|
في العراق .. من يقتل من ؟!
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 3473 - 2011 / 8 / 31 - 12:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ذات مساء صيفي حار من العام 1989 وبينما كنا جلوسا في حديقة اتحاد الطلبة في الوزيرية طلب مني أحد الأصدقاء مرافقته في رحلة مستعجلة إلى أربيل، وبما أن سفرة كهذه في تلك الأيام لم تكن تحتاج أكثر من تذاكر الباص والرغبة في السفر، وهما أمران متوفران على الدوام، فتوجهنا على الفور إلى كراج النهضة وهناك تناولنا عشائنا من "التشريب" في مطعم شعبي صغير، ثم انطلقنا إلى الشمال فوصلنا المدينة بعيد منتصف الليل، وبعد أن أنهى صديقي غرضه بقي أمامنا ساعتان حتى تبدأ الباصات بالعودة إلى بغداد، فتمشينا في الشوارع الخالية إلا من بعض المارة، ثم دلفنا إلى أحد حماماتها العامة وهناك اغتسلنا بالماء الحار ودلكنا أجسامنا المتعبة كممارسة مترفة لا يلجأ إليها إلا فاضي البال. نعم، كانت الحياة في العراق في ذلك الزمن الجميل تجري بمنتهى السهولة، كانت بغداد تنهض مبكرة قبل بقية المدن، لأن سكانها يريدون أن يعيشوا يومهم من أوله دون أن تفوتهم لحظة، سوق الصفافير، شارع السعدون، باب المعظم، الرشيد، الناس في منتهى النشاط تعلوا محياهم ابتسامة، وشلونك عيني؟ وادّلل، المطاعم تتنافس فيما بينها على أجمل الديكورات وتقديم أشهى المأكولات، الشوارع مزدحمة، الأسواق عامرة، في العصارى يرجع السكان إلى بيوتهم، أمام كل بيت تجد حديقة من الثيل تتوسطها أرجوحة، وفي المساء قد ترغب بتناول بوظة الرواد في المنصور التي ظل طعمها المميز أحد أسرار بغداد الكثيرة، أو المشي في كورنيش أبو نواس على ضفاف دجلة، حيث المقاهي تصطف بجانب بعضها وجميعها تسهر على صوت أم كلثوم، وفي المشارب والمقاهي الأخرى يطرب السهارى على إياس خضر وفؤاد سالم وسعدون جابر وناظم الغزالي ،، والبعض يطلق ذكرياته من عقالها مع الدارميات الحزينة والمواويل التي تعصرها لوعة الفراق وتكوي جنباتها نيران الحنين. نعم، كان العراقيون ينامون ملء العين، ويسهرون حتى الصباح، ويشربون حتى الثمالة، ويعشقون حد الجنون، يقاتلون ويكتبون الشعر ويغنّون ويبدعون في كل شيء، كانوا يمشون في الحارات ويسافرون بين المدائن دون خوف وفي أي وقت، شعور طاغي بالأمان تعجز عن توفيره اليوم كل أساطيل الأطلسي ومغاوير الداخلية ومرتزقتها، كانوا يتعايشون بمحبة وسلام، تنوع طائفي وإثني شكّل هوية العراق على مر السنين وزادها ثراءً، لم يكن أحدٌ ليجرؤ أو حتى ليرغب بسؤال الآخر عن طائفته أو مذهبه، وكان المواطن يعبُر جسر الصرافية بين الكاظمية معقل الشيعة الآن، إلى الأعظمية معقل السنة، دون أن يشعر بأي فرق أو خوف، ما الذي جرى؟ ولماذا أصبحت يوميات المواطن العادي ذكريات تنتمي إلى زمن سحيق؟ لماذا أطاح العراقيون بهذا الجمال ؟ ولماذا فجر الإرهابيون جسر الصرافية؟ وحطموا تمثال المنصور وأبي نواس؟ ولماذا صار العراق العظيم كمزبلة مهملة؟ ألف لماذا نوجهها إلى صدور القتلة الطائفيين وأمراء الحرب والإرهاب. العراقيون الذين اكتووا بسياط النظام السابق والذين فقدوا أعزاء لهم على أعواد المشانق يترحمون اليوم على تلك الأيام، فالنظام السابق كان يقتص بلا رحمة من كل من يعارضه، وهذه حقيقة يعرفها كل العراقيين، تركيبة النظام الحالي العجيبة ( الحكومة، الطوائف، الصحوات، الميليشيات، العصابات .. ) تقتص بلا رأفة من كل من هو على غير شاكلتها ،، بلا ذنب اقترفه أو حتى شبهة ذنب، فقط على الاسم أو الهوية، فيُقتل في اليوم الواحد مئات المواطنين وتلقى جثثهم على قارعة الطريق وعليها علامات التعذيب الوحشي !! في عراق اليوم وخلال ستة سنوات مجنونة هنالك 2.5 مليون قتيل، 4 ملايين يتيم، مليونا أرملة، 800 ألف مفقود، 340 ألف أسير، 4.5 مليون مهجَّر خارج العراق، و2.5 مليون مهجَّر داخله، 40 % من السكان تحت خط الفقر المدقع الذي يشبه الموت مع وقف التنفيذ، انتشار غير مسبوق للمخدرات والإيدز وعصابات السطو والمتسولون، 43 ميليشيا مسلحة مسجلة رسميا لدى الداخلية، 126 شركة أمنية تملكها أجهزة المخابرات الأجنبية، انحدار خطير في التعليم الجامعي والمدرسي ومنظمة اليونسكو ترفض الاعتراف بالشهادات العراقية، فساد كامل لهيكلية الدولة الإدارية والمالية وفي جميع مفاصلها، عودة الأمية بشكل لم يعرفه تاريخ العراق، وهذه ليست مجرد أرقام وإحصاءات .. إنها معاناة شعب وآلام بشر وعذابات أناس من دم ولحم، إنها أرواح زُهقت بالمجان، وأطراف قُطّعت بلا سبب، وشباب غيبتهم السجون بلا ذنب، أمهات ثكلى، أطفال اختبروا الجوع والخوف، عائلات مشردة تهيم على وجهها في الشوارع بلا أمل وبلا مستقبل، حضانة أطفال في بغداد تربط أيادي الأطفال بالأسرّة وتتركهم بلا طعام ولا ماء وهم عرايا وقد استحالوا إلى هياكل عظمية من شدة الجوع والخوف، حتى اكتشف أمرهم أحد جنود المارينـز، فَرَقَّ قلبه وسمح لهم ببعض الماء، وطبعا لم ينسى أن يستدعي الكاميرا لتصور وحشية العراق ورأفة الأمريكان !!!!!! ذات يوم من أيام حرب لبنان المجنونة كنا نتابع أخبار القتل والدمار، فقال أحد العراقيين بحزن واستهجان: أنظر ماذا يفعل هؤلاء ببعضهم البعض، أليسوا مجانين !! اليوم جنون الحرب في العراق وصل حدوداً لم يصلها خيال شيطان من ذي قبل، ولكن أتدرون من هذا الذي تفوق على الشيطان بشرِّه ؟ الذي فعل الأفاعيل بالعراق وبالعراقيين ؟ والذي حوّل العراق إلى كومة دمار وحطام وجعل نفوس الناس تمتلئ بالأحقاد والكره ويعميها التعصب ؟ إنه الذي زعم أن أهل السنة هم من سيدخلون الجنة دون سواهم، أنه من اعتقد أن الشيعة هم أصحاب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنه من دعا لانفصال الأكراد، ومن قال أن اليزيدية فئة ضالة، والأثوريون ليس لهم لازمة، والمسيحيون كفرة، وأن العرب أجدر بالحياة من الأكراد، وأن التركمان دخلاء على العراق، وأن من يفجر الأسواق هم من المجاهدين، وأن من يدمر الحسينيات يدافع عن الإسلام الصحيح، أنه من شرب من مستنقع الطائفية الآسن حتى ثمل، فصار يدّعي أنه صاحب الحق المطلق وعليه أن يطهر العراق من الأراذل الآخرين !!! الذين يذبحون العراق حاليا من الوريد إلى الوريد، أولئك الذين ينهبون خيراته ويبددون موارده لصالح الأجنبي، الذين يسعون لبناء دويلاتهم الطائفية وإمبراطورياتهم المالية ومناطق نفوذهم الخاصة، الذين يسعون للقضاء على التنوع وإقصاء كل من لا يشبههم، المدعين أنهم ظل الله على الأرض، أو ورثة المهدي، من يسكنون في كتب التاريخ الصفراء وقد أسرتهم قوالبه الجامدة، الذين يرفضون الحياة ويبثون ثقافة الموت، الذين يقتلون نصف ألف من العراقيين قبل أن يقتلوا جنديا واحدا من قوات الاحتلال، ثم يدعون أنهم مقاومة !! لن نعفي الاحتلال الأمريكي من مسئولياته، ولن نسامحه على جرائمه، فهو جذر المشكلة وأساس البلاء والسبب الحقيقي وراء خراب العراق، ولن نتجاهل دور إيران المشبوه، ولكن .. لم يكن للأمريكي ولا لغيره أن يفعل فعلته في العراق لولا التربة الخصبة التي وفرها لهم بعض أمراء الطوائف وملوك السمسرة وجمهور من الغوغاء ..
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليل العراق طويل .. طويل
-
العراق .. ذاكرة حاضرة .. وصورة تتداعى
-
مواصلة التنقيب في أعماق الإنسان
-
أسئلة تُنقِّب في أعماق الإنسان
-
محاولة في فهم سيكولوجية الإنسان ..
-
النهايات .. هلاك الإنسان، دمار الأرض .. فناء الكون
-
مستقبل الإنسانية
-
أشكال الحياة المتاحة
-
في البحث عن جدوى للحياة
-
هذا العالم المجنون
-
هل دخلت البشرية طور الحضارة ؟!
-
ظهور الإنسان
-
ما لم يقُلْه دارون
-
انفجار الحياة
-
أينشتاين على الخط - النظرية النسبية في فهم نظام الكون
-
كيف نفهم نظام الكون ؟
-
ديمقراطيات استبدادية
-
لماذا لا ينتحر الرؤساء العرب ؟!
-
دبي .. صورة قريبة لمستقبل بعيد
-
المغرب .. البوليساريو .. وأزمات أخرى لم تحل
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|