|
في أم معاركه، النظام يخوض حروبه السابقة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3470 - 2011 / 8 / 28 - 22:58
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
من المحتمل أن النظام ينهل من إطاري خبرة مرجعيين في تعامله مع الانتفاضة السورية. أولهما ما يعرف بأزمة الثمانينات، والثاني أزمة ما بعد اغتيال رفيق الحريري. فإن كان ذلك صحيحا، على ما نقدر، كان من شأن إلقاء نظرة عليهما أن يساعد في فهم كيفية تفكير النظام اليوم في مواجهة الأزمة الوطنية الراهنة، وفي تقدير محصلة هذه المواجهة. رغم أن الشكل الأكثر درامية لمعارضة النظام في أزمة الثمانينات كان إسلاميا وعنيفا، إلا أن حركة المعارضة شملت يساريين ومثقفين وطلاب جامعات ونقابات مهنية. تفجرت الأزمة بمجزرة، وانتهت بمجرزة. في أواخر ربيع 1979 قتل تنظيم الطليعة المقتلة للإخوان المسلمين عشرات طلاب الضباط العلويين في مدرسة المدفعية بحلب، وفي شباط من عام 1982 قتل النظام ما قد يصل إلى 30 ألفا من سكان مدينة حماه إثر مواجهة أخيرة مع مجموعات من الإسلاميين. لكن منذ صيف 1980 كان واضحا أن الإسلاميين أخفقوا في إثارة انتفاضة عامة ضد النظام، وأن بؤر التمرد النشطة عليه اقتصرت على حلب وحماة وإدلب، وبعض البلدات التابعة للأخيرتين. مشاركة حمص ودمشق كانت محدودة، والمدن الأخرى أقرب إلى معدومة. وإثر محاولة لاغتيال الرئيس حافظ الأسد في حزيران 1980، جرى قتل مئات المعتقلين الإسلاميين في سجن تدمر، والتوسع في سياسة الاعتقال والتعذيب والاستئصال حيال الإسلاميين والبيئة التي خرجوا منها. ولم يكد النظام يأمن إلى أنه وجه ضربة ماحقة للإسلاميين حتى اعتقل معارضيه اليساريين بنية استئصالهم، ثم حل نقابات المهن العلمية وأعاد تشكيلها من أتباعه. وقبل ذلك كان احتل الجامعات بالمخابرات، وشكل ميليشيات طلابية من البعثيين المسلحين للسيطرة على الطلاب. وجرى بناء جيش مهول من الوشاة والمخبرين، واعتقل عشرات ألوف الناس بناء على "تقاريرهم"، وكان التعذيب روتينيا. والإذلال كذلك. ولقد استمر التعذيب في سجن تدمر حتى وقت قريب من عام 2000، وكان ضحيته هم الإسلاميين وجماعة بعث العراق أولا، لكن أيضا سجناء يساريين أحيانا. تميزت تلك الفترة وأكثر من عقد تلاها بفائض مهول من القمع، يتجاوز مقتضيات تأمين النظام إلى إرهاب المجتمع السوري وإسكان الهزيمة في قلوب السوريين وعقولهم. وهو ما تحقق فعلا لنحو جيل. ولعل النظام استخلص من ذلك أن الحل الصحيح للمنازعة السياسة الداخلية هو سحق المنازعين، ورفض أية تسوية معهم أو تقديم أي تنازل إليهم. المشكلة مختلفة في عام 2005. كان جرى التمديد لأميل لحود في لبنان دونما ضرورة من وجهة نظر مصالح النظام بالذات (ربما عدا المالية السرية منها)، وبمبادرة أميركية فرنسية صدر القرار 1559 الذي يقضي بانسحاب القوات السورية من لبنان ونزع سلاح الميليشيات فيه، ثم اغتيل الحريري، وشيعه جمهور لبناني كبير اتجه بلومه إلى النظام السوري. وخلال عشرة أسابيع انسحبت القوات السورية اضطرارا من لبنان. وتشكلت لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري، وجرت سلسلة اغتيالات استهدفت بصورة شبه حصرية خصوم النظام السوري اللبنانيين. وصعدت المعارضة الداخلية في البلاد موقفها من النظام، وتشكل لها ما يقارب إطارا جامعا سمي إعلان دمشق، و"انتحر" غازي كنعان، وزير الداخلية السوري آنذاك ورئيس المخابرات السورية في لبنان في سنوات سبقت، و"انشق" عبد الحليم خدام في نهاية 2005. وطوال عام أو أكثر كان مصير النظام موضع مضاربات متنوعة، تقدر انهياره في أي وقت. لكن في الوقت نفسه كان الاستقطاب الداخلي يحتدم في لبنان مع دور سوري في ذلك، وكانت أوضاع العراق تبلغ ذروة من الانفلات، جعلت البلد غير قابل للحكم، ودفعت الأميركيين قبل نهاية عام 2006 إلى إصدار تقرير بيكر- هاملتون الذي كان بمثابة انعطاف عن سياسة المواجهة، وتراجعا عن "الثورية" الأميركية المحافظة الجديدة التالية لاحتلال أفغانستان والعراق باتجاه الانخراط مع القوى الإقليمية بدل مواجهتها وتخويفها. وكان للنظام السوري ضلع في ذلك أيضا. وفي تموز 2006 تفجرت حرب دامت نحو خمسة أسابيع بين إسرائيل وحزب الله المدعوم من سورية، والذي قاتل ببسالة ووجه ضربة قوية للردعية الإسرائيلية. انتهت الحرب بفشل إسرائيلي، وبفوز نسبي لسورية وحزب الله في المواجهة، لكن مع تعمق الانقسام اللبناني وتحول لبنان إلى بلد غير قابل للحكم بدوره. في شباط 2006 فازت حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، فاستنتجت القوى الغربية أن الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي تخدم الإسلاميين، وهو ما بدا أن دخول الإسلاميين المصريين في البرلمان بنسبة لافتة قبل شهور من ذلك يصادق عليه. ولقد أدت جملة هذه العمليات إلى تراجع الضغوط الدولية على النظام، وإلى عودة الأميركيين إلى سياسات شرق أوسطية متمركزة حول الاستقرار بعد نحو خمس سنوات من الكلام على "تغيير الأنظمة" و"إعادة رسم الخرائط" و"الفوضى الخلاقة" و"الشرق الأوسط الجديد". لا يبعد أن يكون الدرس الذي استخلصه النظام من هذه الأزمة هو أن استقراره مرهون بتوسيع قاعدة اللاستقرار إقليميا قدر الممكن، والاستفادة من بؤر التوتر السياسي القائمة. وكانت هذه هي النقطة الأهم في ما قاله رامي مخلوف لصحيفة أميركية في وقت مبكر من الانتفاضة. هذا مع الضبط الداخلي المتشدد وعدم التسامح مع أية خلافات داخل مراتب النظام العليا. ومع كسب الوقت إلى أقصى حد، والرهان على تغير اتجاهات الريح السياسية الدولية. اليوم يخوض النظام أم معاركه، مطبقا خبرة الثمانينات نفسها. لكن لا يبدو قادرا على المضي إلى الحد الذي بلغه في حماة 1982. هذا بفعل فقدان الظهير الدولي، وعمومية الانتفاضة اليوم وتفوقها الأخلاقي مقارنة بصراعه مع الإسلاميين قبل ثلاثة عقود، والتغطية الإعلامية الواسعة التي تؤمنها الانتفاضة لنفسها. ومن جهة أخرى لا يبدو النظام قادرا على تحريك الأوضاع الإقليمية، أو أن محاولاته في هذا الشأن تفشل بسرعة وتأتي بنتائج عكسية، على نحو ما جرى على جبهة الجولان في ذكرى النكبة، ثم النكسة. ومن غير المحتمل أن تخوض إيران حربا من أجله، أو حزب الله. ولا يبدو أن الوقت حليفه هذه المرة، بل لعله خصم له. مع ذلك يمضي النظام في خوض حروبه السابقة. لا يقتصر الأمر على تأويل المواجهة الجديدة على ضوء خبرات قديمة، بل وعلى مواجهة الأعداء أنفسهم: عصابات مسلحة (سلفية) وقوى غربية متآمرة. من غير المحتمل أن ينجح ذلك في إنقاذ النظام، لكنه قد يكون "ناجحا" جدا في تدمير البلد.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعضلة السورية ومآلاتها المحتملة
-
إنقاذ النظام من نفسه أم إنقاذ سورية منه؟
-
-العامية- السورية: انتفاضة مجتمع العمل!
-
الجهلُ مكتفيا بذاته: ردا على أسعد أبو خليل
-
في ذاكرة الانتفاضة السورية وإدراكها السياسي
-
حوار حول الثورات العربية
-
في أصول حرب -النظام- ضد الانتفاضة
-
الطائفية ضد الانتفاضة، الانتفاضة ضد الطائفية!
-
قليل من الأمانة: رد على إبراهيم الأمين
-
ثأر -ربيع دمشق-!
-
النظام في أزمة، وهو من عليه أن يتراجع
-
النظام يتصرف كشبيح، والثورة لن تخمد أو تتراجع
-
السوريون تغيروا، وعلى النظام أن يتغير!
-
سوريا انتفاضة.. والنظام لا يقترح بديلا غير الفوضى أو الحرب
-
العصابات المسلحة غير موجودة، و-الحوار- خدعة!
-
حوار مجلة رواق الشباب
-
طور ثان من أطوار الأزمة الوطنية السورية؟
-
بصدد بعض خصائص الانتفاضة السورية
-
مكونان مدني وأهلي في الانتفاضة السورية
-
ثلاثة أشهر على الانتفاضة... أية آفاق؟
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|