|
من -تحالف الأقليات- إلى أين؟ -استبداد الأكثرية- أم سياسة المواطنة؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3490 - 2011 / 9 / 18 - 15:51
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليس المستغرب في ما صرح به مؤخرا في باريس البطرك الماروني بشارة الراعي عن الشأن السوري اختزال الانتفاضة السورية إلى حراك سني، واختزال هذا إلى الإخوان المسلمين، بل خلو التصريح من أية بعد قيمي أو أخلاقي، أو حتى من الحصافة السياسية. لا شيء عن الحرية أو المساواة أو العدالة أو الكرامة الإنسانية، أو "المحبة". فقط أن المسيحيين سيدفعون الثمن قتلا أو تهجيرا، إذا وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في سورية، دون أن يعرف من يعتمد على تصريحات البطرك وحدها أن في سورية انتفاضة تحررية منذ نصف عام، وأن النظام الذي يقلق البطرك على مصيره قتل فوق 3000 من محكوميه المسالمين الثائرين، واعتقل وعذب عشرات الألوف. تكلم الرجل كسياسي، ومن صنف سياسيي "الريال بوليتيك" الذين يُسقِطون أي بعد قيمي من تفكيرهم، ويقتصرون في التحليل على الوقائع الصلبة، وفي العمل على مصالح دولهم. لكن ليست مصلحة لبنان هي ما تشغل بال الراعي، بل مصلحة مسيحييه وحدهم. ولم يشعر غبطته بالحاجة إلى شرح الصلة بين وصول الإخوان إلى السلطة في سورية وبين تحالف "السنة" في سورية مع "سنة لبنان"، وتأزيم "وضع الشيعة" اللبنانيين الذين لا يقنع البطرك أحدا بأن قلبه عليهم فعلا. القارئ المعتاد على لغة المداورة والإحالات الخفية يفهم أن البطرك يعتبر الانتفاضة السورية انتفاضة سنية، وأن الإخوان المسلمين هو الممثلون الطبيعيون للسنيين السوريين. ولن تفيد أية شواهد مغايرة لدفع السياسي الواقعي، البطرك الراعي، إلى العدول عن هذا التقييم الاختزالي. فالسياسيون الواقعيون خشنو التفكير والتصرف، يصرفون باستهانة التمييزات الدقيقة وتشابك الهويات وتحولها والطابع المتشابك والمتحول لكل هوية، ليردوا الجميع إلى الأشكال الأشد ثباتا وواحدية للهوية، الدين والمذهب. السنيون سنيون، في سورية أم في لبنان، وسيتحالفون فيما بينهم ضد الشيعة اللبنانيين. ومع كل سياسة هوية، وبدرجة تتناسب مع أشكالها الأكثر ثباتا وعتقا، ثمة عنصر ملازم لا يغيب: الكراهية. سياسيو الهوية كارهون أكفاء. وعلى كل حال السياسي الواقعي كاره جيد. وعاطفة الكراهية هي ما تلفح وجه قارئ تصريح رجل الدين اللبناني الذي لا يشرح لقارئه أو سامعه لماذا سيدفع المسيحيون الثمن من التغيير السياسي المأمول في سورية، ولا يقدم شواهد على ذلك. وليس مستغربا بالمثل أن يجد علي عبد الكريم، السفير السوري في لبنان أن كلام البطرك «تعبير عن رؤية فكرية ووطنية وسياسية متوازنة ومسؤولة ومنسجمة مع دور الكنيسة التي يمثلها في مواجهة المؤامرة التي تستهدف المنطقة برمتها". لا وجه للاستغراب لأن علاقة السفير بالوطنية والمسؤولية أدنى بعدُ من علاقة بالبطريك. وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن تقال أشياء وأشياء عن مستوى السفراء السوريين والبعثات الدبلوماسية السورية وعن الجهات التي تختارهم وعن معايير اختيارهم، وعن التركيب الداخلي لكل من هذه البعثات.هذا ضروري منذ الآن، ودوما، لكن قد لا تتاح المعلومات الكافية في شأنه قبل "سقوط النظام". وهو ما يجعل السقوط هذا حاجة معرفية، فوق كونه مطلبا سياسيا ووطنيا، وواجبا أخلاقيا. لكن كيف أمكن لرجل الدين اللبناني أن يكون بهذا القدر من الفظاظة؟ وما هي الرسالة التي تصل للسنيين وللإخوان المسلمين من تصريحه الفريد؟ وإذا كان كلامه يندرج ضمن منطق "تحالف الأقليات" الذي تواترت الإشارة إليها مؤخرا، فكيف لا يسوغ سياسة هوية معاكسة تعتمد على الأكثرية، مُعرّفة بالدين والمذهب؟ وهل يشغل البطرك موقعا سياسيا أو أخلاقيا يبيح له التحفظ عن استناد الإخوان المسلمين المحتمل على سياسة أكثرية، "يدفع المسيحيون ثمنها"؟ هناك نقيضان لسياسة تحالف الأقليات. نقيض أول على أرضية سياسة الهوية هو استبداد الأكثرية، الإسلامية السنية في سياقنا. ومن بين جميع الناس، لا يحق للبطرك بشارة الراعي الاعتراض على هذه السياسة لأنه لا يقترح شيئا أفضل من إبقاء الأكثرية نفسها تحت وطأة استبداد قاتل، ولأنه يجاهرها بالكراهية، ويعتبرها خطرا على المسيحيين والشيعة. بهذا يضع البطرك الماروني نفسه في علاقة وجه وقفا بالإسلاميين السياسيين الأكثر تشددا، الذين يعتبرون مجتمعاتنا إسلامية، وتاليا ينبغي أن يدي حكمها إلى الإسلاميين. إذ ما دامت المسألة سياسة واقعية، أطرافها هي الطوائف، فلماذا ينبغي أن تترد الأكثرية الطائفية في الاستفادة من وضعها الأكثري؟ لكن النقيض الحقيقي لسياسة تحالف الأقليات هو ما يناقض أيضا سياسة الهوية ككل، ويقوم على مبادئ المواطنة والمساواة. نخرج هنا من منطق التفكير بمسيحيين ومسلمين، وسنيين وشيعة، إلى التفكير بمواطنين أفراد، متساوين حقوقيا (أمام القوانين) وسياسيا (وراء القوانين، أي في صنعها)، ويكافحون من أجل المساواة الاجتماعية. لا يقبل الإسلاميون بهذا المنطق؟ لديهم تحفظات عليه؟ بلى، لكن لماذا ينبغي أن تكون عبء القبول واقعا عليهم، فإن لم يقبلوا، اقتدى بهم الكل؟ وهو ما يترك موقع الدفاع عن مبادئ المواطنة ومحاولة تجسيدها في الواقع خاليا. وما ينذر مصير مجتمعاتنا، في سورية ولبنان على الأقل، لتوازن القوى بين الطوائف: "لتحالف الأقليات"، وقد تجسد بدكتاتورية عاتية في سورية في العقود الأربعة الأخيرة، أو لاستبداد الأكثرية المحتمل. من شأن الاستناد إلى مبادئ المواطنة والمساواة السياسية والحقوقية والاجتماعية المرتبطة به أن يؤسس لتشكل أكثرية اجتماعية جديدة، ليست متميزة عن الأكثرية الدينية أو المذهبية فقط، وإنما هي ما تتيح لمنحدرين من الأقليات أن يكونوا جزء من هذه الأكثرية الجديدة المتحولة. الانتفاضة في سورية هي أقرب إلى منطق المواطنة بما لا يقاس من النظام الذي اعتمد على تحالف الأقليات منذ نحو أربعين عاما. ليس انتصار الانتفاضة على النظام نهاية للصراع السياسي في سورية، ولا هو إيذان بدخولنا جنة المواطنة متساوين، لكن فوز النظام لا يعني شيئا غير تغذية التمايزات الطائفية وسياسة التحالفات الطائفية التي لا تصلح قاعدة عامة لنظم سياسي مستقر، كيلا نقول متحرر. من المرجح جدا أن يكون للإسلاميين وزن أكبر في الحياة العامة والسياسية في سورية بعد سقوط النظام. لكن من شأن ذلك أن يقرب، لأول مرة منذ نحو جيلين، بين الديمقراطية والعلمانية، بعد تباعد، وبعد أن ارتضى العلماني النمطي في سورية أن يكون شاهد زور على استبداد طائفي مضاد للإسلاميين. ومن شأنه أيضا، وأهم، أن يعيد الأقليات الدينية والإثنية والمذهبية إلى مواقع نقدية وتحررية، خرجت منها منذ عقود بفعل سياسة تحالف الأقليات.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أية نهاية لنظام الحرب الأهلية؟
-
حوار: سورية بعد ليبيا
-
قبول تحدي التغيير دون بديل ناجز
-
حوار متجدد في الشأن السوري
-
في شأن النظام السوري وشركائه الإيديولوجيين
-
في أم معاركه، النظام يخوض حروبه السابقة
-
المعضلة السورية ومآلاتها المحتملة
-
إنقاذ النظام من نفسه أم إنقاذ سورية منه؟
-
-العامية- السورية: انتفاضة مجتمع العمل!
-
الجهلُ مكتفيا بذاته: ردا على أسعد أبو خليل
-
في ذاكرة الانتفاضة السورية وإدراكها السياسي
-
حوار حول الثورات العربية
-
في أصول حرب -النظام- ضد الانتفاضة
-
الطائفية ضد الانتفاضة، الانتفاضة ضد الطائفية!
-
قليل من الأمانة: رد على إبراهيم الأمين
-
ثأر -ربيع دمشق-!
-
النظام في أزمة، وهو من عليه أن يتراجع
-
النظام يتصرف كشبيح، والثورة لن تخمد أو تتراجع
-
السوريون تغيروا، وعلى النظام أن يتغير!
-
سوريا انتفاضة.. والنظام لا يقترح بديلا غير الفوضى أو الحرب
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|