|
الحرية في مفهوم جون ستيوارت ميل (1 من 2)
خالد ديوب
الحوار المتمدن-العدد: 3487 - 2011 / 9 / 15 - 08:29
المحور:
حقوق الانسان
إن مفهوم الحرية مثل باقي المفاهيم الفلسفية الحاملة لحقوق الفرد والمجتمع له صيرورة تاريخية منذ القدم وتمتد نحو المستقبل، إذ إن الصراع بين حرية الفرد وسلطة المجتمع ممثلة بشخص الحاكم مغرق في القدم، فقد كان يدور في الماضي بين الرعية أو بعض فئاتها وبين السلطة الحاكمة، وقد اتخذ معنى الحرية في ذلك الحين حماية الأفراد من طغيان الحكام واستبدادهم الذين استمدوا سلطانهم بالوراثة والفتح، ولا مشيئة للرعية في ذلك ولا تجرؤ على منازعتهم في تلك السيادة. وانحصر السعي لتقييد سلطة الحاكم على المحكومين. هذا التقييد كان يعرف بالحرية، وتجلى ذلك في الاعتراف ببعض الحصانات التي يعدّ اعتداء الحاكم عليها إخلالاً بواجباته يجوز للمحكومين مقاومته لرفع التجاوز. وفي وقت متقدم أقيمت الحدود الدستورية التي جعلت موافقة الأمة أو بعض الهيئات التي تمثلها شرطاً لمباركة السلطة الحاكمة. وبرز مفهومان: الأول: اعتبار أن للحكام مصلحة مستقلة تتعارض مع مصلحة المحكومين، ولضمان عدم إساءة الحكام في استخدام سلطاتهم لمحاربة مصلحة المحكومين خولت الأمة حق انتخاب الحكام من حين لآخر. الثاني: يرى أن لا معنى لتقييد سلطة الحاكم باعتبار أن مصلحته متجانسة مع مصلحة المحكومين تنتفي معها ضرورة حماية الأمة من إرادتهم، باعتبار أن الحكام هم التعبير عن إرادة المحكومين والهدف هو توحيد مصلحة الحكام والمحكومين. وبما أن سلطة الشعب نفسه بنفسه لا تعبر عن الحقيقة، فالذين يباشرون السلطة ليسوا على الدوام في اتفاق مع الخاضعين لسلطتهم، لأن سلطة الفرد بمشيئة المجموع ليست سوى سلطة الأكثرية، فاستوجب اتخاذ الاحتياطات لدرء أي خطر ينجم عن سوء استخدام السلطة. وتبرز أهمية حماية الفرد ليس من طغيان الحكام فقط، وإنما من طغيان الأكثرية أيضاً التي تفرض أنماطاً من السلوك تمكن المجتمع من إعاقة نمو الشخصية الفردية بقوة القانون أو سطوة الرأي العام. إذن هناك حرية الفرد مقابل سلطة المجتمع بقوة القانون وسطوة الرأي العام، والحد الفاصل بينهما هو الذي يدور الجدل حول تحديده للتوفيق بين حرية الفرد وسلطة المجتمع. إن قوة القادة تمكِّن من منع التشكيك بقواعد السلوك العام للاعتقاد أن هذه القواعد لا تحتاج إلى إثبات صحتها بالبراهين والدليل، لأنفسهم أو لغيرهم، وتفرض بقوة القانون أو سطوة الرأي العام في الحالات التي لا يتمكن القانون من التدخل. لذلك ظل قادة المجتمع لا يتعرضون لقواعد السلوك العام، وإن كانوا يعارضون بعضها، فشغلوا أنفسهم في الأمور التي على المجتمع نبذها وفضلوا السعي لتغيير عواطف الناس في بعض الأمور التي يختلفون فيها مع المجتمع بدلاً من المشاركة في الدفاع عن الحرية مع الخارجين عن العرف السائد. إن القاعدة الأساسية التي تبيح للناس التعرض بصفة فردية أو جماعية لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه ومنعه من الإضرار بغيره، أما إذا كانت الغاية هي الحيلولة دون تحقيق الفرد مصلحتهِ الذاتية لأن ذلكَ أصلح لهُ، فليس ذلك مبرراً كافياً لا يجوز إجبار الفرد على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، لأنه من الأفضل له ويعود عليه بالخير، وإن القيام بذلك في نظرهم هو عين الحكمة. قد تكون هذه الأمور أسباباً لمجادلته ولا يمكن أن تكون مبرراً لإجباره وإنزال الشر بهِ إن هو أصر على تصرفه. فالإنسان غير مسؤول عن أي شيء من تصرفاته أمامَ المجتمع إلا ما كان منها يمس الغير، وهو سلطان على نفسه وجسده وعقله، وبما أن هدف جميع القواعد الأخلاقية هو تحقيق المنفعة القائمة على المصالح التي لا تجيز إخضاع الفرد إلى أية سيطرة خارجية عنه إلا فيما يخص الأعمال التي يأتيها الفرد من أجل منفعة الآخرين كأداء الشهادة في المحاكم، تحمل نصيبه من أعباء الدفاع العام، إنقاذ حياة الآخر. متى اتضح وجوبها على الفرد أصبح مسؤولاً أمام المجتمع عند الامتناع عنها أو تقصيره فيها. وفي حالات خاصة يترك المرء وشأنه في حسن التصرف، وقد يتمخض عن شرّ أكبر فيما لو أتيح للمجتمع التحكم في تصرفاته، وإن حالت مثل هذه الحالات دون تحديد المسؤولية على المجتمع أم على الفرد فإن ضمير الفرد يجب أن يستيقظ ويحمي مصالح الغير التي لا سبيل لحمايتها بغير ذلك. ولما كانت هذه لا تعترف بمسؤوليةِ أمام الغير فإن ذلك يدعوه للتشدد في محاسبة نفسه. إن حرية الفرد تتضمن حرية العقيدة والفكر والشعور وحرية الرأي والميول في جميع الحالات: مادية، أدبية، دينية، دنيوية. وحرية الذوق والمشرب بما يتوافق مع طباع الفرد دون أن يقف في طريقه أحد ما دام لا ينالهم من ذلك ضرر، حتى لو اعتقد هذا الغير أن ذلك سخف وخطأ ويتفرع عن حرية الاجتماع لأفراد للتعاون على أمرٍ ليس فيه ضرر للغير، وأن المجتمع لا يمكن أن يتمتع بالحرية مهما كان نظامه ما لم يكفل هذه الحريات غير منقوصة، فالحرية في جوهرها إطلاق العنان للناس لتحقيق مصالحهم بالطريقة التي يريدونها ما داموا لم يحرموا الغير من مصالحهم، فالفرد أصلح رقيب على ثروته الخاصة. فكرية، روحية، جسدية، وتستفيد البشرية من ترك الأفراد أحراراً يعيشون على اختيارهم أكثر من استفادتها في حال إرغام كل فرد أن يعيش حسب ما يراه الغير. إن السلطة التي تقدم على كبت حرية التعبير عن الرأي قصد جعل نفسها أداة تعصب للجمهور بافتراض أنها متفقة معه تمام الاتفاق ولا تستخدم وسائل الإكراه ما لم يكن ذلك متفقاً مع ما تراه مشيئة الشعب. فالحرية تنكر على الشعب هذا الحق في مثل هذا الإجبار عن طريقه أو طريق السلطة، ويكون إجبار الفرد لمشيئة العام أفظع مما لو صدر الفعل رغماً عن إرادة الرأي العام. فلو اجتمع الناس على رأي وخالفهم في ذلك فرد في تأييد رأي آخر مخالف فليس هناك ما يبرر إسكات الناس لهذا الفرد، كما ليس للفرد، لو استطاع، إسكات الناس. ولأن الرأي ليس ملكاً لصاحبه فإن كبت حرية التعبير عنه لا يوقع الضرر بصاحب الرأي فقط، إنما الضرر هو بسلب الجنس البشري من الأسلاف حتى الجيل الحاضر تلك الحرية، سواء الذين ينشقون عن الرأي العام أو الذين يلتزمون به. فإذا كان الرأي المخالف صائباً فقد حرموا من فرصة استبدال الحق بالباطل، وإن كان خاطئاً حرموا من فرصة التعرف على الحق بمقارنته مع الخطأ. وإذا رفض الناس الاستماع لرأي لتأكُّدهم أنه خاطئ، فإن كبت المناقشة معناه افتراض عدم وقوعهم في الخطأ، وهذا يكفي على خطأ القائلين بتقييد حرية الفكر والمناقشة. إن العالم بالنسبة لكل فرد هو الجزء الذي يتصل بحياته مثل: حزبه، مذهبه الديني، طبقته الاجتماعية. وقد يكون العالم بالنسبة للبعض البلاد كلها أو جيله بأكمله. وإن هذا الفرد لا تتزعزع ثقتهُ بالرأي الجماعي الذي ينتمي إليه، علماً أن هناك بلداناً وأجيالاً وطبقات ومذاهب وأحزاباً لا تدين بالآراء والمعتقدات نفسها بل تعتقد نقيضها ويُلقي مسؤوليته عن مخالفة معتقدات العوالم الأخرى على عاتق العالم الذي ينتسب إليه ولا يقلقه ذلك. فالأسباب التي جعلت الفرد مسيحياً في لندن من الممكن أن تجعله بوذياً في بكين. والأجيال ليست أكثر مناعة من الأفراد من الوقوع في الخطأ، لأن كل جيل مضى كان يعتنق كثيراً من الآراء. واكتشفت أجيال تالية زيفها. وكثير من الآراء السائدة الآن سوف تنسفها العصور المقبلة كما نسفنا نحن الآن كثيراً من الآراء كانت سائدة في الماضي. فليس هناك يقين مطلق، لذلك يجوز لنا افتراض صحة آرائنا كي نسترشد بها في تصرفاتنا. وهناك فرق بين صحة رأي ما لأنه لا يوجد دليل على خطئه مع تعرضه للمناقشة والانتقاد، وبين افتراضنا صحته بقصد صيانته من الدحض. فإطلاق الحرية التامة للغير في معارضة آرائنا هو الشرط الذي يجيز لنا افتراض صحة هذه الآراء ويمكننا العمل بها، ودون ذلك لا يمكن لأي إنسان أن يكون على ثقة بصحة رأيه واعتقاده. إن تعوُّد الإنسان على تصحيح آرائه عن طريق مقارنتها بآراء الآخرين لا يثير التردد عند ممارستها بل يوليها الثقة التامة، ويكون قد استعد للرد على نقاده لاستعداده لمواجهة الاعتراضات لا تجنبها، وله الحق أن يعتقد أن رأيه في أمر هو أفضل من رأي أي شخص أو مجموعة أشخاص لم يخضعوا آراءهم للقاعدة نفسها التي أخضع رأيه لها.
#خالد_ديوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
-
كولومبيا عن قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو وج
...
-
تتحجج بها إسرائيل للتهرب من أمر اعتقال نتنياهو.. من هي بيتي
...
-
وزير الدفاع الإيطالي يكشف موقف بلاده من أمر اعتقال نتنياهو
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|