|
فينومينولوجيا الثورة السورية 1 من 3
احسان طالب
الحوار المتمدن-العدد: 3482 - 2011 / 9 / 10 - 21:56
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
الثورة عموما تغيير جذري شامل في الظاهرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية: وفعل اركيولوجي في أعماق الوعي الذاتي والجمعي للفرد والمجتمع يتجلى في تطورات حاسمة متسارعة تؤدي إلى نقلات طفرية في حياة الشعوب والأمم . لا يقتصر الفعل الثوري على ما يعوم فوق سطح الوقائع وما يتجلى في فضاء الحدث بل يتغلغل بحيوية ونشاط في طبقات الوعي السفلى الراكدة ويحركها، ويغير طبيعتها منشئا خليطا جديدا من تركيبة تعيد تفكيك القناعات الراسخة ويزلزل التبعية التلقائية للفكر والإدراك . عرفت سورية الحديثة ثورات ثلاث : الثورة العربية ضد الاحتلال العثماني وقادها رواد النهضة وشهداء 6أيار 1916 الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي شهر آب 1925 وقادها سلطان باشا الأطرش الثورة السورية ضد بشار الأسد آذار 2011 يقودها الشعب السوري من أقصى جنوب سورية إلى أقصى شمالها من البحر إلى الصحراء
الثورة السورية الراهنة : المحرض المتراكم والأسباب المباشرة :
لم يحمل مصطلح الثورة في سورية المعاصرة مفاهيم وقيم تدعو للتفاؤل والاستبشار بل على العكس من ذلك كانت كلمة ثورة تعني القمع والتسلط والقهر لارتباطها بإنقلاب البعث على الدولة السورية عام 8-3-1963- وترافق الشعار مع سلسلة طويلة من الانتهاكات الإنسانية وتدمير للقيم العليا للوطن والشعب وتغيير قسري متعال للثقافة المجتمعية السائدة وإحلال لأفكار متطرفة تتجاوز التعطلعات الشعبية نحو حياة كريمة ورفاه اقتصادي، فحلت الاشتراكية بمفاهيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية مكان قيم البورجوازية التي سادت فترة خلال ما بعد الاستقلال الوطني عن الاحتلال الفرنسي وحتى خلال سنوات الاستعمار كانت الثقافة المدنية والنزوع نحو التنافس الحضاري متغلغلة في مفاصل الحركة الاجتماعية والفكرية. وبقيام انقلاب حافظ الأسد على زملائه في الجيش والحزب في 16-11-1970- رسخ في التصور الشعبي انطباع سلبي جدا لمعاني الكلمة وبات الحديث عن الثورة مرتبطا بتأليه الفرد وحكم الأقلية وغياب تام للدولة وحضور طاغ للعنجهية والتسلط والتكبر رزح الشعب السوري خلال ثلاثين عاما من حكم حافظ الأسد تحت نظام قهري ظالم مستبد فاسد أدخل الناس في حاالة من الذهول والخوف بارتكابه لمجازر دموية رهيبة تركزت في مدن وقرى شملت معظم الأراضي السورية، لقد حملت الذاكرة السورية عن فترة حكم والد بشار الأسد أسوأ ما يمكن أن يختزنه شعب عن حاكم جثم فوق قلوب وظهور السوريين طيلة ثلاثة عقود لم يعرفوا فيها طعم الراحة ولم يشبعوا طعاما أو يكتفوا غذاء وتصاحب ذلك الشظف بإرهاب سلطوي عسكري أمني أفقد المجتمع ثقته بنفسه وأبنائه فانقلب الجميع أعداء في سياسة مقصودة ومبرمجة لزعزعة المجتمع وتدميره كنتيجة حاصلة للتأليه والربوبية العاهرة التي مارسها حافظ الأسد تجاه سورية وشعبها . ورث بشار الأسد حكم والده من خلال دعم أمريكي مبالغ فيه حيث كانت الإدارة الأمريكية أول العالمين بموت الأب حافظ وكانت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية أول مسؤول في العالم يقابل الوريث الذي حملته مسرحية تعديل الدستور السوري خلال عشرين دقيقة ليكون الحاكم المطلق القادم لقد كان الخلاص من كابوس حكم حافظ بموته كافيا وحده ليستبشر السوريون ويتفاءلوا بالخير بعد أن ظن البعض منهم أنه إله لا يمكن أن يموت وبأن ما عرفه السوريون خلال حكمه يستحيل أن يتكرر لما عانوه من غلاء وبلاء وقتل وتعذيب وتشريد. تلك الحالة النفسية هيأت الأرضية النفسية لدى السوريين لقبول بشار خاصة وأنه شاب يفترض أنه مؤهل أكاديميا ، لم يعاني من الحرمان أو الفقر ولم يشعر بالاقصاء الاجتماعي كونه ولد وترعرع في ظل العز والرفاهية والكبرياء الذي أغرق فيه حافظ الأسد عائلته مما دفع للظن بأنه سيكون أفضل حالا من والده الذي حصل على السلطة ومنها على الثروة التي باتت متوفرة بين يدي بشار وليس بحاجة لمزيد من النهب وسرقة الوطن والشعب فغنى والده مضرب الأمثال ما ينبغي أن يقوده إلى حكم أقل عدوانية وشراسة وتكبر مما كان عليه والده / احدى عشرة سنة أثبتت خطأ التصور المرافق للوريث بل جاءت الوقائع مخالفة لكل التوقعات فشباب الجيل الجديد من عائلة الحاكم القديم أكثر طمعا وأشد رغبة في تراكم الثروات وأكثر تطلعا نحو ارتقاء فوق الشعب واخضاعه . فتك بشار بمعارضيه وأودعهم في السجون لسنوات طويلة ومارست قواته الأمنية القتل والتعذيب والاهانات بحق عامة الناس وبدأت بإعادة سيرة التأليه والربوبية للبشر مقابل عبودية الشعب واسترقاقه، وبالرغم مما رافق عهد وريث الحكم من انفتاح اقتصادي وتوفر لمظاهر التحديث إلا أن التكوين الفئوي والخلفية الاجتماعية للطبقة الحاكمة أبت إلا السير في طريق النهب والفساد المطلق وربما كان التغير الرئيس بين الآب وابنه هو سيطرة الحلفاء الاستراتيجيين على ايران والعراق وقلة خبرة زعماء غربيين بحقيقة الأوضاع في الشرق الأوسط فإن الرئيس الفرنسي سركوزي حمل راية الوريث وأخذ على عاتقه تسويقه أوربيا وأمريكيا ونجح لفترة طويلة قبل أن يكتشف حجم خطأه وضيق تفكيره . اعتمد حكم بشار لسورية على محاور ثلاثة : القوة: جيش ، أمن ، اقتصاد تزييف وخداع الوعي: مقاومة ممانعه ، قومية عربية التحالفات: المعلنة مع ايران و غير المعلنه مع اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية أكمل بشار سياسة والده في بناء نظام مسلوب الإرادة خاضع للسلطة الأمنية و جيش ضخم العدة والعتاد مدرب ومجهز بالآعداد الكبيرة من الطاقات البشرية بهدف حماية النظام وتأييد بقائه وتثبيت توريث الحكم ، مستعينا بعدد كبير من الأجهزة الأمنية المحشورة في تفاصيل حياة الناس اليومية والمعاشية ، كما أدخل كل القوى الاقتصادية تحت سيطرته وطبعها بآليات الفساد ماجعلها خانعة خاضعة لسيطرته ومنع كل الفاعليات الاقتصادية المستقلة من ممارسة أي نشاط اقتصادي منفصل عن قبضته . بالتعاون مع اسرائيل وإظهار العداء المستطير لها برفع رايات الممانعة والمقاومة وحماية وجود اسرائيل وأمنها طيلة أربعة عقود مارس خلالها الأب والإبن سياسة مزدوجة تعلن خلاف ما تبطن وتفعل خلاف ما تقول وتصرح . كان لفكرة المقاومة والممانعة أثر بالغ في سكوت الشعب وخضوعه لا عن عجز بل عن رضى في سبيل نيل الكرامة الأكبر والحرية الأكبر فكرامة الوطن وحريته مقدمة على كرامة الشعب وحريته، ما جعل الكثيرين يصمتون عن ما يعانوه من ذل وعبودية، ولقد كان لاحتلال العراق - أذار 2003- دور بارز في اخماد المطالبات الاصلاحية بالديمقراطية نتيجة للصورة المفزعة لطريقة نشر الديمقراطية بالطريقة الأمريكية ما ساهم لسنوات عدة في تأسيس الخوف من التغيير والقبول بالاستقرار المزيف خشية مما هو أسوء جاءت الثورة التونسية في أوائل كانون الأول لتقول لكل شعوب العالم أن الشعب قادر ويستطيع إسقاط الدكتاتور وتفاعلت الثورة المصرية ( 25 يناير ) غير بعيد وأسقطت الحكم وأعادت إحياء الشعب في وجه حكامه وبرهنت قدرتها على إزالة الطاغية وانتشرت رياح الحرية في أرجاء البلاد العربية وأعادت الصحوة المجتمعية، للضمير الجمعي العاشق للحرية وسقت سحابات الخير تربة نفوس تطلعت دائما نحو الحرية والكرامة، فوقف الآلاف في أكبر سوق في مدينة دمشق يرفعون شعار (الشعب السوري ما بينزل) وثبتوا ساعات يرددون مقولتهم معبرين عن قهر دفين وسكوت طويل على ذل وقهر، فسارعت السلطة لمعالجة الموقف وتدخل وزير الداخلية مباشرة في تهدئة المتظاهرين وبقي الجمر تحت الرماد وفي 15 آذار كتب أطفال درعا على جدران مدارسهم : الشعب يريد إسقاط النظام فثارت حفيظة الكبر والتجبر المتأصل داخل عقول ووجدان زبانية النظام واعتقل أطفال درعا وعذبوا وقلعت أظافرهم فهرع الأهالي والمشايخ يسألون عن أبنائهم فأجابهم عاطف نجيب محافظ درعا أنذاك: انسوهم واذهبوا وأنجبوا غيرهم وإذا لم تستطيعوا فسأرسل لكم رجالا من عندي .... كانت تلك الشرارة التي أشعلت وقود الثورة الكامن في كل مكان من بقاع سورية ، فجمر الكرامة المسلوبة والتوق المتمكن للحرية يريد التمرد على الصبر والكبت ورواسب التربية الأهلية التي زرعت بذور الخوف والرهبة من الطاغية الجبار ووريثه الشعب أصدق أنباء من الكتب : تواترت تحليلات النخبة الثقافية والسياسية والعربية والسورية والدولية الغربية على استكانة شعوب الدول العربية ورضوخها للذل واستمرائها للاستبداد وتآلفها مع الطغيان والفساد وبات من شبه المجمع عليه بين المفكرين والكتاب والسياسيين أن الشعوب العربية لا تنتفض وأن نسبة التغيير الداخلي في تلك الدول محصلته الصفر فالشعوب باتت في حالة من الضعف الاجتماعي والجمود الفكري ما جعلها أداة طيعة في يد الطغيان وآلة مسيرة في يد الفساد.
#احسان_طالب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاكيات الباكيات
-
تربة مقديشو
-
عيون العيد
-
حماية المدنيين في سورية والسيادة الوطنية
-
الرابطة الوطنية
-
رؤية للتغيير : مقدمة في مفاهيم الديمقراطية والوطنية والمواطن
...
-
عيون الشهداء
-
نهاية جلاد
-
من أين نبدأ, ملاحظات دستورية
-
أكلة لحوم البشر
-
ماذا يعني إسقاط النظام وكيف
-
يوميات ثورة حالمة
-
لماذا لا للحوار
-
الملل في الحياة الزوجية
-
هل تستحقين صديقا أفضل ؟
-
محراب النشوة
-
من خاف زجاج مغشى
-
مقدمة كتاب المصالحة مع العقل
-
عند اللحظة الأخيرة
-
تأصيل فضيلة التسامح
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|