|
الصفر الوطني والصفر الاستعماري
فيصل القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1038 - 2004 / 12 / 5 - 08:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نلاحظ منذ فترة أن معظم الأنظمة العربية التي رفعت شعارات عريضة جداً وتشدقت بمشاريع ثورية عظمى قد بدأت تتنكر أو تتخلى عن مشاريعها واستراتيجياتها بخفة عجيبة لا تبعث على الذهول فقط بل ربما على ضحك مجلجل لشدة استخفافها واستهزائها بالشعوب التي تحملت تخبطها وكوارثها على مدى السنين. ويتفاوت الأمر من نظام إلى آخر من حيث الفجاجة، فقد أعلن بعضها أنه سيتخلى عن معظم مشاريعه الداخلية والخارجية "العظيمة" المعهودة وسيعود إلى قوانين ونواميس ما قبل الثورات "الميمونة" التي قادها قبل أعوام عديدة مديدة، هكذا وبكل يسر وسهولة وهدوء أعصاب، وكأن العقود الثلاثة أو الأربعة التي جرب فيها نظرياته العبثية ومنطلقاته "الكبرى" كانت مجرد ضربة "ودع" أو يا نصيب إما أن تخسر أو تصيب, وبما أنه خسر فلا مانع أن يضرب ضربة يا نصيب أخرى كما لو أن إدارة الأوطان عبارة عن لعبة قمار أو مجرد رهان على أحصنة سبق يمكن أن نكررها طالما لدينا القدرة على دفع ثمن بطاقة المراهنة. ما العيب في المقامرة ثانية؟ أليس لدى معظم أنظمتنا ذرية لها أول وليس لها آخر مستعدة على أحر من الجمر لأن تخوض غمار التجربة من جديد حتى لو كانت إمكانية النجاح فيها تعادل الصفر، فمن الواضح أن المهم بالنسبة لأنظمتنا وورثتها ليس النجاح من عدمه في المرة القادمة بل الاستمرارية في الحكم حتى لو حكموا أطلالاً وآثاراً متهاوية,علماً أن بعض الحكومات التي تحترم نفسها تـُخلي الساحة لغيرها عادة عندما تـُمنى بفشل بسيط جداً فما بالك أن تبذر مقدّرات وعمر أوطانها على تجارب سخيفة غارقة في الأوهام والأكاذيب.
وإذا كان بعض الأنظمة قد اعترف بكل صفاقة بفشل نظرياته محملاً الشعوب عدم القدرة على فهمها وتطبيقها ويريد العودة الآن إلى البداية دون أن يرمش له جفن فإن هناك أنظمة أخرى تعرف تمام المعرفة في أعماق أعماقها أنها فشلت فشلاً ذريعاً على كل الأصعدة وذهبت مشاريعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أدراج الرياح لأنها كانت مجرد أكاذيب أيديولوجية قبيحة، لكنها ما زالت تكابر ولا تريد إعلان فشلها على الملأ بل تكتفي بالكلام عن الإصلاح والاستفادة من أخطائها وهي في الواقع كناية عن إخفاق مقيم.
ولو قابلت أحد وجهاء تلك الأنظمة العربية العديدة في جلسة خاصة بعيداً عن عيون الإعلام لقال لك بالفم الملآن إننا بددنا العقود الماضية سدى ونحن الآن نحاول أن نبدأ من جديد لعلنا نصحح أخطاء السابقين مع العلم أنهم كانوا من أزلام أولئك السابقين الذين يلومونهم الآن ثم التحقوا بالجدد. وقد سمعت كلاماً كثيراً من هذا القبيل في الآونة الأخيرة من شخصيات لها شأنها وتاريخها في بعض الدول العربية. ولم يعد الأمر سراً على ما يبدو.
لاحظوا انعدام الشعور بالذنب والمسؤولية الأخلاقية لدى تلك الأنظمة الهابطة، فبدلاً من الخروج من الساحة أو على الأقل إشراك الآخرين للمساعدة في تخليص البلاد العربية من مآزقها القاتلة نرى أنها تفكر بأن تعيد الكرّة مرة أخرى شاء من شاء وأبى من أبى حتى لو كانت فرص النجاح معدومة تماماً في التجربة القادمة. فالمهم هنا أيضاً ليس أن تنجح التجربة أم لا تنجح بل أن لا يُمس النظام بسوء ويبقى سالماً آمناً حتى لو تسبب في خراب البلاد وأعادها إلى الحضيض مرات ومرات. وهذا ما حصل وسيحصل. إنها العودة إلى الصفر. وما أدراك ما الصفر!!
ولو تأكدت الشعوب أن العودة بها إلى الصفر ستكون ذات جدوى هذه المرة على أمل أن تصحح الأنظمة التي أوصلتها إلى الصفر أخطاءها القديمة لربما كظمت الشعوب غيظها وحسرتها وقالت لنجرب ثانية، فالحياة تجارب، علنا نفلح فنعلو مرتبة عن الصفر. لكن الشعوب فقدت ثقتها بحكامها وهي تعرف أن الصفر الذي ستعود إليه لا يبشر بالخير أبداً، وهو صفر مُكعّب بلغة الراسبين. ويمكن أن نطلق عليه اسم "الصفر الوطني" الذي لا يستطيع حتى الحفاظ على صفريته العدمية ويمكن أن تتدهور قيمته إلى ما دون الصفر ويغدو العدمي أكثر عدمية.
هذا ما سيحدث على الأرجح لأن الحكام الذين يقودون تلك الشعوب هذه المرة، كما ألمحت، ليسوا غرباء أو مختلفين كثيراً عن أولئك "التاريخيين" الذين حكموها في الماضي وأعادوها إلى خانة الصفر، فهم، أي المُجرِّبون الجدد، امتداد للقدامى إلا ما رحم ربي كي لا يتهمونا بالتعميم المقيت. ويقول المثل الشعبي عادة " اللي بيجرب مجرَّب بيكون عقلو مخرَّب". لا عجب إذن أن ابتكر أحد المفكرين العرب بعد الغزو الأمريكي للعراق مصطلحاً جديداً أطلق عليه اسم "الصفر الاستعماري" كبديل للصفر الوطني المعرّض للانحدار والتدهور القيمي.
وكما نرى من خلال تعريف "الصفر الاستعماري" فإنه صفر ذو قيمة، برأي مخترعي ذلك المصطلح . صحيح أنه يعود بالشعوب العربية إلى الحضيض الأول الذي انطلقت منه بعد الاستقلال، إلا إنه صفر قابل للنمو في كل الاتجاهات ويبعث على أمل من نوع ما، على عكس الصفر الوطني اللعين الذي تتدهور قيمته مثل العملات العربية لينخفض درجات ودرجات تحت الصفر حتى يصل قاعاً لا يعرف غير الله عز وجل مداه السحيق. فبينما "الصفر الاستعماري" مرشح للصعود إلى أعلى لأسباب موضوعية كثيرة فإن "الصفر الوطني" ليس أمامه حسب التجربة إلا الهبوط إلى أسفل.
وبناء على هذا التمييز بين الصفرين الوطني والاستعماري يرى أصحاب تلك الأطروحة أن الشعب العراقي مثلاً الذي عاد إلى مرحلة "الصفر الاستعماري" هو شعب محظوظ للغاية مقارنة بالشعوب العربية الأخرى التي عادت أو ستعود إلى نقطة "الصفر الوطني"، وهي على الأرجح كثيرة. فالاحتلال الأمريكي، برأيهم، أعاد العراق إلى لحظة الصفر الذي يمكن أن "يفتح طريق المجتمع العراقي نحو الديموقراطية والتحرر الحقيقي" وفق تعبير الموضوعات في حين أن النظام سابقا كان يقود المجتمع ما تحت الصفر إلى الهاوية. بعبارة أخرى، صحيح أن العراقيين سيبدءون من جديد لكن فرص تطورهم ستكون أكبر بكثير من فرص نظرائهم المبتلين بالصفر الوطني، فالتخلص من المستعمر الخارجي أسهل ألف مرة من التخلص من المستعمر الداخلي.
لقد شبه أحدهم الاستعمار الأجنبي بالدّمل الذي يظهر على الجسد، فهو واضح للعيان وبالإمكان استئصاله والتخلص منه جراحياً. أما الاستعمار الوطني فهو كخلايا السرطان المنتشرة في كل أنحاء الجسم ومن الصعب جداً رؤيتها كي تكافحها دفعة واحدة. بعبارة أخرى فإن الشفاء من الاستعمار الداخلي أصعب بعشرات المرات من الشفاء من الاستعمار الخارجي.
فبينما تنتقل الخلايا السرطانية بالمريض من سيء إلى أسوأ كما هو الحال مع الصفر الوطني المتدهور فإن المُصاب بالدّمل، برأي أصحاب النظرية المذكورة، قابل للتحسن كما هو حال الشعوب العائدة إلى نقطة الصفر الاستعماري. لا عجب إذن أن وصف أحد المعلقين الشعبين الفلسطيني والعراقي بأنهما أكثر الشعوب العربية الآن حرية وتحرراً وامتلاكاً لزمام المبادرة، فهما، مقارنة بالشعوب العربية الأخرى الرابضة تحت ربقة "المستعمر الوطني"، يتمتعان بحيوية عز نظيرها وهما يناضلان ضد المحتلين الصهيوني والأمريكي.
فالشعبان يمران بمخاض عظيم، وغالباً ما ينتج عن أي مخاض ولادة جديدة من نوع ما. أما الشعوب الأخرى فهي في حالة سبات قاتل. وقد سمعت البعض يتهكم متسائلاًً: "متى سنخطر على بال الغازي الأمريكي كي ينقلنا من الصفر الوطني إلى الصفر الاستعماري؟" لاحظوا أن أملنا بات معلقاً ليس على التنافس ومناطحة الشعوب العظيمة بل على الانتقال من صفر إلى آخر أو بالأحرى المراهنة على أضعف الإيمان، هذا إذا كنا مصيبين في مراهنتنا فعلاً؟ يا للتفاؤل!
بعبارة أخرى فإن "الصفر الاستعماري" الذي يهلل له البعض الواهم ويتعلق بأهدابه البعض الحالم قد يتيح، برأيهم، التحرر من ربقة الاستعمار الخارجي، "إذ يفتح الطريق أمام العد التصاعدي على طريق الحرية والتحرر والديموقراطية، بينما استبداد وطغيان الكثير من الأنظمة العربية لم يكن ليفتح سوى نفق الهبوط من جحيم إلى آخر، إذ أن العد التنازلي تحت "الصفر العربي" هو هبوط بآدمية البشر إلى هاوية لا قرار لها، تماما كالعبودية التي ليس لها حدود". لا مانع برأيهم إذن أن يحل المستعمر الخارجي محل الوطني لأنه أسهل كنساً.
لا شك أن البعض سيرى في التطرق إلى أطروحة "الصفر الاستعماري" محاولة يائسة ودنيئة لتبرير الحملة الاستعمارية الأمريكية الجديدة على المنطقة أو التهليل لها أو التبشير بها بطرق ملتوية، لكنه بالتأكيد ليس لذلك الغرض (إلا عند "الليبراليين العرب الجدد" الذين فقدوا صوابهم) بل ربما جاءت هذه الأطروحة من قبيل الدعاء القائل: "اللهم ادفع الظالمين بالظالمين"، فالذي سمح للاستعمار الفاشي الجديد بالعودة إلينا تحت حجج شتى ليسوا كتابنا ومفكرينا المساكين بل أنظمتنا الحاكمة التي أعطت المبرر تلو الآخر للمستعمرين الجدد كي ينفذوا من خلاله. لقد جعلونا "ملطشة للي يسوى وما يسواش" حسب التعبير العامي بسبب الفراغ السياسي والاقتصادي والحضاري الهائل الذي خلقته في بلداننا مما جعل لعاب الكثيرين يسيل من أجل التدخل في أوطاننا. ولو تمكنت أنظمتنا من بناء مجتمعات متينة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لما فكر أحد بغزوها أو تهديدها بالغزو، لكنها لم تفعل وكان جل اهتمامها حماية النظام وزبانيته وليأت من بعدهم الطوفان. وهذا هو الطوفان قد جاء إلى العراق ويهدد بالمجيء إلى دول أخرى خاصة إذا نجح "الصفر الاستعماري" في بلاد الرافدين ولو نسبياًً.
ألا يحق للشعوب العربية في هذه الحالة أن تصرخ قائلة: "اللهم اضرب الصفر الوطني بالصفر الاستعماري لعل يتولد من ذلك شيء" مع العلم طبعاً أن صفر ضرب صفر يساوي صفراً في الحساب. فالوقائع التي تحدث على الأرض تؤكد أن نظرية "الصفر الاستعماري" خاطئة إلى حد كبير، "فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يوجد "صفر استعماري" و إنما يوجد إذلال و تشريد و قتل و تهديم للدول و الممتلكات و استباحة صهيونية للبلاد". لا بل غدت كلمة ديموقراطية "الاسم الحركي للدمار والقتل والاغتصاب والتشريد".
يا الله! هل أصبحت الشعوب العربية محكومة بالاختيار بين إبليس والشيطان فقط، أم "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"؟
#فيصل_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باي باي إصلاحات
-
متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|