|
نهج سياسي فاشل ونَظْم إلهي منقذ
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 3483 - 2011 / 9 / 11 - 01:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أن عالم البشرية قد تعذب بشدة وحاد ع جادة الصواب -سواء من حيث أخلاق أفراده أو من حيث علاقاته الإجتماعية- على نحوٍ يجعل حتى من مساعي السياسيين المحنكين وتدابير الرؤساء المحايدين عديمة الجدوى في إنقاذها. فلا الخطط والمشاريع التي رسمت من قبل السياسيين الأكفاء، ولا المبادئ والأصول التي وضعها الخبراء أصحاب الباع الطويل في مجال الإقتصاد، ولا التعاليم التي يسعى الأخلاقيون لترويجها بقادرة في النهاية أن ترسي أساساً متيناً يمكن أن يشيد فوقه مستقبل هذا العالم الحائر. إن محاولات العقلاء حسنو النية -الذين ما إنفكوا يدعون الناس إلى التسامح والتفاهم فيما بينهم- سوف لن تسكن هذا العالم ولن تعيد إليه قواه المهدرة، وإن جذور الفساد الضاربة الإطناب -والتي قلبت موازين الجامعة البشرية- لا يمكن أن تقلع بواسطة الخطط العمومية في التعاون والتعاضد العالميان مهما كانت تلك الخطط واسعة وحكيمة حتى أنه يمكننا القول بأن تشكيل منظمة عالمية لتوحيد الجهود السياسية والإقتصادية -والتي تتردد كثيراً على الألسن هذه الأيام- لهي عاجزة عن تحويل السم الزعاف الذي يهدد حياة الناس الإجتماعية والسياسية إلى درياق شفاء. إذاً فلم يتبق من حلٍ سوى أن نتقبل -ومن صميم قلوبنا- العرض الرباني الذي قدمه لنا حضرة بهاءالله بمنتهى الوضوح والبساطة في القرن التاسع عشر لأنه يتضمن خططاً إلهية من أجل ضمان وحدة البشر في هذا العصر. وإن أياً من أجزاءها المركبة لهي قادرة لوحدها على مواجهة قوى هدامة من شأنها -لو أتيحت لها الفرصة- أن تجر البشرية اليائسة نحو حتفها المحتوم. أذاً لم يتبق من حل أمام هذه البشرية الحائرة المنهكة سوى أن تولي وجهها شطر هذا النظم الرباني البديع. هذا النظم الذي أساسه رباني ومداه عالمي وأصوله مستندة على العدل والإنصاف وعناصره وأجزاءه بلا مثيل. أركان النظم العالمي ليس بإمكان أحد أن يدرك اليوم مدى عظمة نظم حضرة بهاءالله البديع ومختلف تفاصيله ويعرف سعة إمكانيته ونفوذه حتى ونحن في هذا العصر المترقي، أو أن يتصور مثلاً نتائجه المستقبلية وعظمته وجلاله. إن كل ما يمكننا الحصول عليه الآن عن ذلك النظم البديع لن يكون أكثر من مجرد لمحة سريعة عن بزوغ أول فجر موعود، ذلك الفجر الذي سيزيل -في الميقات المعلوم- ظلمة العالم الإنساني. وإن كل ما نستطيع فعله فقط في الوقت الحالي هو أن نبادر إلى ذكر الخطوط العريضة عن أساسيات نظم حضرة بهاءالله البديع التي وضحها مركز ميثاقه ومبينه المنصوص عليه. لا يستطيع أيّ عقلٍ سليم أن ينكر بأن السبب في ما ألمّ بالناس من مصائب في هذه الأيام إنما يعود في أكثره بشكل مباشر إلى مضاعفات الحروب العالمية وتغافل صنّاع وثيقة السلام وضيق أفقهم. لا يتردد شخص محايد في الإعتراف بأن التعهدات المالية الباهظة التي تعهدت الدول بدفعها لتغطية مصاريف الحرب، وأيضاً نير الغرامات الحربية القاصمة والتي فرضت على الدول المهزومة قد تسببتا -أكثر من غيرهما- في سوء توزيع الذهب، وسوء التوزيع هذا قد أفضى إلى نقص هذا المعدن كغطاء للعملة السائلة وهذا النقص قد أدى بدوره إلى هبوط فاحش في الأسعار مما شكل عبئاً على كاهل الدول الفقيرة. كما أنه ليس بخافٍ على أي محققٍ منصف بأن ديون الدول قد سببت ضغطاً شديداً على سكان أوروبا فأدى ذلك إلى إرتباك في موازناتها المالية وشلل في صناعاتها القومية وزيادة في البطالة. كما لا يوجد أيضاً شخصٌ لا يعترف -مهما كان ساذجاً أو سطحياً- بأن سباق التسلح قد إزداد حدة كنتيجة لشعور عام بالرغبة في الإنتقام وعدم الثقة والخوف من التنافس الناتج عن الإستعداد للحرب وكلها أمور قد تم ترويجها وتأصيل جذورها بواسطة معاهدة السلام حيث تم إنفاق مبالغ ضخمة للتسلح فاق المليارات وهذا بحد ذاته كان كفيلاً بظهور الركود الإقتصادي والكساد المالي. وليس خافياً على أحد -ماعدا قلة قليلة فقط- ذلك التعصب الوطني ضيق الأفق والغاشم المعتمد على الرغبة في الحصول على حق تقرير المصير. ذلك التعصب الذي نتج بعد الحرب العالمية الثانية وتسبب في وضع تعريفات جمركية صارمة ووجه ضربة شديدة إلى آلية العالم المادية وحسن سير أموره التجارية. ولكن ومع كل هذا فلا يصح إعتبار الحروب العالمية -رغم كل خسائرها البشرية والمادية وما أثارته من نعرات وتعصبات- المسئول الأوحد عن حالة الضياع والإضطراب التي أحاطت كل جزء من أجزاء المدنية المعاصرة. النقطة الرئيسية التي أحب أن أؤكد عليها هي أن السبب الحقيقي لإضطراب هذا العالم ليس هو وقوع أمثال تلك الحوادث والتي هي أمر طبيعي وصحي في مرحلة التغير المؤقتة التي يمر بها العالم وإنما هو بسبب عجز قادة الدول -الذين أمسكوا زمام دولهم ومصير شعوبهم بأيديهم- عن مواءمة نظمهم الإقتصادية وآلياتهم السياسية مع متطلبات عصر دائم التحول وسريع الإيقاع. لنا أن نتساءل: ألا يعود -بالدرجة الأولى- سبب هذه الإضطرابات التي تزلزل أركان العالم المعاصر إلى عجز قادة وزعماء العالم عن تشخيص حاجات عصرهم هذا بشكلٍ صحيح وعجزهم أيضاً عن التحرر الكامل من الأفكار الجاهزة التي تحد من حرية حركتهم، وعجزهم أيضاً عن تغيير آليات حكوماتهم على نحوٍ يتطابق تماماً مع موازين ومعايير وحدة الجنس البشري الذي كان ولا يزال المقصد الرئيسي لدين حضرة بهاءالله؟!! حيث أن تحقق مبدأ الوحدة البشرية -والذي يعتبر حجر الزاوية في نظم حضرة بهاءالله البديع- لهو أمرٌ مستحيل إلا عن طريق إخراج الخطة الفريدة التي سبق الإشارة إليها إلى حيز الوجود. يتفضل حضرة عبدالبهاء بما مضمونه: "عند كل إشراق لصبح الهدى كان جوهر ذلك الإشراق أمراً من الأمور ... أما في هذا الدور البديع والقرن الجليل فإن أساس دين الله ولب شريعة الله هو الرأفة الكبرى والرحمة العظمى والألفة مع جميع الأقوام والصداقة والأمانة والمحبة الخالصة غير المشوبة تجاه كل الأمم والطوائف وإعلان وحدة العالم الإنساني ...". إن مما يؤسف له فعلاً هو مدى غفلة قادة المؤسسات البشرية عن روح عصرنا هذا، فكل همهم ينحصر في إدارة أمور شعوبهم طبقاً لقوانين وموازين تعد من مخلفات العصور السابقة، بمعنى أنه يناسب عصراً كان بإمكان الناس فيه أن يعيشوا في داخل بلدهم معتمدين على أنفسهم ومتبعين سياسة الإكتفاء الذاتي. بعبارةٍ أخرى فإن هؤلاء القادة يريدون تطبيق تلك الموازين في زمن ليس أمامه إلا أحد خيارين: فإما أن يسلك الدرب الذي رسمه وحدد معالمه حضرة بهاءالله ويصل بالتالي للوحدة الكاملة وإما أن يختار الطريق الآخر المؤدية للهلاك. ولهذا فإن مما يليق بقادة كل دول العالم كبيرها وصغيرها، شرقيها وغربيها، غالبها ومغلوبها أن يفعلوه -في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ البشرية- هو أن يصيغوا السمع إلى نداء حضرة بهاءالله المحيي للنفوس، وأن يجعلوا همهم منصباً على توحيد البشر فيطيعوا أمره الأعظم ويقوموا قيام الأبطال بلا أدنى تردد أو تقاعس ليظهروا تجاهه الوفاء حتى يحصل البشر المتألم المتعذب -نتيجةً لذلك القيام- على درياق النجاة المعد له من قبل الطبيب السماوي. كما يتوجب عليهم أن يرموا بأفكارهم العتيقة في زوايا النسيان وينأوا بأنفسهم عن كل التعصبات القومية ويتذكروا بروحهم نصيحة حضرة عبدالبهاء -المبين المنصوص- التي وجهها إلى أحد ذوي المناصب العليا في الحكومة الأمريكية في معرض رده على استفسار الأخير عن الطريقة المثلى لخدمة دولته وشعبه فيما مضمونه: "يجب عليك أن تسع في خير كل أمم الأرض وشعوبها تماماً كما تسعى في خير أمريكا، وساعة ما تعتبر العالم كله بمثابة وطنٍ لك عندئذٍ ينبغي أن تعمم نظام الحكومة الفيدرالية -بالشكل المتبع في الحكومة الأمريكية- على ملل الأرض وأقوامها". كما ويتفضل حضرته أيضاً في الرسالة المدنية -والتي حوت معلومات جد مهمة عن موضوع تحديد النظام المستقبلي للعالم- بما مضمونه: "إن أعلام التمدن الحقيقي ستخفق مرفوفة في أرجاء العالم متى ما قام بضعة ملوك عظماء كالشموس المشرقة أصحاب الهمم العالية ذوو الحمية والغيرة والعزم الراسخ والرأي الثاقب بوضع مسألة الصلح العمومي على بساط المشاورة. يتشبثوا بكل وسيلة من أجل عقد مؤتمر لدول العالم لتأسيس معاهدة قوية وميثاقاً وشروطاً محكمة ثابتة معلنة مصدق عليها من قبل الهيئة البشرية جمعاء على سبيل التوكيد، كما ينبغي لسكان الأرض أن يأخذوا في الإعتبار قدسية هذا الأمر الأتم الأقوم الذي هو في الحقيقة سبب رخاء عالم الملك وينبغي أن تصب جميع قوى العالم وجهوده نحو تثبيت هذا العهد الأعظم وإبقاءه. كما يجب أن يتم ترسيم حدود كل دولة في معاهدة الصلح هذه وتوضيح برنامج عمل كل حكومة، وتعيين وإقرار جميع المعاهدات والإتفاقيات الدولية وعلاقات الدول بعضها ببعض وكذلك تحجيم القوة العسكرية لكل دولة بحدٍ معلوم ٍ حيث أن إزدياد المقدرات الحربية لدولة معينة يسبب توجساً لبقية الدول، كما ينبغي وضع أساس هذه المعاهدة على نحوٍ لو أخلت إحدى الحكومات من بعد ذلك بشرطٍ من شروطها تقوم ضدها كل دول العالم -بل الهيئة البشرية جمعاء- لتدميرها ومحوها بكل شدة وحزم. ولو نجح جسم العالم العليل في أن يستخلص لنفسه هذا الدرياق الأعظم فإنه بالتأكيد سيسترجع توازنه ويستعيد عافيته وينعم بالصحة الدائمة إلى الأبد". كما يستطرد قائلاً بما معناه: "إن بعض الأشخاص يستصعبون حدوث هذا الأمر إلى درجة الإستحالة ولكنه ليس كذلك بل أنه لا معنى لكلمة المستحيل في ظل رحمة الله وألطاف المقربين إلى عتبة الخالق سبحانه وبفضل الهمم التي لا مثيل لها للنفوس الكاملة المحنكة والأفكار المتفردة. الهمة الهمة، النخوة النخوة فكم من أمورٍ كانت تعتبر في الماضي من المستحيلات التي لم يكن أحد يجرؤ حتى على مجرد تصور حدوثها وإذا بها نجدها اليوم وقد صارت شيئاً غاية في السهولة. إذاً فلماذا يعتبر حدوث هذا الأمر الأعظم الأقوم -والذي هو في الحقيقة الشمس الساطعة على المدنية الإنسانية وسبب لفوز العالم وفلاحه ونجاته- أمراً مستحيلاً وممتنعاً؟ وفي النهاية لابد أن تتجلى معالم هذه السعادة في عالم الوجود".
أضواء شموع الاتحاد السبع أضاف حضرة عبد البهاء شرحا لهذه الفكرة النبيلة عندما أعلن في أحد ألواحه ما يلي: ... ومع أنّه قد تأسس ائتلاف في الأدوار السابقة إلا أن ائتلاف كلّ من على الأرض لم يكن متيسراً نظراً إلى فقدان وسائل الاتحاد، فبات ارتباط أقطار العالم الخمس والاتصال بينهم منعدماً، بل كانت المعاشرة وتبادل الأفكار بين أمم نفس القارة معسّرا. واجتماع جميع طوائف العالم في تفاهم واتحاد فيما بينها مستحيلاً. أما اليوم، فقد تضاعفت وسائل الاتصال حتى أصبحت القارات الخمس وكأنها قارة واحدة... وعلى هذا المنوال أصبحت العائلة الإنسانيّة، من حكومات ومدن وقرى أكثر احتياجاً لبعضهم البعض. لأن الاكتفاء الذاتي لأي كان يصبح غير ممكن، بقدر ما تزداد الروابط السياسيّة بين جميع الأمم والأوطان، والارتباطات في التجارة والصناعة والزراعة والمعارف وثوقاً يوماً بعد يوم. لهذا فإنّ اتفاق الكلّ واتحاد العموم أصبح اليوم ممكنناً. وما هذه الأسباب إلاّ معجزات هذا العصر المجيد والقرن العظيم، حرمت منها القرون الماضية، لأن هذا القرن - قرن الأنوار، قد اختص بعظمة وقوّة ونورانيّة فريدة لم يسبق لها مثيل. لذلك يتجلّى في كل يوم إعجاز جديد، سوف يتضح نيّر اشتعال شمعاتها بين أهل العالم مع مرور الزمان. "أنظروا كيف أنّ فجر هذه النورانيّة يشرق في أفق العالم المظلم. الشمعة الأولى هي الوحدة السياسيّة التي يمكن مشاهدة بوادر تلألئها الآن. الشمعة الثانية هي اتحاد الآراء في الأمور العالميّة، سيشاهد تمامها عن قريب. والشمعة الثالثة هي الوحدة في الحريّة، وهذه قطعاً آتية بلا شكّ. والشمعة الرابعة هي الوحدة الدينية، وهي حجر الزاوية للأساس نفسه وسوف تتجلى بقوة الله في أشدّ سطوع وضياء. الشمعة الخامسة هي وحدة الأوطان، وسوف يظهر هذا الاتحاد بنهاية الاطمئنان في هذا القرن، فيرى جميع ملل العالم أنفسهم أهل وطن واحد. الشمعة السّادسة هي وحدة الأجناس و بها يصير جميع من على الأرض أهلاً وأبناءً لجنس واحد. الشمعة السابعة هي وحدة اللغة، وهذه تعني إيجاد لسان يتعلمه عموم الخلق للتكلم به مع بعضهم البعض. هذه الأمور التي ذكرت آتية قطعاً إذ أن القوة الملكوتيّة سوف تؤيّد تحقيقها." الحكومة العالمية خاطب حضرة بهاءالله -في لوحه الموجه إلى الملكة فيكتوريا- بهذا الخطاب: "تدبروا وتكلموا فيما يصلح به العالم وحاله ... فانظروا العالم كهيكل إنسان إنه خُلق صحيحاً كاملاً فاعترته الأمراض بالأسباب المختلفة المتغايرة وما طابت نفسه في يوم بل اشتد مرضه بما وقع تحت تصرف أطباء غير حاذقة الذين ركبوا مطية الهوى وكانوا من الهائمين، وإن طاب عضوٌ من أعضاءه في عصرٍ من الأعصار بطبيبٍ حاذق بقيت أعضاءٌ أخرى في ما كان، كذلك ينبئكم العليم الخبير ... الذي جعله الله الدرياق الأعظم والسبب الأتم لصحته هو إتحاد من على الأرض على أمرٍ واحد وشريعةٍ واحدة. هذا لا يمكن أبداً إلا بطبيبٍ حاذق كاملٍ مؤيد. لعمري هذا لهو الحق وما بعده إلا الضلال المبين ..." ويتفضل أيضاً في نفس اللوح "... إنا نراكم في كل سنة تزدادون مصارفكم وتحملونها على الرعية إن هذا إلا ظلمٌ عظيم. اتقوا زفرات المظلوم وعبراته ولا تحملوا على الرعية فوق طاقتهم ... أن اصلحوا ذات بينكم إذا لا تحتاجون بكثرة العساكر ومهماتهم إلا على قدرٍ تحفظون به ممالككم وبلدانكم ... أن إتحدوا يا معشر الملوك، به تسكن أرياح الإختلاف بينكم وتستريح الرعية ومن حولكم ... إن قام أحدٌ منكم على الآخر قوموا عليه إنّ هذا إلاّ عدلٌ مبين". لا شك أن هذه البيانات المهيمنة والمتينة تدل على أنه ينبغي للحكومات القومية والوطنية التي تتبع نهجاً سياسياً شمولياً أن تضع ضوابط تحد من سلطاتها المطلقة حتى تتمكن في المستقبل أن تخطو الخطوة الأولى في سبيل تشكيل إتحاد من جميع شعوب العالم، على إعتبار أن ظروف الزمان تقتضي إيجاد حكومة عالمية عليا تتخلى في ظلها جميع الشعوب -عن طيب خاطر وبمحض إرادتها- عن كل الحقوق والصلاحيات كحق إعلان الحرب وحق فرض الضرائب إلى جانب جميع الحقوق المتعلقة بالتسلح. وحكومة عالمية كهذه ستكون ذات قوة تنفيذية دولية تمكنها من تمرير إرادتها رغماً عن أنف كل دولة طاغية متمردة في ذلك الإتحاد. كما سيكون لديها برلمان عالمي تناط عملية إنتخاب أفراده إلى كل دولة على حده وتحت إشرافها المباشر. كما ستبتدع محكمة عالمية عليا تكون ذات حكم ملزم لا يقبل الجدال وسيشمل نفوذها العالم كله. بل أنه حتى الدول التي لن ترغب في أن تعرض قضاياها على تلك المحكمة ستجد نفسها مضطرة لتنفيذ أحكامها الصادرة. وفي ظل جامعة عالمية كهذه ستزول كل المشاكل الإقتصادية وستنشأ علاقة منفعة متبادلة بين العمل ورأس المال، ستنطفيء نار النزاعات والتعصبات المذهبية وستخمد شعلة العداوات العرقية إلى الأبد. ستدون مجموعة قوانين دولية هي حصيلة مشاورات مندوبي البرلمان العالمي وما سيضمن إنفاذها هو قوى الإتحاد العالمي. سيتبدل التعصب الوطني الأهوج المؤجج للحروب إلى محبة خالصة وأخوة صادقة للجنس البشري. هذه هي الخطوط العريضة وأهم نقاط النظم الذي تنبأ به حضرة بهاءالله وهي أسمى وأسنى ثمرة عصرٍ يتدرج نحو البلوغ. يتفضل حضرة بهاءالله مخاطباً أهل البهاء بما معناه:
"قد ارتفعت خيمة الوحدة. لا ينظر بعضكم إلى بعض كنظرة غريبٍ إلى غريب" "كلكم أثمار شجرةٍ واحدة وأوراق غصنٍ واحد ..." "العالم وطنٌ واحد وأهل الأرض سكانه..." "ليس الفخر لمن يحب الوطن بل لمن يحب العالم..."
الوحدة في التنوع لكي لا يحصل أيّ نوعٍ من الإلتباس حول مفهوم الأهداف الباعثة للحياة لنظم حضرة بهاءالله البديع يجب أن يقال أن هدف الأمر البهائي لم يكن إطلاقاً أن يقلب كيان العالم الإنساني رأساً على عقب بل أن هدفه كان ولا يزال هو توسيع بنيانه وإعطاء شكل جديد لمؤسساته بحيث تتوافق وتتلاءم مع مقتضيات هذا الزمان دائم التغير. كما أن تعاليم حضرة بهاءالله لا تتعارض مع أي نوع من أنواع التبعية والإنقياد الوطني المشروع كما أنه لا ينتقص -بأي شكل ٍ من الأشكال- من قيمة الوطنية الصادقة. إن هدفه ليس إخماد شعلة حب الوطن السلمي المتعقل أو إلغاء نظام الحكم الذاتي فهو من ناحية يعتبر من ألد أعداء الحكم المركزي المطلق كما أنه يتنافر من جهة أخرى مع البيروقراطية والرتابة اللتان تمشي بهما مصالح العالم. إن مفتاح شعاره هو (الوحدة في التنوع) حيث يتفضل حضرة عبدالبهاء بما مضمونه: "لاحظوا أنه وبرغم كون أزهار الحديقة مختلفة النوع واللون والشكل ولكن لأنها شربت من ماءٍ واحد وترعرعت من ريحٍ واحدة ونمت من حرارة شمسٍ واحدة فإن ذلك الإختلاف والتنوع يكون سبباً لازدياد رونق كلٍ منها. وعندما يتحقق ذلك في الجامعة التي هي نفوذ كلمة الله فإن هذا الإختلاف في الآداب والرسوم والعادات والأفكار والآراء والطبائع يكون سبباً لزينة العالم الإنساني. وبما أن التنوع والإختلاف هو تنوع فطري خلقي في أعضاء الإنسان أيضاً لذا تراه يظهر في قمة الكمال والجمال والتناغم. ولأن هذه الأعضاء والأجزاء المتنوعة تقع تحت نفوذ الروح فإن الأخير ينتفذ على جميع الأعضاء ويسري في كل العروق والشرايين ويتحكم في الجسم. هذا الإختلاف والتنوع هو من مؤيدات الإئتلاف والمحبة، وهذه الكثرة هي أعظم قوى الوحدة. لو أن هناك حديقة بها نوعٌ واحدٌ فقط من الأزهار والرياحين والثمار والأوراق والأغصان والأشجار فسوف لن يكون لها أي طعم أو متعة أبداً. أما وعندما تتنوع الألوان والأوراق والأزهار والأثمار فإن كلاً منها يكون مكملاً لزينة الآخر وعلة إظهار رونقها فتكون الحديقة أنيقة وتظهر بمنتهى التناسق والجمال. وعلى نفس المنوال عندما يكون هناك تفاوت وتنوع في الأفكار والأشكال والآراء والطبائع وأخلاق العالم الإنساني تحت ظل قوة واحدة ونفوذ كلمة الوحدانية فسيبدو ذلك بمنتهى العظمة والجمال والعلو والكمال. واليوم لا يستطيع شيء غير القوة الكلية لكلمة الله -والتي أحاطت كل حقائق الأشياء- أن تجمع عقول وأفكار وقلوب وأرواح العالم الإنساني تحت ظل شجرة واحدة...". تبدو تعاليم حضرة بهاءالله للوهلة الأولى مخالفة لكل فكرٍ محدود وتعصب وقصر نظر. ومادام ليس بإمكان الأيديولوجيات المعاصرة والمؤسسات العتيقة التي أكل عليها الدهر وشرب والمفاهيم الإجتماعية والعقائد المذهبية أن توفر رفاه العالم البشري وسعادته وما دمنا نعرف أن أياً منها لن ينجح أبداً في سد حاجة البشرية التي ما انفكت تتجه نحو تكاملها فكم يجدر بنا أن نرمي بها بعيداً في زوايا النسيان ونعتبرها من مخلفات العقائد السابقة. وبما أن العالم مسّيّر بقانون التكون والعدم فإن هذه العقائد والقواعد أيضاً سوف لن تستثنى من ذلك التغيير الذي سيشمل العالم كله. وبغض النظر عن هذا فإن أي قانون أو نظرية سياسية أو إقتصادية لم تخلق إلا لحماية مصالح عموم البشر وليس بالعكس أن يدفع الناس حياتهم ثمناً لبقائه وديمومته.
مبدأ الوحدة الإنسانية يجب أن لا يظن خطأ بأن مبدأ الوحدة الإنسانية -والذي هو محور جميع تعاليم حضرة بهاءالله- ناتج أساساً عن إبراز أحاسيس غير ناضجة وإعطاء آمال وهمية غير صحيحة، أو أن تعتبر الوحدة الإنسانية نابعة فقط عن الرغبة العامة في إحياء روح الأخوة الإنسانية وحب البشرية. وأن نعتبر أن هدفها فقط هو خلق روح التعاون والتعاضد بين مختلف طبقات البشر. بل أن هدفه هو أعظم وأكبر بكثير مما كان مجازاً حتى للأنبياء السابقين أن يفصحوا عنه. إن رسالته ليست موجهة فقط للأفراد بل أنها تتطرق أيضاً إلى العلاقات والصلات القائمة بين الدول والشعوب والتي تجعلهم يبدون وكأنهم أسرة واحدة. كما أنه ليس فقط مجرد إعلان للأهداف بل أنه مترافق ومترادف مع تشكيلات ومؤسسات تعد تجسيداً للحقيقة الذاتية لمبدأ الوحدة البشرية. تشكيلات تظهر للعيان مكانته وقيمته وتحفظ نفوذه إلى الأبد. ومن اللازم أيضاً أن يحدث هذا الأمر -في بنيان الجامعة البشرية الحالية- تغييرات جذرية تكوينية لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل. هذا المبدأ يتضمن مواجهة شجاعة وشاملة مع كل معايير الأفكار الفاسدة والأيديولوجيات القومية والإقليمية. ورغم أن هذه المعايير كانت مناسبة لعصرها وزمانها إلا أنها تخلت حالياً عن مكانتها -بأمر الخالق سبحانه- لصالح معتقدات جديدة تختلف عنها جذرياً بل أنها أفضلها جميعاً، لأن جوهر الوحدة الإنسانية يطالب بتجديد بنيان الجامعة كما يناشد بنزع أسلحة دول العالم المتحضر. العالم الذي يعد كجسم حي متحداً في جميع جوانب حياته الجوهرية ونظمه السياسية والإقتصادية واللغوية نطقاً وكتابة بل وحتى في تطلعاته الروحانية ولكن مع إحتفاظ تلك الدول الأعضاء في نفس الوقت -في إطار تلك الوحدة القومية- بشخصياتها المستقلة وهوياتها القومية المميزة. الخلاصة أن وحدة الجنس البشري هي نموذج وعلامة لتحقق التكامل الإنساني في عالمنا حيث أن هذا التكامل قد بدأ أولاً من الأسرة ليمتد بعد ذلك إلى إتحاد القبيلة ومن ثم إلى إتحاد الحكومة في مدينة واحدة وأخيراً إلى نظام الدول المستقلة. بالإضافة إلى هذا كله فإن مبدأ الوحدة البشرية -والذي أعلنه حضرة بهاءالله- يحمل في طياته الدعوة القائلة بأن الوصول إلى هذا الهدف العظيم -المتمثل في تكامل الجامعة البشرية- ليس فقط أمراً ضرورياً ولازماً بل إنه حتمي الوقوع ووشيك الحصول. كما أنه ليس بوسع أية قوة في العالم -عدا القوة الإلهية- تحقيق مثل ذلك الهدف العظيم. وبالإمكان تلمس الآثار الأولية لتحقق مثل ذلك الهدف السامي من خلال الجهود المبذولة بتعقل ونضج من قبل الأتباع الرسميين لحضرة بهاءالله كلٌ بحسب إمكانياته والمترافقة مع إطلاع كامل على المبادئ الرفيعة لنظمه الإداري وذلك من أجل تأسيس ملكوت الله على بسيطة الغبراء. كما يمكن أيضاً مشاهدة آثاره غير المباشرة من خلال الترويج التدريجي لروح الأخوة والإتحاد والذي انتشل نفسه ونهض من بين ركام واضطرابات عالم اليوم المتفسخ. كم هو مثير للتمعن في تاريخ تحول وتوسع هذا الهدف السامي الذي لابد وأن يكون دوماً مطمح أنظار من يملكون زمام حياة الناس ويتحكمون في مصائرهم. ومن جهة أخرى فإن مفهوم الإتحاد العالمي كان أمراً مستبعداً بل ومستحيلاً بالنسبة للدول التي خرجت حديثاً من معمعة الاضطرابات التي أثارتها الحروب النابوليونية، في ما كانت أنظار غالبية قادتها متمحورة حول كيفية نيل الإستقلال لبلدانهم وتأمين وحدتها القومية، ولم تزد إمكانية تحقق فكرة النظم العالمي -والذي يجب أن تكون دائرة نفوذه أوسع من كل المؤسسات السياسية حديثة التأسيس في تلك الأيام- قوة إلا عندما نجحت القوى القومية في إسقاط أساس الإتحاد العالمي المقدس الذي كان حجر عثرة بطريقهم، إلا أن الأوضاع ما لبثت أن انقلبت بعد الحرب العالمية الأولى فقام مروجو حب الوطن المتطرفين في تلك الحقبة برفض مثل ذلك النظم الذي اعتبروه مصدر خطرٍ كبير وضررٍ عظيم لأن الإعتقاد بنظم عالمي كهذا يضعف -حسب زعمهم- من مقدار الوفاء الذي عليهم أن يظهروه تجاه المبادئ التي تتوقف عليها هوياتهم القومية. وبنفس القدر الذي كان يسعى فيه أعضاء الإتحاد المقدس إلى إماتة نزعة القومية في نفوس الشعوب التي تحررت من قيد نابليون فإن أنصار الحكم الذاتي بالمقابل قد بذلوا ومازالوا يبذلون جهوداً -وبنفس الشدة والتصميم- من أجل الإنتقاص من مبادئ الوحدة العالمية مع أنها تحمل بين ثناياها بذور نجاتهم هم بأنفسهم أيضاً.(حضرة شوقي أفندي من كتاب-النظام العالمي لحضرة بهاءالله)
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صوت السافور-زرين تاج-قرة العين-الطاهرة أعظم امرأة إيرانية (1
...
-
صوت السافور-زرين تاج-قرة العين-الطاهرة أعظم امرأة إيرانية (9
...
-
صوت السافور-زرين تاج-قرة العين-الطاهرة أعظم امرأة إيرانية (8
...
-
سر ليلة القدر-ليلة الليالى-ليلة القدس-غرة أيام الله-قرة عين
...
-
صوت السافور-زرين تاج-قرة العين-الطاهرة أعظم امرأة إيرانية (7
...
-
الطاهرة-صوت السافور-زرين تاج-قرة العين أعظم امرأة إيرانية (6
...
-
استشهاد (صوت السافور-ذرين تاج-قرة العين-الطاهرة أعظم امرأة إ
...
-
صوت السافور-ذرين تاج-قرة العين-الطاهرة أعظم امرأة إيرانية 4-
...
-
الطاهرة-صوت السافور-ذرين تاج-قرة العين أعظم امرأة إيرانية (3
...
-
الطاهرة-صوت السافور-ذرين تاج-قرة العين أعظم إمرأة إيرانية (2
...
-
الطاهرة- صوت السافور-زرين تاج-قرة العين أعظم امرأة إيرانية (
...
-
تجدد الدين بعد موته الروحاني -كيف يستعمل القرآن الكريم كلمة
...
-
المرأة في البهائية
-
الحج في الشريعة البهائية2-2
-
الحج في الشريعة البهائية1-2
-
حكم الصوم في العقيدة البهائية2-2
-
حكم الصوم في العقيدة البهائية1-2
-
أهداف الأديان وهدف الدين البهائي 3-3
-
أهداف الأديان وهدف الدين البهائي 2-3
-
أهداف الأديان وهدف الدين البهائي 1-3
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|