حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 3479 - 2011 / 9 / 7 - 08:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أصبح شعار هذا العصر " كن سخيفاً تنجو و تنجح ". نوضح في هذه المقالة معالم فلسفة السخافة و سيطرتها على المشهد الثقافي. و نتخذ نموذجين على تفوق السخافة و انتصارها إعلامياً , و هما كتاب " إنغلاق العقل الإسلامي " للباحث روبرت رايلي و كتاب " نهاية التاريخ الحديث في الشرق الأوسط " للمفكر و المؤرخ برنارد لويس.
جدل الشرق و الغرب
في زمن السوبر سخافة من المتوقع أن يقع العديد من الباحثين و المفكرين في حفرة السخافة التي تضيق بأهلها و تجعلهم يتصورون أنهم اكتشفوا اكتشافات فكرية و علمية مهمة. هذا لأن عصر السوبر سخافة حوّل السخافة إلى قيمة عالمية عُليا ؛ فمَن لا يشارك في صناعة السخافة يبقى خارج الضوء الاعلامي و لا ينجح ككاتب أو باحث. في هذا العصر السخيف معظم وسائل الاعلام التي من ضمنها الفضائيات التلفزيونية و دور النشر تفضّل عرض برامج السخافة و نشر الكتب السخيفة لأن سخافتها تجذب الانتباه فتضمن مدخولاً مادياً جيداً لتلك المؤسسات الاعلامية. و الجدير ذكره هو أن المُستعمِر يتخذ صفات المُستعمَر و العكس صحيح أيضاً ما كفل التبادل الجدلي بين تخلفنا في الشرق و السخافة في الغرب. هكذا تحالف تخلفنا اليوم مع سخافة ما يصدر هذه الأيام من دراسات غربية. بذلك انصهر التخلف و السخافة في حقل واحد هو حقل تجهيل العقول.
هذا الحقل الاعلامي المعاصر يملك وظيفة واحدة ألا و هي استخدام العلوم و المعارف من أجل التجهيل , لذا يتصف بأنه حقل السوبر تخلف و السوبر سخافة في آن. نحن اليوم سوبر متخلفون لأننا نستخدم العلم و التكنولوجيا من أجل نشر الجهل. فمثلا ً, معظم وسائل الاعلام هي في أيدي هذه الطائفة أو تلك و وظيفتها الأساسية محاربة الطوائف و المذاهب الأخرى و تشويهها و قتلها. كما أن معظم المدارس و المعاهد و الجامعات تابعة لهذا المذهب الديني أو ذاك و تخرّج طلاباً رافضين للآخر و لِما يعتقد دينياً أو فكرياً. هكذا نستغل العلم و التكنولوجيا من أجل تجهيل بعضنا البعض. و هذه الحقيقة انتقلت مؤخراً إلى الغرب فبات الغرب يتصرف مثلنا. هذا مثل واضح على هجرة صفات المُستعمَر و انتقالها إلى المُستعمِر. و نحن أيضاً سوبر سخفاء لأننا لم نتعلم سوى استخدام ما نملك و ما نعلم من أجل نشر الجهل و التعصب و الكراهية. و لقد نجحنا في ذلك , و خير دليل حروبنا الطائفية و المذهبية المستمرة من دون انقطاع. و يبدو أن الغرب اليوم يساعدنا في تطوير سخافتنا من جراء ما يعلن و يستنتج. و أوضح مثل على ذلك ما يقدّمه الباحث رايلي في كتابه الجديد.
جدل التراث و فهمه
يحدِّد رايلي الأسباب وراء إنغلاق العقل الإسلامي و يحاول أن يشرح لنا السبب الأساس خلف تخلف و انهيار الحضارة العربية و الاسلامية اليوم. يقول إن الفصل الحاد بين العقل من جهة و الواقع من جهة أخرى كما الفصل بين العقل البشري و الله من منظور العقل الاسلامي يشكّلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى تدهور العقل الاسلامي و إنغلاقه. بالنسبة إليه , بما أن الفكر الاسلامي يفصل فصلا ً حاداً بين العقل البشري و الواقع و الله , إذن من الطبيعي أن لا يتمكن العقل البشري من إدراك الله و معرفة الواقع ما يضمن رفض العقل الاسلامي لأي بحث علمي و موضوعي يسعى إلى معرفة الحقائق. يؤكد رايلي على أن الاسلام ينظر إلى الله على أنه مجرد. لكن بما أن الله مجرد في الاسلام , إذن النتيجة الطبيعية هي أنه من غير الممكن معرفة الله. هذه أول خطوة خطيرة في عملية الانزلاق نحو رفض العلم و المعرفة كما يقول الكاتب. فكما أنه من غير الممكن إدراك الله كذلك من غير الممكن إدراك العالم الذي نحيا فيه علماً بأنه من المفترض أن الكون من صناعة الله و بذلك إدراك مصنوعات الله إدراك لله , و هذا غير ممكن إسلامياً. هكذا يصر الكاتب على أن , من وجهة النظر الإسلامية , العقل غير قادر على إدراك العالم , و العالم من غير الممكن إدراكه. و بذلك تم سجن العقل البشري و قتله ( Robert Reilly : The Closing of The Muslim Mind . 2010. Wilmington , Delaware).
يشرح رايلي تطور هذا الفكر الاسلامي الرافض للعقل و المعرفة. فمثلا ً, يشير إلى هزيمة المعتزلة المنادية بتفضيل العقل على النقل و التي تؤمن بحرية الإنسان و إمكانية الوصول إلى المعرفة و انتصار الأشاعرة الذين يفضّلون النقل على العقل و يؤمنون بالقدر الحتمي. بالنسبة إلى الأشاعرة , يكمن دور العقل في قبول الوحي بدلا ً من التفكير فيه , و لذا اعتبروا أن القرآن أزلي لا يقبل تدخل العقل البشري. لكن , بالنسبة إلى المعتزلة , القرآن مخلوق كالعقل تماماً و بذلك من الممكن تأويل القرآن بما يجعله منسجماً مع متطلبات و منطق العقل الإنساني. انهزام المعتزلة تاريخياً و انتصار الأشاعرة حتم إنغلاق العقل الاسلامي على نفسه و أوصله إلى رفض أي تفكير موضوعي و علمي. و استمر هذا الانغلاق في الانتصار , كما يقول رايلي , مع ازدهار فلسفة الغزالي و انتشارها ( المرجع السابق ).
بالنسبة إلى رايلي , لم يرفض الغزالي أفكار الفلاسفة المسلمين من قبله فقط , بل أكد من خلال رفض مواقفهم الفلسفية على أن العقل البشري فاشل في الحصول على المعرفة. كما أن مواقف الغزالي الفلسفية تؤدي إلى أنه من المستحيل اكتساب العلم و المعرفة. مثل ذلك أن الغزالي يعتبر أنه لا توجد علاقات سببية في الكون. لكن إذا لا توجد علاقات سببية , إذن لا توجد معرفة و لا علم بما أننا نعرف الأشياء و الحقائق بفضل علاقاتها السببية. فكما يصر رايلي : عندما ننفي وجود علاقات سببية , تغدو النتيجة أن كل شيء قد يحدث في الكون و بذلك لا يوجد نظام للعالم ما يحتم استحالة معرفة الكون و نظامه لأنه بلا نظام أصلا ً. يضيف الكاتب قائلا ً إن ظهور فلسفة ابن تيمية و انتشارها و انتصارها أكمل هزيمة العقل العربي الاسلامي لأنها فلسفة تفضيل النقل على العقل أي تفضيل القرآن و السُنة على التفكير العلمي و الفلسفي. كل هذا بالنسبة إلى رايلي أدى إلى نشوء الديكتاتوريات و رفض الواقع و الحقائق و الايمان بالغيبيات و انتشار التفكير اللاعلمي بين العرب و المسلمين. لا يكتفي رايلي بهذا , بل يشن أيضاً حرباً طائفية و مذهبية ضد السُنة و يتهمها بأنها السبب الأساس في إنغلاق العقل الاسلامي ؛ فالغزالي مثلاً و ابن تيمية من السُنة و لذا يستنتج رايلي أن المذهب السُني سبب بلاء العرب و المسلمين ( المرجع السابق ). هذه هي السخافة بعينها ؛ فليست الأفكار هي التي تصنع التخلف بل تأويلنا و استخدامنا اللاعلمي لها ينتج التخلف و يبنيه. و موقف رايلي الطائفي مثل على انتقال صفة المُستعمَر إلى المُستعمِر ؛ فانتقل تعصبنا الطائفي و انقسامنا إلى شيعة و سُنة إلى الغرب فتجسد مثلا ً في موقف هذا الباحث.
طرح رايلي فلسفة السخافة و أوضح معالمها الطائفية و المذهبية لكي نضيف السوبر سخافة إلى سوبر تخلفنا. تتنوع الأدلة على سوبر سخافة هذه الفلسفة منها مثلا ً أن فكرة أن الله مجرد لا تتضمن بالضرورة عدم إمكانية الوصول إلى المعرفة , و ذلك لأنه من الممكن الاستنتاج من فكرة أن الله مجرد أنه من الأفضل البحث في حقائق عالمنا الواقعي بدلا ً من البحث في المجردات. هكذا المبدأ الإسلامي القائل بأن الله مجرد قد يدفع إلى البحث في أمور الدنيا و ظواهر الطبيعة ما يجعل هذا المبدأ الاسلامي حافزاً على التفكير العلمي على نقيض مما يستنتج رايلي. كما أن فكرة أنه لا توجد علاقات سببية تحكم الكون قد تستدعي فكرة أن الكون محكوم بقوانين رياضية بدلا ً من أن تستدعي نتيجة أن العالم خالٍ من نظام. و هذا يتفق مع الموقف العلمي الذي يعبّر عن الكون من خلال قوانين فيزيائية مكتوبة بلغة الرياضيات. فالقوانين الفيزيائية لا تعبِّر عن العلاقات السببية بل تعبِّر عن العلاقات الرياضية بين الظواهر المختلفة. من هنا , رفض السببية لا يتضمن بالضرورة رفض العلم و المعرفة على نقيض مما يستنتج رايلي. هكذا استنتاجات رايلي و مواقفه تعبير صريح عن السخافة لأن لا أسس منطقية و لا علمية لها. بالإضافة إلى ذلك, يعرّف ابن تيمية العلم على أنه " إما نقل مصدّق عن معصوم , و إما قول عليه دليل معلوم" ( ابن تيمية : مقدمة في أصول التفسير. دار مكتبة الحياة. بيروت – لبنان ). هنا لا تفضيل بين عقل و نقل. لذا التراث غير محدَّد ما هو و ما هي مواقفه و نظرياته. بل نحن الذين نحدِّد التراث من خلال قراءتنا له. و لذلك يمسي التراث متخلفاً إذا قرأناه بشكل متخلف , و يصبح التراث متطوراً إذا قرأناه بشكل متطور. لكننا اليوم سوبر متخلفون و سوبر سخفاء , و لذا بات تراثنا مثلنا. تراثنا بذاته ليس متخلفاً و ليس متطوراً , بل يعتمد علينا في جعله إما متطوراً و إما متخلفاً. هكذا نحن مَن نحدِّد التراث بدلا ً من أن يحددنا , و بذلك نتحرر من التراث من دون أن نلغيه.
جدل الواقع و الثورة
تستمر السخافة و تزدهر لتطال المفكر و المؤرخ برنارد لويس الذي يطرح أفكاراً عدة في كتابه الجديد " نهاية التاريخ الحديث في الشرق الأوسط " منها : أولا ً , يقول إن ثمة ثلاثة عناصر ستساعد العرب في تحقيق الحرية و الديموقراطية و خلق شرق أوسط أفضل و هي تركيا و إسرائيل و النساء. ثانياً , يعتبر لويس أن الكلمات و المفاهيم في اللغة العربية تملك مدلولات و معان ٍ عدة و مختلفة ما يمكن الحاكم من تأويل التراث ليخدم مصلحته و مصلحة نظامه , و لذا نجحت الديكتاتوريات العربية في الاستمرار في حكمها. و ثالثاً , يصر على أن الثورات العربية الحالية قد تنجح و تؤدي إلى إنشاء مجتمعات عربية منفتحة و متسامحة و شبه ديموقراطية لكنها لا تستطيع تحقيق ديموقراطية على النمط الغربي. و ذلك مثلا ً بسبب أن أية انتخابات حرة ستؤدي إلى سيطرة الأصوليات الإسلامية. لذا ينبه لويس من إجراء انتخابات حرة في بلادنا و يعتبر أن الانتخابات الديموقراطية لا بد أن تؤجل و أن لا تجري مع بداية التحوّل إلى مجتمع منفتح ( Bernard Lewis : The End of Modern History in the Middle East. 2011. Hoover Institution Press ). الآن , لا شك في أن النساء سيلعبن دوراً أساسياً في نهضة العرب و المسلمين إذا قررنا و أردنا النهوض. لكن فكرة أن دولا ً غير عربية ( أكانت تركيا أم إسرائيل أم إيران ) ستساعد العرب في النهوض فكرة سوبر سخيفة لأنها تعارض منطق الدولة ؛ فكل دولة تسعى إلى خدمة مصالحها فقط و إلا لا تكون دولة. و كيف يُعقل أن تساعدنا إسرائيل و هي معادية لنا و تحتل أوطاننا؟ لا يُعقل هذا إلا من باب السوبر سخافة. كما تفسير استبداد طغاتنا و استعبادهم لنا من خلال أن لغتنا العربية تحتمل تأويلات عديدة و متنوعة تفسير في غاية السخافة لأن كل خطاب في أية لغة يقبل تأويلات مختلفة. بالإضافة إلى أن حقيقة أن اللغة العربية قابلة لتأويلات عدة لا تتضمن بالضرورة أن تكون اللغة العربية خادمة الأنظمة الديكتاتورية و داعمة لها لأن قابلية اللغة العربية للتأويل تجعلها أيضاً طيّعة في أيدي معارضي الطاغية , و بذلك قد تخدم مصالح المعارضين و قضاياهم بدلا ً من مصالح الطغاة. أما موقف لويس القائل بأن ثوراتنا الراهنة لا تستطيع تحقيق الديموقراطية و أنه لا بد من تأجيل الانتخابات الحرة إلى أجل غير مسمى فهو الحجة التي يستخدمها طغاتنا في الشرق لتبرير طغيانهم , و بذلك هي حجة كاذبة و مرفوضة و تمثل السوبر سخافة بعينها. ففي حال بناء الديموقراطية و احترام قيمها و مبادئها سيكون الحكم محدود السلطة و تكون مدة بقائه محدودة و تنقسم السلطة ذاتها إلى سلطات منفصلة تراقب بعضها البعض و ستجري الانتخابات بشكل مستمر ما يضمن تبادل السلطة بين فرقاء مختلفين. من هنا , إمكانية وصول الأصولية الإسلامية إلى الحكم لا تعني بالضرورة القضاء على الديموقراطية في حال احترام مبادىء الديموقراطية و قيمها. يخوّفنا الشرق و الغرب من الديموقراطية , و في هذا سوبرسخافة فائقة. هكذا معظم ما يُقدَّم حالياً على أنه علم و بحث موضوعي ليس سوى تمكين متين لعصر السوبر سخافة و فلسفتها القائلة بأن السخافة خير طريق نحو الشهرة و النجاح.
يضيف لويس قائلا ً إن الأنظمة العربية الديكتاتورية الحالية لا تريد تحقيق السلام في الشرق الأوسط لأنها تحتاج إلى الصراعات و الحروب لتبرر وجودها. من هنا , يستنتج أن السلام سيتحقق من خلال هزيمة تلك الأنظمة الديكتاتورية و استبدالها بحكم مختار من قبل الشعب. يؤكد لويس على أنه يوجد في التراث الثقافي الإسلامي و في التجارب المعاصرة للمسلمين ما يضمن بناء أرضية صلبة لتحقيق الحرية بمعناها الحقيقي. و بالنسبة إليه , مع زوال الصراع بين القوى العظمى على العرب أن يتحملوا مسؤولية تاريخهم المستقبلي و أن يدرسوا أخطاءهم و يتقبلوا نتائجها. يوضح لويس أن العرب يواجهون مستقبليات افتراضية مختلفة فإما التعاون و التطور و إما الدائرة المفرغة المتكوّنة فقط من الفقر و الجهل. و ينبه إلى أن الاعتماد على النفط سيغدو غير مفيد و مستقبله مظلم بسبب تطور التكنولوجيا و انتصارها على أي مصدر آخر لبناء المجتمع و حضارته. بالإضافة إلى ذلك , يدرس لويس وسائل الإعلام كما ظهرت في الماضي و كما أمست في الحاضر ( المرجع السابق ).
يقول لويس إن الوسيلة الإعلامية الأساسية التي سيطرت على تاريخ العرب و المسلمين هي الشعر. فمن خلال الشعر و الشعراء و انتشار قصائدهم بين الناس تمكنت المجتمعات العربية و الإسلامية في الماضي من نقل الأخبار و المعلومات من قطر إسلامي إلى آخر. و كانت هذه الوسيلة الإعلامية فعالة جداً لدرجة أن الحاكم كان يستخدم الشعر و الشعراء لكي يروّج لحكمه و أفضلية وجوده في الحكم. على هذا الأساس , يستنتج لويس أن الشعر كان الوسيلة الإعلامية الأساسية لخدمة الحاكم ما يفسّر اعتماد العديد من سلاطين العرب على الشعر و استقطابهم للشعراء. من منطلق هذا النموذج الفكري , يشير لويس إلى انقسام الشعر العربي إلى هجاء للآخر و فخر بالذات و مديح لها ما يجعل الشعر أداة ناجحة لخدمة مصالح القبيلة و مصالح الحاكم. لكن تحوّل الإعلام المعاصر إلى إعلام شخصي سمح لأي فرد أن يستغل الإعلام لمصلحته. فمع تطور التكنولوجيا و ما تتضمن من وسائل إعلام و تواصل كالتلفزيون و التلفون النقال و الأنترنت و انتشارها على نطاق واسع أصبح كل مواطن قابلا ً لنشر ما يملك من أخبار و عقيدة و أن يختار بحرية المعلومات التي يريد أن تصله بفضل اختياره لهذه القناة الإخبارية أو تلك دون غيرها. هكذا حررت التكنولوجيا الشعوب رغم أنها غير كفيلة لوحدها بأن تحقق الديموقراطية. على ضوء هذه الاعتبارات , لعبت وسائل التواصل التكنولوجية السابقة دوراً أساسياً في تحريك الثورات العربية الراهنة. فبما أن وسائل التواصل و الإعلام أمست شخصية أكثر و في متناول كل مواطن , إذن يستنتج لويس أنه من الطبيعي أن يشارك معظم المواطنين العرب في استخدامها و أن يشاركوا من خلالها في الثورات العربية الحالية من دون أن ينزلوا إلى الشارع فعلياً (المرجع السابق ).
لكن من الصعب التحرر من السخافة في زمن تعتبَر فيه السخافة قيمة معرفية و اجتماعية كبرى. من معالم السخافة اختزال الفكر للظواهر و الحقائق كاختزاله لهذه الظاهرة أو تلك في بُعد واحد و تجاهل الأبعاد الأخرى لها. مثل ذلك اختزال الشعر في التراث إلى وسيلة دعائية للحاكم - الطاغية و تناسي أن الشعر العربي تم استخدامه أيضاً ضد الحاكم و نصرة للثورة عليه. كما أن تاريخنا العربي يحتوي على وسائل إعلامية عديدة مختلفة عن الشعر , و لذا من الخطأ اختزال وسيلة الإعلام في التراث إلى مجرد الشعر. فمثلا ً , الجوامع و المدارس كانت وسائل إعلامية قوية و ما زالت. مثل آخر على فلسفة السخافة الاختزالية اختزال تكنولوجيا الإعلام و التواصل المعاصرة في كونها مفيدة في تطوير المجتمعات و تحوّلها نحو الديموقراطية. هذا لأن التكنولوجيا في حد ذاتها ليست مفيدة و ليست مضرة , بل نحن من نجعلها إما مفيدة و إما مضرة. استخدامنا لتكنولوجيا الإعلام و التواصل يحدِّد ما إذا ستكون مفيدة لنا أم مضرة. فليست تكنولوجيا التواصل و الإعلام المعاصرة هي التي صنعت الثورات العربية الحالية , بل نحن العرب صنعنا هذه الثورات معتمدين على أساليب و أدوات عدة و مختلفة منها تكنولوجيا التواصل و الإعلام. لكن في معظم الأحيان كنا و مازلنا نستخدم التكنولوجيا من أجل التجهيل و مقاتلة بعضنا البعض ؛ فمثلا ً كل طائفة لدينا لها وسائل إعلامها و تكنولوجياتها الموظفة في خدمة مصالحها و ضرب مصالح الطوائف الأخرى و تشويه مواقفها و قتلها معنوياً و جسدياً. من هنا , ما زلنا سوبر متخلفين من جراء استخدامنا للعلم و التكنولوجيا من أجل نشر الجهل و التعصب فيما بيننا رغم أننا حالياً نستعمل أيضاً التكنولوجيا لنشر الثورة العربية الشاملة. فقط حين نتخلى عن استخدامنا للتكنولوجيا الإعلامية من أجل نصرة الجهل و التعصب الطائفي و نستخدمها فقط من أجل انتصار الثورات العربية الراهنة و بناء الديموقراطية سنتمكن حينها من التخلص من سوبر تخلفنا فتمسي تكنولوجيا الإعلام و التواصل محررة لنا. من هنا , من السخافة اختزال التكنولوجيا في كونها محررة للشعوب و داعمة للديموقراطية.
رغم أننا نحيا في عصر السوبر تخلف تمكنا من صياغة ثورات سوبر حداثية فإما أن ينتصر السوبر تخلف و إما أن تنتصر السوبر حداثة. هكذا ليس لشعب من الشعوب وجه أو بُعد واحد بل لكل أمة أبعاد عدة متنوعة و متنافسة , و بذلك انتصار بُعد من أبعاد هذا المجتمع أو ذاك يعتمد على إرادة أفراد المجتمع فهم من سيقررون نتائج الصراع بين الأبعاد المختلفة لمجتمعاتهم. الثورات العربية الحالية ثورات سوبر حداثية لأنها تنسجم مع فلسفة السوبر حداثة القائلة بأن اللامحدَّد يحكم العالم و بأن من خلال لامحددية العالم ننجح في تفسيره و فهمه و معرفته بدلا ً من أن تكون لامحدديته عائقاً أمام الوصول إلى المعرفة. فمن غير المحدَّد ما هي أيديولوجيا هذه الثورات العربية و من غير المحدَّد من هم زعماء ثوراتنا اليوم. كما من غير المحدَّد متى تبدأ هذه الثورة أو تلك في هذا البلد العربي أو ذاك ؛ فلم نتمكن من التنبؤ بحدوث ثوراتنا لأنه من غير المحدَّد متى تبدأ و كيف. الشيء الوحيد المعروف عن هذه الثورات أنها تحمل شعار إسقاط النظام و إسقاط الطاغية. من غير المحدَّد ما هي عقائد و أيديولوجيات هذه الثورات و لذا تغدو ناجحة لأنه من غير الممكن تحديدها فسجنها أو قتلها. و لامحددية الثورات العربية اليوم تجعلها متحررة من أية أيديولوجيا مُسبَقة و زعماء مُسبَقين ما يضمن لها أن تكون حرة بالفعل و أن تكون ثورات ضمن فلسفة السوبر حداثة. لم يحدث في التاريخ أن ولدت ثورات لا زعماء و لا أيديولوجيات لها تحدِّد تفاصيل المجتمع الفاضل و الدولة الفاضلة و سياساتها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية , بينما تمكنا نحن من إنجاب هذه الثورات السوبر حداثية رغم تخبطنا بين سوبر تخلف و سوبر سخافة. و هذا غير مستغرب لأن ثوراتنا الراهنة غير محدَّدة أصلا ً , و هنا تكمن قوتها و أصالتها.
بكلام آخر , بما أننا نحيا في عصر السوبر تخلف و السوبر سخافة , إذن من الطبيعي أن نثور على أنفسنا في وقت ما و أن تكون ثوراتنا ثورات غير محدَّدة الصفات. ثوراتنا اليوم سوبر حداثية بما أن لا مشاريع مستقبلية محدَّدة لها. و بذلك لا تسجن ثورتنا ذاتها في أيديولوجيا محدَّدة ما يضمن حرية الثورة و مصداقيتها. وحدها ثورات السوبر حداثة تستطيع أن تنقذنا من السوبر تخلف و السوبر سخافة. فثورتنا على الطغاة ثورة على أنفسنا المحدَّدة سلفاً ؛ فنحن الطغاة الصغار صانعو الطغاة الكبار.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟