|
قواعد ثقافة الاحتجاج
وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 3477 - 2011 / 9 / 5 - 22:13
المحور:
المجتمع المدني
تعد الثقافة من حيث التأسيس والحضور ذات منشأ اجتماعي وسياسي واقتصادي ، تتدخل في تكوينه هذه العوامل ، فتبدأ بالتمثيل سلوكا يوميا وتوجها مستقبليا ، وصولا إلى كونها أثرا يحمل أبعاد التقدم في التاريخ والزمن مكونة رموزا وتوجهات ومعارف ثابتة أو متغيرة وفقا لطبيعة التراكم و إمكانية الإضافة البشرية أو وفقا لعملية الاجترار والتكرار الذي يصيب الثقافة بالجمود العقائدي وعدم القدرة على التغيير والتواصل بين البشر أنفسهم . ولا تختلف ثقافة الاحتجاج عن المفهوم أعلاه ، فهي وليدة البيئة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتراكمة ، ولكن يختلف حضورها ووجودها من مجتمع إلى آخر ، فالمجتمع الذي يتمتع بوضع اقتصادي جيد ومستوى عال من الرفاهية والحرية والتعليم والصحة .. الخ ، تقل فيه ثقافة الاحتجاج على عكس المجتمع الذي لا يتمتع بهذه المستويات المذكورة سابقا ، ولكن هل هذا دليل كاف لتحقيق ثقافة الاحتجاج لمجرد وجود العوامل المادية للفقدان والاستغلال والتهميش ، بالطبع سوف يكون الجواب هو النفي ، فكثير من المجتمعات ( العراق نموذجا ) تتمتع بوجود عوامل الفقدان للحقوق والكرامة ، ولكن دونما وجود يذكر لثقافة الاحتجاج كسلوك اجتماعي مباشر ضد عناصر التهميش والاستغلال من قبل السلطة السياسية في الأزمنة الراهنة ، إذ إن ثقافة الاحتجاج لا تعتمد على وجود العوامل المادية للاستغلال فحسب بل تحتاج كذلك إلى التراث الاحتجاجي الثوري ، الذي يعي قيمة الإنسان والحقوق والاحترام المباشر للكرامة البشرية ، فالمجتمعات الحديثة نتيجة وجود التاريخ الحقوقي المستمر أصبحت غير مستوعبة للتهميش والإقصاء سوى كونه عامل استغلال ينبغي الثورة عليه والاحتجاج ضده وبالتالي تغدو المعادلة واضحة الفهم وهي : إقصاء وتهميش + ثورة واحتجاج = حقوق متصاعدة الاكتساب ، وهكذا نحو عالم أفضل بشكل دائم ، بحيث أصبحت هذه التحسينات عامل تهدئة للمجتمع وكسب وقت لسلطة الرأسمالية كي تواصل الحضور والبقاء بشكل مستمر .
نموذج العراق
إن بيئة الاحتجاج المادية في العراق متصاعدة من حيث الفقدان والاستغلال والإقصاء والتهميش .. الخ ، ولكنها في الوقت ذاته فاقدة لمحركاتها المعنوية والثقافية ، تلك التي تستطيع أن تجعل المجتمع مهيأ نفسيا وثقافيا ضد جميع أدوات الاستغلال دونما العودة لتبعية إيديولوجية تقودها أسباب طائفية أو عنصرية ، إذ بالرغم من شرعية المطالب والاحتجاجات على أساس الطائفة والعرق لكنها لا تقود إلى جعل الاحتجاج عنصرا مدنيا وثقافيا في سلوك الناس ، فضلا عن إن الطائفية والعنصرية لديها مطالب احتجاجية محدودة الزمان والمكان ، ولطبقات اجتماعية معينة ، من الممكن أن تقودها شخصيات فردية ناشطة في مجال الدفاع عن الطوائف القوميات أو تقودها أحزاب وحركات طائفية أو قومية ، وبالتالي لا يتعاطف ابن الثورة أو مدينة الصدر المعبئ طائفيا مع ابن الرمادي أو العكس هو الصحيح ، خصوصا إذا كانت السلطة تتجه نحو الطائفية في تعبئة الناس ثقافة ومعرفة اجتماعية ، وهكذا نقول إن ثقافة الاحتجاج غائبة اليوم بشكل مدني وثقافي بسبب حضور تاريخ الاستبداد والفقدان للحقوق والكرامة الاجتماعية في العراق ، فضلا عن الفراغ التاريخي لقوى اليسار والتمدن الإنساني ، من حيث تأثيرها على الناس وكسبها قاعدة اجتماعية للرفض والتمرد على الأوضاع الاجتماعية المتردية ، كل ذلك جعل البيئة العراقية فارغة احتجاجيا ، وبالتالي هيمنة الكثير من العوامل التي تؤثر على الجماهير سلبا في إدراكها لحقوقها المستلبة في مجالات أساسية وحيوية تتعلق بوجودها اليومي والمستقبلي ومن أهم هذه العوامل : -
أولا : هيمنة الأصوليات الدينية
تلعب الأصوليات الدينية اليوم دورا كبيرا في إعاقة ثقافة الاحتجاج من حيث توزعها بشكل طائفي ، ديني ، منغلق على مجتمع الطائفة فحسب ، بحيث تصدر للناس عدة مستويات من الوعي والمعرفة من ضمنها 1- الوعي ألانتظاري الديني ألاتكالي 2- السلع البكائية الدينية 3- الانغلاق المذهبي والعقائدي وكل ذلك يجعل المجتمع الطائفي ، غير مدرك بأنه يعيش كما هائلا من " الفقدانات " في مجال الحقوق والكرامة الاجتماعية ، وبالتالي جعل السلطة السياسية تنعم بالهدوء والاسترخاء ، معتمدة على الأصوليات في تمشية حالها وفهم المجتمع المغيب عنه ابسط الحقوق المادية والمعنوية ، ومن ثم هنالك قالبيه معينة للناس ذوي اتجاه واحد وشمولي ، وعقلية مسطحة نمطية إلى ابعد الحدود .
ثانيا : هيمنة فضائيات الاستهلاك الثقافي :
وهنا يتمثل ذلك بانتشار الفضائيات التي تعمل على توجيه الشخصية العراقية وفقا للأبنية الثقافية الطائفية أو القومية أو وفقا لثقافة الاستهلاك المفرغ من أية شخصية ثقافية مدركة وواعية لقيمة الاستلاب والاغتراب في العراق من حيث انعدام ابسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة ، وكل ذلك من شأنه أن يغيب ثقافة الاحتجاج ، إذ تتساوى أحيانا الفضائيات الدينية مع الفضائيات الدنيوية ، فالأولى تشحن الذات نحو الاتجاه العلوي دون المساس بالأرضي المستلب ، إذ لم نجد أي فضائية دينية أو ذات توجه طائفي تدعم ثقافة الاحتجاج والتظاهر السلمي والمدني ضمن حدود النسبي الاكثري ، فرجل الدين يؤكد على المذهب والدفاع عنه خارج إطار الوطن العراق ، الجامع لجميع المكونات الثقافية والدينية ، وكذلك الحال مع الفضائيات التي تسطح الوعي الثقافي فتنتج ثقافة اغترابية عن الواقع الاجتماعي المعاش ، ومن ثم غياب ثقافة الاحتجاج والرفض للواقع الإنساني المتردي على جميع الأصعدة والمستويات ، ولكن هناك بعض الاستثناءات الموجودة لدى بعض القنوات الإعلامية الموجه ضد هذا الطرف أو ذاك تحاول أن تقف مع الاحتجاج والمظاهرات العراقية ، لأسباب بعضها طائفية ، وبعضها قومية بعثية أو لأسباب تتعلق بالدعم والتمويل ضد هذا الطرف أو ذاك ، ومن ثم تصبح هنا عملية نقل الاحتجاج السلمي موجه ومبرمج إلى حد بعيد بما يخدم هذه المؤسسة الإعلامية أو تلك ، دون تفعيل عملية الاحتجاج كثقافة راسخة الجذور لدى المواطن العراقي ضد جميع ألوان الاستلاب والتهميش لأبسط الحقوق والخدمات .
وهنا نستطيع أن نضع خارطة مادية واجتماعية لبيئة الاحتجاج من حيث وجود مصادر الفقدان والاستغلال والإقصاء الاجتماعي والإنساني من جهة ومن حيث غياب مصادر الرفض والاحتجاج والثورة عليها من جهة أخرى ، وهي كالتالي
أولا :- البيئة المادية للاحتجاج :
البيت : فقدان لطاقة الكهرباء ، الماء ملوث وغير صحي أو معدوم الوجود في مناطق كثيرة ، عدم انسيابية مياه الصرف الصحي أو فقدانها .
الشارع : مياه آسنة بشكل مستمر ، انفجار سكاني متواصل ، انغلاق عقائدي ، فقدان للحريات الخصوصية للأفراد عموما
المدرسة : هيمنة السياسة والعقيدة ، ثقافة التلقين والحفظ ، وجود أرباع أو أنصاف معلمين ومدرسين
المستشفى : تردي المستوى الخدمي للصحة والعلاج ، الفساد الإداري وهيمنة السياسة والعقيدة .
الوزارة أو الدائرة الحكومية : الفساد الإداري ، هرمية الاستبداد ، وهيمنة السياسة والعقيدة ، عدم المساواة في الرواتب والأجور، عناصر غير كفوءة على مستوى المدراء العامين ومن يأتي بعدهم في سلم التقسيم الإداري ، استغلال الأقارب للسلطة والفساد .
البرلمان : فقدان الدور الحقيقي للمعارضة والاحتجاج ، ارتباط الجميع ضمن كتل سياسية تمنع كشف الفساد والانتهاكات بشكل فردي خارج سياق الكتلة السياسية ، فضلا عن وجود المحاصصة التي تضعف بدورها عملية بناء الدولة وجعلها ذات إطار ومضمون وطني عراقي بشكل ناجز وفاعل على مختلف المستويات .
ثانيا : - البيئة الاجتماعية للاحتجاج :
وضع المرأة : - لا تتمتع بالقدر الكافي من المساواة مع الرجل ، فالنظرة الذكورية هي المهيمنة ، انحسارها داخل المنزل ، عدم الاعتراف بجسدها وحريتها ، التحرش الجنسي المستمر فضلا عن انزواءها نسبيا ، ضمن أوضاع لا إنسانية في أماكن التسول والبغاء والفقر إلى حد بعيد .
وضع الطفل : تعليم متواصل لثقافة السلطة الأبوية والدينية ، تلك التي تتيح التأديب ألعنفي ، سواء داخل الأسرة ، العائلة أو داخل المدرسة ، ومن ثم نشوء الأجيال في حالة تقليد لسلطة الكبار ، وكل ذلك يشمل ثقافة الأسلحة والعنف الممارسة ضد الطفولة في العراق . وهنا لا ننسى عمالة الأطفال واستغلالهم جسديا بشكل يبعدهم عن المدرسة والتعليم ، أو ممارسة التسول في الأماكن العامة والأسواق والمستشفيات .. الخ .
وضع الشباب : وهنا يشكل وضع الشاب العراقي امتدادا طبيعيا لأوضاع المجتمع بشكل عام من بطالة مقنعة وغير مقنعة ومن انزواء طائفي وعقائدي منغلق وأصولي إلى حد بعيد ، فضلا عن انحسار التعليم أو الوصول إلى المراحل الدراسية العليا ، وكل ذلك يؤدي إلى ولادة أجيال شبابية عاطلة عن التطور ومواكبة الحديث والمختلف لدى المجتمعات المتقدمة ، وبالتالي ما هو موجود ضمن حدود النسبي يكمن في الانزواء في نموذجين من الشباب ، الأول ، استهلاكي ، غير منتج ، غير منتم ، غير مهتم لما حوله من تردي إنساني ومجتمعي ، والثاني ، أصولي منغلق ، يحمل الكثير من مصادر الإقصاء والعدوانية للآخرين ، وصولا إلى الانتماء لحركات أصولية عنفيه إلى حد بعيد .
بعد أن وضعنا هذه الخريطة المادية والاجتماعية لبيئة الاحتجاج من حيث وجود الفقدان والتهميش والإقصاء المتعمد والمستمر من قبل السلطات المتعاقبة سواء تلك التي حكمت بالحديد والنار في الأزمنة الدكتاتورية أو تلك التي حكمت وما تزال تحكم باسم الطائفية والفساد والعنف ، نقول كيف نخلق بيئة احتجاج معنوية ، واقعية من حيث الرفض والمواجهة والاحتجاج الممارس من خلال التظاهرات والإضرابات والاعتصام ، وصولا إلى تعليم المجتمع ككل حق الرفض لان الحياة الحرة الكريمة ليست حكرا على طبقة المنطقة الخضراء ويستثنى منها الفقراء في حي المعامل والنهروان وغيرها من المناطق المنكوبة على سبيل المثال ، إن الكرامة تشمل الجميع وبدون استثناء وعلى السياسي أن يعي ذلك ويمارس الحق في توزيع الحقوق والواجبات على الجميع وبالمساواة الكاملة من الصحة والتعليم وفرض الأمن والخدمات .. الخ ، ولكن بما إن السياسي العراقي يجد المجتمع منقسما طائفيا وعرقيا ، فضلا عن تمتعه بقدر كاف من الأمية الأبجدية والثقافية ، وغياب محرضات أو مهددات الحكومة للرفض والتمرد والاحتجاج ، لذلك نجد السياسي غارقا في اللامبالاة وعدم الاهتمام بهذه الحشود الغفيرة من المجتمع العراقي ، تلك التي تعاني التهميش والإقصاء للكرامة والحقوق الإنسانية وعلى مختلف المستويات . إن عملية خلق بيئة اجتماعية للاحتجاج يحتاج إلى بناء الأساس الذي تعتمد عليها ثقافة الاحتجاج كي تكون على اتصال مباشر مع الجماهير من اجل التذكر الدائم بالحقوق المفقودة والمستلبة ، والتعرض المستمر لانتهاكات السلطة وتعثراتها ، ولأخطاء المجتمع وانحرافاته ، ومن أهم هذه الأسس أو القواعد نذكرها كالتالي
1- فاعلية المجتمع المدني : إذ كلما كان للمجتمع المدني دورا متعاظما ومتطورا في الدفاع عن الحقوق الفردية والاجتماعية ، كلما كانت السلطة غير فاعلة في مجال القمع والاستغلال والتهميش والفساد والانحراف .. الخ أي إن دور المجتمع المدني عامل مراقبة للسلطة وتعثراتها ، يمارس التصحيح والتطوير والانتقال المرحلي من أوضاع سياسية واجتماعية وثقافية إلى أخرى مغايرة عنها بشكل مستمر ، وهنا من الممكن إن يأخذ المجتمع المدني مهمة الثورة وبناء التحولات والقطائع مع النظام المعرفي والثقافي والسياسي والاقتصادي ، وهكذا نحو عالم أفضل بشكل دائم ، ذلك الحديث لا يمت بصلة مع الأسف الشديد داخل الواقع العراقي ، إن مهمات المجتمع المدني مفقودة ، بل نقول إن الأخير ضعيف من حيث الحضور والتأسيس لثقافة الاحتجاج والمطالبة بالحقوق وتنظيم الناس في تظاهرات سلمية ومدنية ، إذ يعد غياب المجتمع المدني ليس غيابا للمنظمات البالغة عددها (14000) منظمة مسجلة في العراق فحسب بل لغياب الأحزاب المدنية والديمقراطية ، وهذه ليست مشكلة المجتمع المدني أو المنظمات التي تدعي انتسابها للمدنية فحسب بل مشكلة الفراغ التاريخي الذي خلفته الدكتاتورية في العراق ، وما عملته الطبقة السياسية الطفيلية الراهنة من استمرار الهدم للمجتمع العراقي وإبعاده عن أية مضامين للمدنية والسلام والتآلف والتعارف والاختلاف واحترام الآخر .. الخ ذلك الأمر غير متوفر في سلوكها السياسي والثقافي والاجتماعي ، وما موجود من ( 14000 ) منظمة مجتمع مدني في معظمها يحمل سمات الوهم وعدم الفاعلية والتبعية السياسية والدينية ، ومن ثم لم يظهر منها في ساحة التحرير أو في أية مظاهرة مطالبة للحقوق إلا العدد القليل جدا ، وبالتالي ، نحن أمام مشكلة كارثية ينبغي العمل على تجاوزها أو التقليل من أثرها من خلال العمل على العمل تفعيل منظمات المجتمع المدني بشكل منفصل عن تأثير الدولة أو الكتل السياسية أو رجال الدين ، مهمتها تتمثل في شقين أو جانبين ، الأول يعنى بزيادة الوعي الشعبي الرافض للاستغلال والإقصاء الطبقي ، الاجتماعي المتعدد الوجوه والأشكال ، العمل على تتبع أخطاء السلطة الطائفية وفسادها بشكل دائم ، تعليم المجتمع حق التظاهر السلمي والاعتصام البعيد عن مخلفات العنف وأعمال الشغب ، أما بالنسبة للجانب الثاني يتمثل في دورها في تثقيف المجتمع العراقي بحقوق الإنسان الفردية والمجتمعية ، تلك المتعلقة بالحريات واحترام الآخر وبناء قاعدة للسلام الاجتماعي على أساس الاختلاف وليس الائتلاف أو الصهر ضمن " قالبية " معينة أو إطار واحد ووحيد كما تريده أكثر " السرديات " الكبرى والأفكار الشمولية ، إذ إن مهمات المجتمع المدني هنا صيانة الاختلاف وحق التدين واللاتدين ، ومن ثم كل ذلك يدخل في معالجة المجتمع العراقي الذي يحمل اليوم الكثير من سمات العدوانية للآخرين بسبب الجهل المدني وغياب الثقافة المدنية لفترات زمنية طويلة .
2- تنمية اليسار اجتماعيا : من العوامل أو الأسس المرافقة للمجتمع المدني الضاغط اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ضد سلطة التهميش والإقصاء والنبذ المتعددة الرؤوس اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ، هو وجود اليسار الراسخ الجذور والبقاء داخل كيان المجتمع ، واليسار هنا لا يندرج بوجود الأحزاب اليسارية التي تطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة والقضاء على مصادر الاستغلال والتهميش فحسب بل أيضا وجود الإرث التاريخي لثقافة التقدم والاختراق والتجاوز لجميع القيود والعقبات التي تقف حائلا دون تحقيق المجتمع المدني والإنساني الحديث والمتحرر من جاهزيات الخوف والإكراه والاستغلال والفقدان للكرامة والحقوق ، وبما إن اليسار عراقيا يعاني من فقدان التثبيت العضوي لجذور أفكار التقدم من حيث التحقيق اجتماعيا ، كما هو معلوم لأسباب ترتبط بوجود تاريخ طويل من الاستبداد والإقصاء لأية بوادر اجتماعية وثقافية تحاول أن تخترق السائد ألقيمي والمعرفي ، متمثلا بتحالفات متعددة بين السلط التقليدية الدينية والثقافية والسياسية داخل المجتمع ، كلها استطاعت عبر التاريخ أن تجمد عناصر التقدم والتجاوز والتطور ليس في العراق فحسب بل في العالم العربي ككل ، وذلك باعتبار إن المنظومة الثقافية في العراق وان تعددت واختلفت ولكنها تلتقي ثقافيا ومعرفيا مع منظومة المعرفة والثقافة والمجتمع في العالم العربي ، وخصوصا منظومة الاستبداد والنظرة الأحادية الجانب لكل ما يتعلق بالسياسة والمجتمع والنظرة إلى المستقبل .. الخ . إن تنمية اليسار اجتماعيا ينبغي لها تمر عبر مجموعة حقول كي تمارس الحضور والتأثير ، وهذه الحقول هي 1- حقل الإقصاء الاجتماعي : والذي يتمثل في ملاحقة المهمش والمنبوذ اجتماعيا وإنسانيا من اجل الوقوف " على وضد " عوامل التهميش والإقصاء تلك ، ومن ثم الكشف عن الأسباب التي تقف وراء ذلك متمثلا في العلاقة بين السياسة والثقافة أو السياسة والدين ، إذ يعد الأخير ، أداة " تطمين " وتهدئة اجتماعية وثقافية لجميع المواطنين ، أو شكلا أحاديا من التفكير والمعرفة لا يجعل الأخيرة معرضة للنقص والخطأ ، وبالتالي تشارك الثقافة السياسة عملية التغييب الاجتماعي للحقوق الإنسانية المختلفة ، والنزول إلى قاع المجتمع ، يتطلب تحرير الناس من أوهام الثقافة أو الدين ، تلك التي تجعلهم يفقدون ابسط حقوقهم دونما وجود يذكر لأي احتجاج ورفض ، للسلطة السياسية التي توهم الناس حول كونها ممثلة لهذه الطائفة أو ذلك العرق ، والنتيجة إنها ممثلة للمصالح الحزبية والشخصية الضيقة إلى حد بعيد . 2- حقل المحافظة المبدئية : وذلك من خلال التمسك الصارم بالمحافظة على المبادئ التي بني عليها اليسار الاجتماعي من حيث التعرض الدائم لمصادر الاستغلال والتهميش والإقصاء ، وفضح سلطات الفساد والاضطهاد والتغييب لأبسط الحقوق الإنسانية ، والوقوف بشكل دائم مع الحريات الاجتماعية والسياسية والثقافية ، وكلها عوامل مدعاة للتطور والنهوض لا للتراجع والنكوص ، وهذا اليسار الذي نقصد مع الأسف الشديد اليوم ، تخلى عن طبقاته وأرضيته الاجتماعية ليفضل الركون ضمن تحالفات طائفية مرة وسياسية مرة أخرى من اجل المناصب والمحاصصة والحصول على المكتسبات ليكون بديله ليس الناس المنتهكة الحقوق والكرامة ، وهنا نقصد بذلك الأمر بشكل واضح الحزب الشيوعي العراقي الذي أصبح يركز على مفاهيم ثقافية ومدنية فحسب دون محاولة الارتباط بالجذور الاجتماعية لهموم الناس ومشاكلهم ، إن المحافظة المبدئية على الارتباط بالجذور الاجتماعية المستغلة يساعد على تثبيت الحقوق وجعلها وعيا وارثا ثقافيا في غاية التحقق على مستوى المستقبل ضمن مجتمع غير " مدجن " ثقافيا أو اجتماعيا ، وبالتالي هو في أتم الاستعداد للثورة والاحتجاج بشكل دائم . 3- حقل ممارسة الحرية النقدية : وذلك من خلال تجاوز الصورة التقليدية لليسار المقدس ، صاحب الأيقونات الثابتة في التعامل مع الحقائق والمعارف من جهة ومن حيث التعامل مع الأشخاص والقادة السياسيين ، فمن أهم الأسباب التي ساعدت على تراجع اليسار اجتماعيا هو تعلقه باركان الاستبداد والنموذج الواحد الذي لا يتغير ، فحق ممارسة الحرية في التعبير عن الرأي ونقد الأحداث والأشخاص وإتيان الاختلاف مع الآخرين يساعد على تطوير الذات اليسارية التي لا تتناول الحقيقة من جانب واحد ومن صورة واحدة ، إذ يعد عامل الحرية النقدية نموذجا جديدا لإثراء الحقيقة وتنويع الصور وتكاثر المعرفة حول الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي .
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة المجتمع المفتوح ( مشروع يتجاوز الطائفية في العراق )
-
الملك المغتصب او العراق .. الى اين
-
الصوت الاخر في العراق .. ولادة عهد جديد
-
مثقف السلطة في العراق ( الوظيفة ، الاشكال ، المستقبل )
-
الجمهور القارئ وثقافة الكتاب .. المعوقات .. المستقبل
-
الوقوف على السواد
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (4 - 4 )
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (3 _ 4 )
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (3 - 4 )
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح (2 - 4 )
-
الثقافة العلمية بين الواقع والطموح ( 1- 4 )
-
الانساق الثابتة والمتحولة في المعرفة والحرية
-
ثقافة الخطأ ومراجعة الذات
-
المدينة والفلسفة من القطيعة الى التواصل ( 1- 2 )
-
المدينة والفلسفة من القطيعة الى التواصل ( 2 - 2 )
-
قواعد السؤال الوجودي للذات
-
الايديولوجيا في مناهجنا التربوية
-
مسارات التنوع الثقافي في العراق
-
المثقف والحرية واسئلة المستقبل
-
أطفال في الشوارع بين التسول والضياع
المزيد.....
-
مقتل واعتقال 76 ارهابيا في عملية فيلق القدس بجنوب شرق ايران
...
-
-الدوما-: مذكرة الجنائية الدولية لاعتقال نتنياهو ستكشف مدى ا
...
-
الداخلية الفنلندية توقف إصدار تصاريح الإقامة الدائمة للاجئين
...
-
الإعلام الإسرائيلي يواصل مناقشة تداعيات أوامر اعتقال نتنياهو
...
-
هذه أبرز العقبات التي تواجه اعتقال نتنياهو وغالانت
-
الأمم المتحدة: إسرائيل منعت وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لق
...
-
مقارنة ردة فعل بايدن على مذكرتي اعتقال بوتين ونتنياهو تبرزه
...
-
كيف أثر قرار إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت على دعم
...
-
سفير ايران الدائم بالأمم المتحدة: موقفنا واضح وشفاف ولن يتغي
...
-
سفير ايران بالأمم المتحدة: أميركا وبريطانيا تساهمان في استمر
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|