|
فيلسوف المرآة
سوسن بشير
الحوار المتمدن-العدد: 1036 - 2004 / 12 / 3 - 08:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
طالبة تجلس في الصف الأخير من مدرج جامعي تحادث جارتها، وأستاذ للفلسفة عُرف بجديته ينظر إليها حانقاً، لكنه يتابع محاضرته في الوجود عند هيدجر، تلاحق الطالبة أستاذها بعد انتهاء المحاضرة حتى غرفة الأساتذة، ويدور بينهما حوار تبدأه الطالبة: هل يمكنني أن اسأل سؤالاً؟ يجيبها "هل هذه طريقتك في قول آسفة"، و يشير بإصبع يكاد يلامس جبهتها، “مخك نظيف لكن لعبية"، ماذا تريدين؟ لماذا لا تدرس لنا فلسفة المرآة يا دكتور؟ ومن أخبرك عن بحثي"فلسفة المرآة"؟ طلبة العام الماضي يا دكتور، وعرفت أنه مشروعك الخاص، لكن لماذا استثنيتنا؟ في العام الماضي كان زملاؤك يدرسون بنظام السنة الدراسية الكاملة، وكان هناك متسع من الوقت لأدرس بحثي إلى جوار ميتافيزيقا الفلاسفة المعاصرين، هذا العام طُبق عليكم نظام الفصل الدراسي، لا وقت لبحثي الخاص. دار هذا الحوار بين أحد أنبل الأساتذة الذين عرفهم قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وهو الدكتور محمود رجب، وبين كاتبة هذه السطور. وبعد عام واحد من هذا الحوار خرج "فلسفة المرآة" كتاباً كاملاً من دارالمعارف المصرية.كانت الطالبة قد تخرجت، ودخل الأستاذ دوامة طويلة، انتهت بعد سنوات بوفاته متأثراً بمرض السرطان. بقى "فلسفة المرآة" شاهداً على مكانة مؤلفه، فعلى مدى مقدمة وبابين بأربعة فصول، يجيبنا الدكتور محمود رجب على السؤال الأولي الذي يتبادر لأذهاننا " وهل للمرآة فلسفة"؟ وعلى أسئلة أخرى تتلاحق مع قراءة هذا العمل المدهش. وفي المقدمة تتضح رسالة، لهؤلاء الذين يعتقدون أن الفلسفة خاصة بمن يسكنون أبراجاً عاجية، ولا علاقة لهم بباقي البشر. فبداية الفلسفة مع سقراط الذي حاور حرفيين عن أدواتهم، ليخرج بهم إلى أسئلة تتعلق بماهية الفعل الإنساني العام، أي كان يبدأ معهم باليومي الحياتي. نعم، حلقت الفلسفة بعد ذلك بعيداً، لكنها عادت في القرن العشرين وبقوة، إلى طرح أسئلة الوجود الكبرى عبر التفصيلي المعاش، وهذا عبر ثلاث مدارس فلسفية: الظاهراتية، الوجودية، والتحليلية. وأصبح الحديث وارداً عن موضوعات، كالجسم، الإدراك، القلق، الضحك، وغيرها من الموضوعات المتعلقة بالإنسان. والذي لم يعد مستغرباً، هو الحديث عن الأشياء، عن العيني، الذي يراه الناس تافهاً. لكن الحديث عن التافه العيني، ليس من قبيل الغرق فيه، بل من أجل هدف بعيد ترجوه الفلسفة، وهو فهم الوجود بعامة والوجود الإنساني خاصة، من خلال العلاقات بالآخرين والأشياء. وهنا يتضح الفارق بين الفهم الفلسفي عبر تفاصيل الحياة اليومية، وفهم الإنسان العادي المنغمس في هذه التفاصيل. ومن الجدير بالذكر هنا القول، إن محمود رجب أول من قدم تطبيقاً فلسفياً عربياً حقيقياً لهذا المنهج، يقابله في الرواية نجيب محفوظ، وفي الشعر سعدي يوسف. لكن اختيار محمود رجب لموضوع المرآة، جاء كاختيار من يدخل مسابقة في الحياكة، فيختار لثوبه قماشاً عريضاً ليظهر عليه مواهبه، فالمرآة بقدر ما تحمل من عينية، تحمل إسقاطات كبرى على مر التاريخ. لكن ما هي المرآة؟ يجيبنا المؤلف"المرآة، عموماً، عبارة عن سطح يعكس كل ما يقوم أمامه. فأي شيء يمتلك خاصية السطح العاكس، فهو مرآة. وكلما كان أنقى وأصفى، كان مرآة أفضل". يخرج المؤلف من هذا التعريف بنتيجة، أن كل ما في الوجود يصلح أن يكون مرآة، حقيقية أو مجازية. بل تتداخل الاثنتان، فينظر الإنسان في المرآة، ليتجمل حيناً، ولينظر في صفات نفسه حيناً، فالمرآة طريق لمعرفة النفس، في سطح مصقول أو في صديق أو في كتاب. عبر درس أكاديمي أصيل يطرح د.محمود رجب موضوعه، ولن يفلح أي مقال إلا في الإمساك بالهدف الكلي للدراسة. الإنسان مرآة الإنسان،فعين الإنسان مرآة طبيعية،تعكس بشكل فعلي من ينظر في حدقتها،فالمحب والمحبوب ينعكس وجه كل منهما في حدقة الآخر، وبالقياس تنعكس وجوهنا في أحداق أعدائنا،وقد نرى بوضوح كراهيتنا المطلة،في حدقة الآخر. إن الهواء من حولنا مرآة، فيحكي أرسطو عن رجل ضعف بصره بشدة، فصار الهواء القريب منه مرآة، حيث تنعكس عليه أشعة بصره، ولم يستطع الرجل فهم الأمر، و اعتقد أن ظله يمشي أمامه. وسليمو البصر قد يرون أوهاماً من على المسافات البعيدة،يحسبونها أرواحاً أو كائنات غيبية، و ما هي إلا انعكاسات لا حياة فيها، ويتوقف ظهورها على طبيعة الهواء،لكنها قد تترك الإنسان الذي رآها،وقد آمن بوجود الأشباح مثلاً. قدم الشاعر الخالد أوفيد،في القرن الأول الميلادي أسطورة يونانية. تقول الأسطورة إن الآلهة أمرت الفتى الجميل نرجس ألا ينظر إلى وجهه في مياه البحيرة، لكنه عصى الأمر وتسلل للبحيرة في ليلة مقمرة، ورأى وجهه فيها غاية في الجمال، فهام وأدام النظر في جماله حتى ذبل، وحلت عليه لعنة الآلهة، فحولته إلى زهرة تنمو على شواطئ البحيرات، ومن هنا جاءت النرجسية، تلك النرجسية الفردية، التي حولها الفيلسوف جاستون باشلار(1884 – 1962) في كتابه"الماء والأحلام"، إلى نرجسية كونية، فالعالم ما هو إلا نرجس كبير يتأمل ذاته في سطح البحيرة، حتى تلك الزهور التي نظنها بسيطة، إن عينيها تقعان على صفحة الماء لتتأمل ذاتها أبداً، فالطبيعة ونرجس، كلاهما يتأملان وكلاهما يشهد جمال الآخر في مرآة الماء. الماء الذي هو سر الحياة، يعد من بين العناصر الكونية، الأفضل والأكثر عكساً لما يقوم بإزائه أو فوقه، ويظل الارتباط قائماً بين مرآة المياه الصافية، ونظر الإنسان الدائم إلى ذاته. وربما ينبغي أن نتساءل هنا، كيف أثرت المرايا في رؤى الإنسان لذاته، خاصة إذا علمنا أن المرآة الزجاجية، بدأت صناعتها في بداية القرن السادس عشر في فينيسيا، وبعد ذلك بمئة عام تم اكتشاف البللور الزجاجي، أما قبل فعرف الإنسان مرايا زجاجية لكن ذات أرضية معتمة، لا تظهر فيها الصور واضحة. أثر اختراع المرآة الزجاجية تأثيراً هائلاً في نمو الشخصية الإنسانية ووعيها بذاتها، فمن اهتمام الإنسان بصورته، ومحادثته للمرآة، أدرك الإنسان صفاته ونشأ إحساسه بالشخصية المستقلة، وكأن المرايا تلعب الدورين، تُنضج الشخصية الإنسانية لتعي تفردها، وتدفع بها في آن إلى ملكوت من النرجسية والاستحواذ. ومن الجدير بالذكر هنا أن فن السيرة الذاتية يرجع إلى الوقت الذي صنع فيه الإنسان مرايا جيدة. و من المرايا الكتب يوجد أنواع، فهناك كتيب ظهر في انجلترا في القرن السادس عشر بعنوان"مرآة ذهبية"، يدور حول إشتقاقات أسماء النبلاء و علاقتها بالفلك، والكتاب ما هو سوى قصائد تقدم للناس أمثولة رمزية، تربط الاسم بالفلك وبالتالي بما يمكن حدوثه في المستقبل، فيعد الكتاب مرايا لهؤلاء النبلاء لرؤية مستقبلهم.والتراث العربي ذاته يمتلئ بمثل هذه الكتب المرايا، مع اختلاف دلالة المرآة، فنجد مرايا النبوءات في باب "أخبار العجائب والغرائب" في مؤلفات المؤرخين العرب القدامى. لكن الكتب المرايا بمعنى كشف المحجوب في العلوم الدينية، فنجدها في "مرآة الأنوار وكشف الأسرار"والمؤلف مجهول، و"تفسير مرآة الأنوار"للإمام محمد الباقر، الإمام الخامس لدى الشيعة، و"مرآة الحقائق"للبروسوي، وغيرهم. وبالنظر للمذهب الشيعي كنموذج لتوضيح مرايا الله والإنسان، يطرح المؤلف فكرة التوجه نحو الله لدى الشيعي، فالرسول والأئمة المعصومين وسائط الشيعي لتجلي وجه الله، وهنا تأتي مناسبة قول مأثور عن الإمام جعفر الصادق، في إجابته عن الوجه الذي لا يهلك فقال"نحن وجه الله الذي لا يهلك"، ويوضحه قول الإمام علي في خطبة البيان"أنا وجه الله....أنا مرآته". أما مرآة العالم فقد بدأت مع أفلاطون، الذي نظر للعالم بوصفه مجرد انعكاس للمثل، تلك المثل العقلية الكائنة في عالم مفارق، وأخذ العالم الإسلامي بمتصوفيه وفلاسفته هذا النموذج، وطبقه ابن عربي أوسع تطبيق في مذهبه وحدة الوجود، ويتضح هذا في قوله"و قد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه، فكان(العالم)كمرآة غير مجلوة". ولقد استخدم المتصوفة المرايا المتعددة، وأفضل نموذج لشرحها هو غرفة المرايا، حيث تعدد صور الواحد وتكثرها، ويرى الإنسان بداخلها نفسه من جميع الجوانب التي يراه الناس منها، الصور تتضاعف، يرى الإنسان نفسه صورة بعد صورة، والصور تعود لأصل واحد، وهنا إلى جانب ما تقدمه هذه الغرفة من فهم للإنسان في تعدد صوره، تقدم ما يعيننا على فهم ما فسره ابن عربي وغيره من المتصوفة، في تكرار عوالم"أرض الحقيقة" عالماً بعد عالم. وفي المسرح استخدم جان جنييه(1910-1986)في مسرحيات مختلفة، نموذج متاهات المرايا الزجاجية، حيث يماثل بين وضع الإنسان في العالم ووضعه في المتاهة، تنعكس صورته متعددة، ويرى الناس خارج المتاهة، لكن زجاج المرايا يعيقه في التقائه بهم.
والمرايا كالعدسات، منها المحدب والمقعر، ما يختصر الأشياء ويلغي بعضها، وما يكبرها ويضيف إليها تفاصيل لم نكن نتوقعها، ومنها ما يغير ويقدم أغلاطاً لا وجود لها في الواقع، كذلك العالم خارج المرايا، وكذلك النفس جوهر الإنسان. وعبر درس فلسفي بامتياز، متعدد التفاصيل والزوايا،لا يمسك بها مقال كما أسلفت، قدم الدكتور محمود رجب دراسته عن المرآة، تلك الأداة التي نستخدمها جميعاً وربما لا نفكر في لحظات مواجهتها اليومية، بكل ما تعكسه علينا وحولنا من أسباب ونتائج.وما سبق مجرد إشارات لما يحتويه"فلسفة المرآة، هذا الكتاب الذي لم يدرسه الدكتور رجب لطلبة قُلصت ساعات دراستهم، فرأى أن واجبه كأستاذ جامعي في تجاوز بحثه الخاص، وتقديم درسه الفلسفي المعتاد ليأخذ براحه في عقول الطلبة. وبالنسبة لي لم أكن أحتاج ليوم عالمي للفلسفة أو حتى شهر أو عام، لأتذكر الدكتور محمود رجب....فيلسوف المرآة، فيكفيني أنني أتذكره .......حينما أقف لفترة كافية أمام المرآة.
#سوسن_بشير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يحدث في بلادنا : يوم عالمي للفلسفة بلا فلسفة
-
ماريت تقول : مصر تقتل نفسها
-
جيفارا ....مقهى ومطعم
-
فرقت السلطات السعودية بين علي الدميني وأبيه....فهل لا تفرق ب
...
-
بَدَد الشيوعية العربية بين أثر مفتوح و تأويل ُمفرط
-
قدرألذوات العربية المتفردة وشعوبها بين التجميد و الإذابة:فرج
...
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|