مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3476 - 2011 / 9 / 4 - 19:00
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا شك أن أية ثورة تكون في الأساس موجهة ضد نظام ما , و لذلك من المنطقي و الضروري أن تمثل نقيضه تماما , في السياسة كما في الاقتصاد و الفكر أيضا , على الأقل كتيار رئيسي في الثورة , الثورة الفرنسية و قبلها الانكليزية قامت في وجه نظام إقطاعي مدعوم كنسيا و هذا ما برر توجهها العلماني أو المناهض للكنيسة بالأحرى , لكن الوضع يختلف عربيا و خاصة سوريا , إذا ترجمنا هذا الكلام سوريا فهذا يعني أن الثورة السورية التي تحاول إسقاط نظام قمعي استبدادي تبرقع بستار علماني و قومي لا بد أن تكون بالضرورة معادية "لعلمانية" هذا النظام السلطوية و القمعية أو باختصار الخالية من أي مضمون تحرري و التي استخدمت فقط لتبرير قمع و نهب السوريين , هذا سيطرح دون شك معضلة , كيف يمكن لنقيض العلمانية المزيفة للديكتاتورية أن يحمل مضمونا تحرريا , لا لبس فيه ؟ يقول المنطق أنه حتى لو سحق النظام الثورة بأن أغرقها بالدماء و القمع فإن أكبر الخاسرين هم أزلام النظام , و كل ما يمت بصلة للنظام حتى فكريا , و يقول المنطق أيضا أنه قد يبقى من الممكن أن توجد علمانيتين بعد سقوط النظام , واحدة "معتدلة" قد تساوم مع المزاج الشعبي المعادي لخطاب النظام و لسياساته بالضرورة و أخرى "أكثر ثورية" قد تستطيع أن تبرر وجودها بارتباطها "العضوي" إن لم يكن الضروري بشعارات الثورة خاصة شعاري الحرية و العدالة , يجب ألا ننسى أيضا أنه في الحالة السورية , كما في حالة تونس و خلافا لمصر , كان الإخوان و القوى الإسلامية السياسية ممنوعين عمليا من العمل أو التواجد , على عكس وجودهم شبه العلني و القوي في مصر , لكن هذا لم يكن طبعا لحساب اليسار السوري الموالي للسلطة في أغلبه بل على العكس جاء ضده كنتيجة طبيعية لارتباطه بالنظام , بل كان لحساب رجال دين "فرادى" مثلوا بشكل من الأشكال امتدادا حقيقيا للفكر الإسلامي الأصولي في ظل رقابة و رعاية و وصاية أجهزة امن النظام , الخطير في الحالة السورية أن القسم المهاجر من رجال الدين المرتبطين بالإخوان و السلفيين ( العرعور المثال الأشهر و الذي جرى التركيز عليه بقوة ) قد يملك امتدادات ما في بعض المناطق لكن لا يمكن التعويل على قدرته على ملء الفراغ الناتج عن هزيمة النظام خاصة في ظل شك كبير في قدرته على استيعاب شعارات الشارع السوري الثائر بسبب طبيعة خطابه التاريخي الذي لا يعطي حيزا هاما لأفكار الحرية و العدالة رغم أن قسما منه قد أعلن تبنيه لها منذ عقد على الأقل , هذا قد يغري بتكرار نموذج القوى السياسية الدينية العراقية في اللجوء إلى إذكاء نار الكراهية و العداء الطائفي لفرض سيطرتها على الشارع , خاصة أن الأرضية لهذا جاهزة نتيجة ممارسات النظام على مدى عقود و نتيجة لامتناع القسم الأكبر من طوائف الأقليات عن المشاركة في الثورة ضد النظام , إضافة إلى وجود رغبة إقليمية قوية في تفجير المنطقة طائفيا ( السعودية , تيار المستقبل و حلفائه لبنانيا , و أيضا ما تسمي نفسها بقوى "الممانعة" في كل مكان يناسبها هذا التفجير , حزب الله لا يواجه حربا طائفية , إنه كقوة طائفية بامتياز يخوض مثل هذه الحرب أيضا ضد خصومه الطائفيين , الحرب الطائفية مثل الحروب بين الدول لا تجري بين أخيار و أشرار , الجميع يفترض انه الخير و أن خصمه هو الشرير لكن الحقيقة أن كل من يستخدم العنف و الإكراه ضد الآخر كما ضد "جماعته" يمثل الجانب الشرير , الضحايا وحدهم هم المساكين في هذه الحروب ) , و طالما لعب العامل الخارجي دورا هاما في السياسة الفعلية للإخوان سوريا , رغم أن اعتبارات دولية قد تلعب دورا كابحا محتملا لمثل هذا التطييف و هي اعتبارات يأخذها الإخوان السوريون أيضا بعين الاعتبار عادة , من الغباء في الواقع اعتبار أن التطييف سوريا و إقليميا ينتظر سقوط النظام السوري , بل الصحيح أنه يرتبط به إلى حد كبير بنفس الدرجة إن لم يكن بدرجة أكبر من القوى الطائفية المعارضة له , إن هذا التطييف واقع يرتبط بالعلاقة المعقدة بين الطبقات و الفئات الحاكمة في كل بلدان المنطقة عمليا و بين مؤسساتها الدينية و خطاباتها و بآليات تدجين الجماهير الفقيرة و المهمشة , يجب ألا ننسى أن التطييف قد مثل مخرجا جيدا و مقبولا و حتى ضروريا في بعض الحالات لجميع أنظمة المنطقة , بما فيها "العلماني" السوري مثلا , وصولا إلى نظام الملالي في طهران و بغداد و شيوخ و أمراء الخليج و انتهاءا أو ابتداءا بزعماء الطوائف اللبنانية , إن تخويف الطوائف السورية من بعضها هو وحده ما يجعل النظام السوري بكل عجره و قذارته و همجيته مقبولا لبعض السوريين , هذا صحيح أيضا بالنسبة لنظام آل خليفة في البحرين , و حتى للنظام الإيراني , و أنظمة الخليج عموما , عدا عن إسرائيل طبعا , على الجهة المقابلة خلافا للمسيحيين و الدروز لا يملك العلويون مؤسسة دينية متماسكة متمايزة تلعب دورا حاسما في تشكيل وعي العلويين البسطاء , لقد انتقل هذا الدور عمليا إلى النخبة العلوية العسكرية و الأمنية المرتبطة بالنظام و ساعدت "خدماتها" التافهة في معظم الأحيان لهؤلاء العلويين البسطاء في إنتاج علاقة تبعية صريحة بين هؤلاء و بين تلك النخب جعلت من الممكن ليس فقط تأمين مصدر ثابت لمد الشبيحة و مخابرات النظام بعدد دائم من المتطوعين بل أيضا ضمان ولائها المعلن أو الصامت للنظام , سنيا أيضا خلافا لما يقال , لا توجد نخبة اجتماعية أو دينية تسيطر على الشارع السني , لقد كانت هذه أهم نتيجة كرستها الانتفاضة منذ أيامها الأولى , قد يتمتع بعض رجال الدين بالاحترام لكن فقط في إطار اقترابهم و ابتعادهم عن شعارات الثورة , هنا يمثل البوطي و العرعور النقيضين بغض النظر عن "شعبية" كل منهما قبل بدء الانتفاضة , الأول كان يتمتع بشعبية عارمة هوت بسرعة شديدة و الآخر كان مجهولا من قبل معظم السوريين , الشيء الوحيد الذي يمنح أهمية ما لخطاب العرعور الطائفي هو أنه يصيب النظام مباشرة , هذا يعني خلافا لكل مزاعم أعداء الثورة السورية أن الشارع الثائر يضع قضية الحرية قبل أي اعتبار آخر , بهذه الطريقة فقط قد يبدو خطاب العرعور الطائفي جزءا من الثورة , بمضمونها التحرري , هذا تناقض حقيقي و لكنه واقع في نفس الوقت , طبيعي أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر طويلا , لا يمكن لخطاب طائفي أن يحمل مضمونا تحرريا حقيقيا بعيدا عن ظروف طارئة خاصة , طبيعي أنه في اللحظة التي يكف فيها خطاب العرعور عن أن يحمل أي مضمون تحرري سيكون لزاما على الجماهير أن تنتج خطابها المعادي لعلمانية النظام المزيفة بمضمون تحرري حقيقي و إلا فإنها تخاطر بأن تهزم قضية حريتها هزيمة قاتلة , و التاريخ قدم لنا نماذج عديدة عن مثل هذا , يجب ألا ننسى أن أحد أهم نتائج إسقاط النظام هي في تحقق الحرية , درجة من الحرية الحقيقية و الفعلية للجماهير , صحيح أن النخب المنافسة للنظام ستصبح حرة أيضا لكن هذه الحرية ستكون مرهونة بأن تفرض سيطرتها على الجماهير , إن أحد الاحتمالات الممكنة بعد إسقاط الديكتاتورية هو أن تتحرر الطوائف و لو جزئيا من سطوة القيادات التقليدية أو المرتبطة بالنظام أو المرتبطة بالمؤسسات الدينية , سواء أكانت الأكثرية السنية أم الطوائف الأصغر , لقد بدأ هذا التحرر في 18 آذار مارس عمليا و منذ آذار مارس تلعب هذه القوى دورا هامشيا فقط في الواقع , صحيح أنه قد تزداد أهمية المؤسسات الدينية أحيانا في لحظات التغيير السياسي و الاجتماعي لكن هذا فقط إذا اكتسبت المؤسسات الدينية عموما أهمية حاسمة في تشكيل مزاج الشارع عند الجميع و هذا مرة أخرى رهن بنفي شعار الحرية أساسا عند الجميع , سيعني هذا بالنسبة للعلويين البسطاء أن وساطة شبيح ما أو ضابط ما سيجب استبدالها بشكل جديد للعلاقة مع السلطة و الآخر و بغرض جديد للعلاقة مع السلطة و الآخر , سنيا أكرر أنه سيكون ضروريا إنتاج شكل تحرري يتطابق مع المضمون التحرري لشعارات الثورة السورية , لا شك هنا أن "علمانية" اليسار القائم لا يمكن أن تلبي هذا الغرض , لا يستطيع "اليساريون" السوريون أن يجادلوا العرعور أو الإخوان بطريقة مؤثرة رغم أنهم فعلوا ذلك بنجاح قبل 1963 , لكنهم قد اعتادوا بعد 1963على "نقض" أفكار الإسلاميين بترديد ذرائع النظام فقط و بالتشديد على ضرورة قمع هذه الأفكار و أصحابها و تبرير قمع الجماهير الأوسع بهذه الضرورة , هذا الخطاب ساقط تماما اليوم , مثل النظام تماما , لا شك أن بكداش هو الأذكى من بين هؤلاء "اليساريين" , إنه يدرك مصيره تماما في حالة سقط النظام لذلك فهو يخوض تلك المعركة , معركة تشويه و قمع و سحق انتفاضة الجماهير السورية كشبيح حقيقي , قد يكون لدى الآخرين وهم أنهم قد يستمروا حتى من دون الشبيحة أو المخابرات التي خدموها , ضمنا أو صراحة , طوال عقود , و قد يكون هذا ممكنا بالفعل لكن فقط كوجود هامشي ثانوي معزول في معازل خاصة بعيدا عن تيار الحراك الجماهيري الرئيسي , إننا كيسار تحرري لا نريد التنافس مع أحد على السلطة , و لا أن نغير القناعات الدينية لأي كان , لسنا أعداء لأي إيديولوجيا أو فكر إلا تلك التي تستخدم لتبرير القمع و الاستغلال أو لتبرير استعباد الجماهير , و هذا سيعني في النهاية كل عقيدة دوغمائية تنصب نفسها فوق الإنسان , وصية و حاكمة إن لم تكن شرطيا ( أو شبيحا بتعابير هذه الأيام ) على وعيه و حياته , إننا نناضل فقط كي يحكم السوريين أنفسهم بأنفسهم , من الغباء هنا ما يقوله البعض من أن السير الطبيعي للأمور , عندما ينتزع السوريون البسطاء حريتهم من براثن ديكتاتورية بشار الاسد أن هذا سيعني بالضرورة خضوع السوريين البسطاء الأبطال الحقيقيين لانتفاضة آذار مارس لسلطة جديدة , دينية هذه المرة , هذا يستخدم فقط لتبرير الإجرام الوحشي للنظام , هناك فرق هائل بين أن تلعب الخطابات الدينية أساسا دورا هاما في مقاومة هيمنة النظام القائم و بين أن تنجح في أن تكون رافعة لصعود سلطة قمعية جديدة حتى لو كانت شعبوية , على العكس من ذلك , فقد وجدنا تغييرا سريعا في خطابات الإسلاميين , لاستيعاب شعارات الانتفاضة , خطبة عصام العطار في مسجده الألماني في العيد الأخير ركزت , كخطاب أغلب قيادات الإخوان و حتى العرعور شخصيا إلى جانب تكفيره للآخر الطائفي , على مركزية شعار الحرية و حتى العدالة , إن كلمة الحرية الآن هي الكلمة الأساسية في المرحلة الحالية و ليست السلطة الدينية القمعية , في سبيل تلك الحرية يخوض السوريون البسطاء حربا أقرب للمعجزة ضد واحدة من اشرس و أقسى أجهزة القمع في العالم , و ضد واحد من أكثر الأنظمة همجية في العالم , و تبقى هذه هي النقطة الأبرز اليوم و في الغد , في مواجهة النظام اليوم و في مواجهة قوى "إعادة النظام" غدا , لقد دفع الناس ثمنا باهظا حتى اليوم , و عرفوا ما تعنيه الديكتاتورية , أيا كانت مبرراتها , ( وطنية أو قومية أو ممانعة في الحالة السورية ) , و خبروا ما الذي يعنيه أن يكونوا رعايا , عبيدا , هذا هو أصعب شيء يقف في وجه أية قوى تريد إخضاع السوريين بعد اليوم , يجب عليها أن تنتزع الحرية من عقولهم و قلوبهم , سيكون من الصعب على ايا يكن أن ينتزع اليوم تلك الرغبة الجارفة في العيش بحرية , كما لم تعد قصة ممانعة النظام بدماء و عرق السوريين تعني سوى كذبة فاضحة أو فضيحة مدوية فلن تكون الخطابات الأخرى فاعلة في الغد أيضا في قمع الرغبة بالحرية , لكن يجب تحصين الحرية بشيء آخر , بفكر أو بخطاب ذا شكل و مضمون تحرريين , هذا سيعني في حقيقة الأمر بداية تنظيم الجماهير لحياتها بعيدا عن أن يكون بمقدور أي كان أن يسلبها حياتها و حريتها من جديد , ما زال الطريق طويلا و مفروشا بالكثير من الآلام و المخاطر , لكن هكذا فقط غير الإنسان واقعه , هكذا فقط تصبح الحرية أكثر من حلم جميل أو بعيد المنال
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟