(الناصرة - 2002/08/25 10:12)
على الرغم من حداثة عهدها فإن مسألة حقوق الإنسان حققت تقدمًا ملموسًا "وان يكن غير كافيًا" على الساحة الدولية، لا سيما في القسم الجنوبي من الكرية الأرضية أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن.
وقد عملت آلاف المنظمات والجمعيات غير الحكومية في العالم على ارساء قيم وثقافة حقوق الإنسان على مساحة واسعة من الفضاء الدولي، بالتنسيق والتعاون مع المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، من خلال البرامج والمؤتمرات والندوات التي عقدتها وارست خلالها هذه الثقافة وتلك القيم، مؤكدة مصداقيتها من خلال عمليات الرصد والتصدي للكثير من الانتهاكات والتعديات على حقوق الإنسان التي جرت في بلدان العالم. لقد أعطت هذه الجهود مسألة حقوق الإنسان بعدًا عالميًا جيدًا، ودفعت العديد من الدول والأنظمة غير الديمقراطية للتروي وأحيانًا لإعادة النظر ببعض الممارسات والسلوكيات التي لا تتسق أو هي تنتهك حقوق الإنسان، وذلك ليس إيمانًا بحقوق الإنسان بقدر ما هو خشية من التنديد والضغط المعنوي الذي مارسته هذه المنظمات والجمعيات.
واذا كان صحيحًا ان منظمات وجمعيات حقوق الإنسان في العالم قد حققت تقدمًا كبيرًا وانتصارات جمة على عدد من مساحات الصراع، الا ان الصحيح ايضًا انه ما زال امامها الكثير الكثير من الصولات والجولات للوصول الى عالم أكثر عدلاً وأكثر تضامنًا فيما يتعلق بالحرية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان التي هي كل لا يتجزأ، وان السبيل الوحيد لتحقيق شروط النجاح ان يقوم عمل تضامني بين كافة المناضلين في مجال حقوق الانسان ورفض القمع من حيث اتى وعدم تبريره تحت أية مسميات او اعذار او موازين قوى، لأنه ليس هناك قمع جيد وقمع سيء.
مثل ما هي طبيعة المجتمع الإسرائيلي؟، هل هي طبيعة عسكرية مطلقة؟ وبالتالي يصبح العمل العسكري مبررًا ضد ما يفترض انهم "مدنيون" بحسب بعض التصنيفات غير المتفق عليها حتى الآن؟
من المؤكد والمتفق عليه وفق جميع المنظومات القانونية الدولية وميثاق الأمم المتحدة ان للشعوب الحق في الدفاع عن نفسها وتحرير أرضها من الاحتلال بكافة الوسائل والسبل المتاحة، ومن المعروف أيضًا ان الدعوى تربح مرتين (كما يقول المحامون) مرة أمام القاضي ومرة اخرى في دائرة التنفيذ.
واذا كان الشعب الفلسطيني قد ربح حتى الآن عدة احكام في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ما زالت بمثابة "الشيك بدون رصيد"، نذكر على سبيل المثال لا الحصر القرار 181 عن مجلس الأمن في العام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين واحدة يهودية والأخرى فلسطينية، والقرار رقم 194 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى قراهم ومدنهم وممتلكاتهم، والقرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن ابان حرب الأيام الستة القاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية الى حدود الرابع من حزيان عام 1967 بمعنى آخر أي انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية التي احتلت في هذه الحرب (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية)، وأخيرًا وليس آخرًا رقم 1397 القاضي وان "بشكل ملتبس" بانشاء دولة فلسطينية، كل هذه الأحكام التي بحوزة الفلسطيني لم تجعله حصل يحصل على أية مكتسبات، والأسباب كثيرة ومتعددة لا مجال لتفصيلها في هذه العجالة، لعل أهمها التوازن الدولي وعدم وقوع هذه الأحكام في باب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يوجب تعيين آلية تنفيذية تحت اشراف الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
ازاء ذلك ماذا بقي امام الفلسطيني من وسائل للدفاع عن النفس وهو يرى بشكل يومي قراه ومدنه تدمر وبيوته تهدم وابناؤه يقتلون بطائرات ال (اف 16 والأباتشي ودبابات الميركافا) وهو أعزل لا يمتلك الا جسده ليدافع به؟ ليس في ذلك بالطبع تبريرًا للعمليات ضد المدنيين او دفاعًا عنها، فهي مرفوضة بكل المقاييس الإنسانية، وليس ثمة انسانًا عاقلاً يقبل ان يشاهد اشلاء اللحم البشري تتناثر في المقاهي أو الفنادق وأسواق الخضار، ولكن ما هي الخيارات السياسية المطروحة أمام الشعب الفلسطيني الذي يرى بشكل يومي اطفاله وأهله يموتون في الشوارع والطرقات على مرأى ومسمع من العالم أجمع دون أن يتمكن هذا العالم من تأمين الحد الأدنى من الحماية له أو لأولاده وعائلته؟
لقد طرحت هذه المشكلة مسألة تصنيف المثقف العربي ودوره كجزء من النسيج الاجتماعي، وطبيعة الدور الفكري والثقافي "المفترض" أو المفروض أن يلعبه، هل هو إعادة صياغة منظومة القيم والمفاهيم السائدة المستندة الى بنى فكرية تنطلق أو تأخذ بعين الاعتبار قسوة الواقع المعاش؟، ام شرح وتوضيح وربما تطوير هذه المفاهيم، وهل يكفي أن يكون المثقف نطريًا أو منظرًا دون أي تماس فعلي أو ميداني مع الواقع الانساني المعاش؟ ام أنه لكي يكون واقعيًا ومسموع الصوت عليه الانخراط الفعلي في حياة الناس وهمومهم، كما أحلامهم ونضالاتهم ورؤاهم؟ لا شك ان هناك مشكلة في قتل المدنيين الإسرائيليين اذا ما صنفوا "مدنيون"، ولكن ماذا بشأن المدنيين الفلسطينيين الذين يموتون في كل يوم بالمجان على قارعة الطريق، ورب سائل "خبيث" يسأل لماذا لم يصدر عن المثقفين الإسرائيليين بيان مشابه يدعو الجيش الإسرائيلي للتوقف عن قتل المدنيين الفلسطينيين ونشره في الصحف العبرية ولو بتمويل اوروبي كما جرى الحال مع بيان المثقفين الفلسطينيين؟
وهل المستوطنون الإسرائيليون الذين استولوا على الأرض واغتصبوها مدنيون يجب ان يطبق عليهم قانون المثقفين الفلسطينيين؟ في حين ان القانون الدولي لا ينظر اليهم نفس النظرة انما يصنف اعمالهم بأنها تندرج تحت توصيفات جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وتقع تحت طائلة القانون الدولي الجنائي.
وهل ان الملايين الخمسة من اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في اصقاع الأرض موجودين فعلاً على أجندة المثقفين الإسرائيليين ويعترفون بحقهم في العودة الى وطنهم وديارهم التي شردوا منها قسرًا وبالمجازر؟
وهل يعتقد المثقفون الفلسطينيون ان ثمة محبة يمكن ان تنعقد بين المجرم والضحية؟ وان شعبًا انتزع منه ارضه ووطنه يمكن ان يكن مشاعر الحب والمودة لمن انتزعهما؟ ام ان مشاعر الحب والمودة يمكن لها ان تكون مسألة نظرية غير مرتبطة بالواقع والمعاناة؟ ثم أليست علاقة الحب والمودة هنا مرتبطة بجدية العلاقة بين المجرم والضحية؟.. أم ان المطلوب تعميم ثقافة المنتصر فيما لو وجد ومن يمول تعميم هذه الثقافة؟
اسئلة كثيرة وكبيرة غيرها تبقى مطروحة على الساحة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص، لا يستطيع أحد الادعاء انه يملك الإجابة عليها على أمل ان يحل المثقفون هذه العقدة ويجيبون عليها.
_______________
* المنظمة الفلسطينية لحقوق الانسان
" حقوق " - نشرة غير دورية تصدر عن المنظمة الفلسطينية لحقوق الانسان