الذرة لأننا لن يمكن أبدًا أن نرى ذرة. حتى أن جورج بيركلي (1685-1753) ذهب أبعد من ذلك وقال لا يوجد أي شيء غير العقل وأفكاره. عندما أشار صديق إلى المؤلف والمعجمي الإنجليزي د. سامويل جونسون (1709-1784) أن ادعاء بيركلي لا يمكن أبدًا تفنيده، يقال أن جونسون ذهب إلى حجر كبير، وركله بقدمه، وصرح، "أنا أستطيع أن أفند هذا". بالطبع الألم الذي شعر بيه د. جونسون في قدمه كان أيضًا عبارة عن فكرة في عقله، لذا هو لم يكن في الواقع يفند أفكار بيركلي. لكن تصرفه هذا وضح وجهة نظر الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776)، الذي كتب أنه بالرغم من أننا لا نملك أي أساس عقلاني لنؤمن بالواقع الموضوعي، فإننا لا نملك أي خيار إلا أن نتصرف كأنه حقيقي.

الواقعية المعتمدة على النموذج توصل دوائر كل هذه الجدالات والنقاشات بين مدارس الفكر الواقعية واللاواقعية.

وفقًا للواقعية المعتمدة على النموذج، فلا فائدة أن نسأل هل النموذج واقعي، ما دام يتفق مع المشاهدات. لو كان هناك نموذجين كلاهما يتفق مع المشاهدات، مثل تصور السمكة الذهبية وتصورنا، فإن المرء لا يستطيع أن يقول أن أحدهما واقعي أكثر من الآخر. المرء يستطيع أن يستخدم أي نموذج منهما يكون ملائمًا للموقف عين الاعتبار. على سبيل المثال، لو كان الشخص داخل حوض سمك، فإن تصور السمكة الذهبية سوف يكون مفيدًا، لكن لهؤلاء بالخارج، سوف يكون من غير الملائم أن نصف الأحداث في المجرات البعيدة من إطار حوض على الأرض، خصوصًا لأن الحوض سوف يتحرك كلما تحركت الأرض حول الشمس أو دارت حول محورها.

الواقعية المعتمدة على النموذج تتوافق مع الطريقة التي ندرك بها الأشياء. في الرؤية، دماغ المرء تستقبل سلسلة من الإشارات من العصب البصري. هذه الإشارات لا تشابه الصورة التي يمكن أن تقبلها من تليفزيونك. هناك بقعة عمياء عند نقطة اتصال العصب البصري بشبكية العين، والجزء الوحيد في مجال رؤيتك الذي له وضوح جيد عبارة عن مساحة ضيقة حوالي درجة واحدة من زاوية الرؤية حول مركز الشبكية، أي مساحة مثل إبهام يدك وهي على بعد طول ذراعك. وهكذا فإن البيانات الخام التي ترسل إلى الدماغ تكون مثل صورة رديئة منقطة بثقب في المنتصف. لحسن الحظ، الدماغ البشرية تعالج هذ البيانات، وتخلط المدخلات من كلا العينين، وتملأ الثقوب بناءً على فرض أن الخواص المرئية للأماكن المتجاورة متشابهة ومستوفاه. بالإضافة إلى ذلك، يقرأ الدماغ مصفوفة ثنائية الأبعاد من الشبكية ويخلق الانطباع بفضاء ثلاثي الأبعاد. الدماغ، بكلمات أخرى، يبني صورة أو نموذج عقلي.

الدماغ ماهر جدًا في خلق النماذج لدرجة أنه لو ارتدى أشخاص نظارات تقلب الصورة في أعينهم رأسًا على عقب، أدمغتهم، بعد فترة، تغير النموذج بحيث يرون الأشياء غير مقلوبة مرة أخرى. ولو أزيلت النظارات، فسوف يرون العالم مقلوبًا لفترة، وبعد ذلك يتكيفون مرة أخرى. هذا يوضح ماذا يعني أن يقول المرء "أنا أرى كرسي" إنها تعني ببساطة أن المرء استخدم الضوء المبعثر بواسطة الكرسي لكي يبني صورة أو نموذج عقلي للكرسي. لو كان النموذج مقلوبًا، لحسن الحظ فإن دماغ المرء سوف يصححه قبل أن يحاول المرء أن يجلس على الكرسي.

مشكلة أخرى تحلها الواقعية المعتمدة على النموذج، أو على الأقل تتجنبها، هي مشكلة معنى الوجود. كيف يتثني لي أن أعرف أن المنضدة ما زالت موجودة بعد أن أغادر الغرفة ولا أستطيع أن أراها؟ ما معنى أن نقول أن الأشياء التي لا نستطيع أن نراها مثل الإلكترونات والكواركات-الجسيمات التي يقال أن البروتون والنيوترون مصنوعين منها- موجودة؟ يستطيع المرء أن يكون لديه نموذج حيث تختفي فيه المنضدة عندما يغادر الغرفة وتظهر مرة أخرى في نفس المكان عندما يعود إليها، لكن هذا سيكون غير مريح، وماذا لو حدث شيء والمرء بخارج الغرفة، مثل أن يتساقط السقف؟ كيف أستطيع تحت نموذج المنضدة التي تختفي عندما أغادر الغرفة، أن آخذ في الحسبان حقيقة أنني في المرة القادمة عندما أدخل فإن المنضدة سوف تبدو محطمة، تحت حطام السقف؟ النموذج الذي تبقى فيه المنضدة أبسط كثيرًا ويتفق مع المشاهدات. هذا كل ما يطلبه المرء.

في حالة الجسيمات التحت ذرية التي لا يمكن أن نراها، الإلكترونات تعتبر نموذجًا مفيدًا يستطيع أن يفسر مشاهدات مثل المسارات في الغرفة السحابية وبقع الضوء في أنبوب التليفزيون، وظواهر أخرى متعددة. يقال أن الإلكترون تم اكتشافه عام 1897 بواسطة الفيزيائي البريطاني ج. ج. تومسون في معمل كافنديش في جامعة كامبريدج. كان تومسون يجري تجارب على تيارات من الكهرباء داخل أنابيب زجاجية مغلقة، في ظاهرة تعرف باسم أشعة المهبط Cathode Rays. قادته تجربته إلى الاستنتاج الواضح بأن الأشعة الغامضة كانت مكونة من "جسيمات" صغيرة والتي كانت مكونات مادية للذرة، وقد كان يظن أن الذرة هي الوحدة الأساسية للمادة الغير قابلة للتجزئة. تومسون لم "يرى" إلكترون، ولا كانت تخميناته مباشرة أو بوضوح يمكن شرحها عن طريق تجاربه. لكن هذا النموذج أثبت أهميته الحاسمة في تطبيقات من العلم الأساسي إلى الهندسة، واليوم جميع الفيزيائيين يؤمنون بالإلكترونات، حتى لو كنت لا تستطيع أن تراه.



الكواركات Quarks، والتي لا نستطيع أن نراها أيضًا، عبارة عن نموذج لكي يشرح خواص البروتونات والنيوترونات الموجودة في نواة الذرة. وبالرغم من أن البروتونات والنيوترونات يقال عنها أنها مصنوعة من الكواركات، فنحن لن نستطيع أن نشاهد كوارك لأن القوة الملزمة بين الكواركات تزيد عند فصلها، وبالتالي كوارك معزول أو حر لا يمكن أن يوجد في الطبيعة. بدلًا من ذلك، فهي توجد في مجموعات ثلاثية (بروتونات أو نيوترونات)، أو في أزواج من الكوارك والكوارك المضاد anti-quark (ميسون مزدوج pi mesons)، وتتصرف كأنها مربوطة بقيود مطاطية.

السؤال بهل من المعقول أن نقول أن الكواركات موجودة حقيقةً إذا كنت لا تستطيع أن تعزل واحدًا كان سؤالًا خلافيًا في السنوات التى جاءت بعد أول طرح للنموذج. فكرة أن جسيمات معينة مصنوعة من تركيبات مختلفة من عدد قليل من الجسيمات التحت-تحت نووية أعطت مبدأ تنظيمي نتج عنه تفسير بسيط وجذاب لخواصها. لكن بالرغم من أن الفيزيائيين كانوا معتادين على قبول الجسيمات التي يمكن الاستدلال على وجودها فقط من الانحرافات الإحصائية في البيانات المتعلقة ببعثرة الجسيمات الأخرى، إلا أن فكرة إعطاء واقعية لجسيم ربما يكون، من حيث المبدأ، غير قابل للمشاهدة كانت صعبة جدًا على كثير من الفيزيائيين. على مدار السنوات، مع ذلك، كلما قاد نموذج الكوارك لمزيد من التنبؤات الصحيحة، كلما بهتت هذه المعارضة. بالتأكيد من الممكن أن يقوم كائن فضائي ما بسبعة عشر ذراعًا، وعيون تعمل بالأشعة التحت حمراء، ولدية عادة نفخ كريم متخثر من أذنيه، بملاحظة نفس المشاهدات التجريبية التي نلاحظها، ولكن يصفها بدون الكواركات. ومع ذلك، وفقًا للواقعية المعتمدة على النموذج، الكواركات موجودة في نموذج يتفق مع مشاهداتنا لكيفية تصرف الجسيمات التحت نووية.

الواقعية المعتمدة على النموذج تستطيع أن تعطينا إطارًا لمناقشة أسئلة مثل: لو كان العالم قد أنشئ منذ وقت محدد في الماضي، ماذا حدث قبل ذلك؟ الفيلسوف المسيحي المبكر، سانت أوغسطين (354-430)، قال أن الإجابة ليست أن الله كان يعد الجحيم للناس الذين يسألون هذه الأسئلة، لكن الزمن هو خاصية للعالم خلقها الله وأن الوقت لم يوجد قبل الخلق، والذي كان يعتقد أنه حدث منذ زمن ليس بعيدًا لهذه الدرجة. هذا نموذج ممكن، والذي يفضله الذين يؤمنون أن القصة المعطاه في سفر التكوين هي قصة صحيحة حرفيًا على الرغم من أن العالم يحتوي على حفريات وأدلة أخرى تجعله يبدو اقدم كثيرًا (هل تم وضعها لخداعنا؟). من الممكن أن يكون لدى المرء نموذجًا مختلفًا، يتسمر فيه الزمن في الماضي إلى 13,7 مليار سنة إلى لحظة الإنفجار العظيم. النموذج الذي يستطيع أن يفسر المزيد عن مشاهداتنا الحالية، بما فيها الأدلة التاريخية والجغرافية، يكون هو أفضل تمثيل لدينا للماضي. النموذج الثاني يستطيع أن يفسر الحفريات والسجلات الإشعاعية وحقيقة أننا نستقبل ضوء من مجرات تبعد عنا ملايين السنين الضوئية، ولذلك يكون هذا النموذج-نظرية الانفجار العظيم-أكثر فائدة من النموذج الأول. وما زلنا لا نستطيع أن نقول أي النموذجين أكثر واقعية من الآخر.

بعض الناس يدعمون نموذجًا يعود فيه الزمن إلى ما قبل الانفجار العظيم. ليس من الواضح بعد أن نموذجًا يستمر فيه الزمن إلى ما قبل الانفجار العظيم سيكون أفضل في تفسير المشاهدات الحالية لأنه يبدو أن قوانين تطور الكون ربما تتعطل عند الانفجار العظيم. لو هذا صحيح، فلن يكون هناك معنى لإنشاء نموذج يشتمل على الزمن قبل الانفجار العظيم، لأن ما وجد في وقتها لن يكون له تبعات يمكن ملاحظتها في الحاضر، ولهذا ربما نتمسك بفكرة أن الإنفجار العظيم كان حدث خلق العالم.

يستكمل …



#بهاء_أبو_زيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- جراح قديمة وطاقة جديدة في عاصمة الثورة السورية
- غيراسيموف: قلة التدريب بسبب العقوبات الأمريكية وراء انهيار ا ...
- دوجاريك: إسرائيل لا تزال ترفض توصيل المساعدات إلى شمال غزة
- أكثر من مليون قتيل وجريح.. الأركان الروسية تحصي خسائر كييف خ ...
- حزمة مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا بأكثر من مليار دولار ب ...
- زاخاروفا تعلق على إمكانية رفع -هيئة تحرير الشام- من قائمة ال ...
- شاهد.. شركة فضاء يابانية تلغي رحلة قمر صناعي بعد دقائق من ال ...
- مقتل شخصين على الأقل إثر اصطدام طائرة بمبنى شحن في هاواي
- نتنياهو يمثل أمام المحكمة من جديد بتهم فساد
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - بهاء أبو زيد - ستيفن هوكينج يسأل: ما هو الواقع؟