|
هل يمكن اعتبار أخناتون أول فاشي في التاريخ؟
باسم النبريص
الحوار المتمدن-العدد: 3470 - 2011 / 8 / 28 - 19:29
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليس من باب الطرافة، طرحُ هذا السؤال. وإنما هو قضية تؤرقني منذ زمن. فالمتأمل في حياة أخناتون، وما فعله، كأول موحّد في التاريخ، من نفي الآخر، وإلغاء تعددية الآلهة، بالعسف والعنف، حتماً سوف يراوده سؤال من نوع كهذا. بالرغم من أن كتب التاريخ، لم تركّز على جانب الإلغاء، إلا بأقل القليل، فيما أسهبت، من جانب آخر، في امتداح وحدانية الرجل، وفي الإشادة بها، كانقلاب راديكالي، غيّر الحياة، من بعده، على وجه الأرض. فالحياة البشرية، بعد أخناتون، ليست هي ذاتها قبله. لكنّ قليلين، انتبهوا إلى الوجه الآخر من العملة. وأقلّ منهم، من توقف ملياً، على ما صنعته هذه الخطوة الكارثية، من مسلسل دموي، لم تتوقف حلقاته حتى هذه اللحظة. مسلسل كان ضحاياه، فوق العدد. وكانت أثمانه فوق الاحتمال. إذ قمع أخناتون، كملك وفرعون هذه المرة، كلّ الديانات المتعددة قبله، ولم يفعل ذلك بالإقناع، بل بالقوة الغاشمة والإكراه. فقد كان العالم آنذاك، متعدد الآلهة، وكان بشرُ الأرض، متآلفين، وكل جماعة منهم، راضية بآلهتها، ومنسجمة معها. وما حدث بعد أخناتون، موجود في مظانّ التاريخ، ولا يحتاج لتوضيح. إذ كرّت حبات المسبحة، بعده، وترسّخ وجود الفرعون على الأرض، مستمداً من وحدانية الإله الأوحد، وحدانية أخرى، سماوية وأرضية معاً، تبدأ وتنتهي عند شخصه الأكرم! وهو بهذا المعنى، مُدشّن أول أيديولوجيا في التاريخ، وككل أيديولوجيا بالطبع، خدمت وحدانيتهُ شخصَه ومصالحَه فقط، على حساب كل بشر زمانه ومكانه. وما الديانات التوحيدية الثلاث، إلا خطوات أُخرى على ذات الدرب، وعين النهج. خطوات، فتحت في التاريخ البشري المنكود، بابَ الدم الأبدي، الذي لم يُغلق إلى الآن. فجذر هذه الديانات هو توحيدية أخناتون، منها بدأت وتطوّرت. وإليها تعود. وعليه، فإن عملية تأليه الفرعون، أي الحاكم الزمني، أُخذت من توحيد الإله السماوي. وهكذا، فُتحت في الشرق تحديداً، صفحة الحاكم الإله، الحاكم المافوق بشري، الحاكم المُفارِق. فلم يعُد يُعرف، إن كان الحاكم بشراً من طينة البشر أم إلهاً من نسل الإله. والآن، ورغم كرّ ألاف السنوات، ما زال الحاكم الشرقي هو صورة فوتوغرافية عن أخناتون العتيق. هو أولاً، ممثل الإرادة الإلهية على الأرض، وتالياً، متماهٍ مع الإله ذاته. فقوله من قول الإله، وله ذات القداسة الأعلى. لذا فهو لا يغيب عن المشهد إلا بالموت، ولا يعقبه ألا واحد من نسله المصطفى. وهكذا، إلى لحظتنا الراهنة! فسيكولوجية المؤمن بإله واحد، تدفعه، سواء عرف أم لم يعرف، إلى تنزيل هذه الوحدانية، وتلبيسها على آحاد البشر، كلٌ في مجاله وفي نوع نشاطه. أي اختزال المتعدد في الواحد، والمتنوع في الأُحادي. ما أفقر الحياةَ، وسرقَ منها زبدتها، وما أحالها إلى صحراء بالمعنيين الجغرافي والمجازي. وما نحن، كعرب معاصرين تحديداً، وكشرقيين عموماً، إلا أخناتونيين، في جيناتنا ما كان فيه، مهما اختلف الزمان وتغيّر المكان! وللتدليل على هذا الطرح، ما على المرء إلا أن ينظر حوله ويرى. فنحن شعوب الحاكم الأوحد، والشاعر الأوحد، والرأي الأوحد، إلخ. أي شعوب الاختزال بالمعنى المفضي إلى الوبال والنكال! شعوب لغت تعددية الآلهة، فلغت، بالضرورة، تعددية الرأي، والنظر، والتفكير. في حين أن الحياة، وكما هو معروف وبديهي، لا يكون غناؤها وثراؤها، إلا في التعدد، وقبول الآخر المختلف. ذلك أن التعدد والتنوع والاختلاف، هي نعمة النعم، إذا جاز هذا القول. ولا تقوم الحضارات المرشحة للاستمرار والتطور والسيادة إلا بها وعليها. فما انهارت الإمبراطورية السوفيتية، حديثاً، إلا لأنها بنت أيديولوجيا أحادية. وما انهارت كل الإمبراطوريات قبلها، إلا لأسباب مشابهة تقريباً. إن الرأي الواحد، هو الموت عملياً. فصاحب هذا الرأي، يلوي عنق الواقع، كي يأتي على مقاس رأيه. ويستهين ويحتقر التجارب، مقابل تكريس وتقديس الكلمات. بل إن صاحب الأيديولوجيا، لا يرى الواقع البشري على الأغلب. فهو يحلّق في غمام ما فوق الواقع. وأذكر في هذا السياق، كلمة قالها مسؤول دولي ألماني، نبيل ومتعاطف مع مأساة الشعب العراقي، وقد كان الرجل يعمل في هيئة الأمم المتحدة، وقابل صدام، قبل نشوب الحرب بأشهر، بعد أن قرر إنهاء عمله ومغادرة العراق. قال الرجل، إنه قابل زعيماً، لا يعيش الواقع، بل يحلّق في الوهم ويتكلّم عن الفتوحات والانتصارات الغامضة، في حين أن شعبه يعاني الأمرّين. وأنه، أي صدام، بدا له وكأنه ليس من هذه الدنيا! هكذا هي سيكولوجية كل الطغاة المتألّهين! يتحجّرون في كهف نظرتهم الأحادية، ومع الوقت، يصبحون هم أنفسهم أيديولوجيا تعلو على كل أيديولوجيا! وهذا النمط من الحكام، يفرز آلافاً مثله، كلٌّ في موقعه ودائرة عمله. فلا نعود نرى إلهاً أرضياً واحداً، بل آلهة صغاراً متناسخين في كل مكان وموقع. وأغلب الظن أن كل الديكتاتوريات، في التاريخ، هي انعكاس لديكتاتورية الإله السماوي الأوحد. ما يعني أن معظم مآسي البشر، ولدت من هذه المنطقة. وما يعني بالتالي، ضرورة تخطيها، كي نعود إلى أصل وفصل الحياة : أي التنوع والاختلاف. لقد كان في زمن تعدد الآلهة، إلاهاتٌ فاتنات وشريرات : إلاهات خصب ونشوة وشهوة وجمال وفرح وحياة، والإلاهات إنانا، وفروديت، وعناة، نماذج مضيئة منها. فتصوّر كم هي الحياة جميلة مع إلاهة إمرأة؟ وفي المقابل، تصوّر كم هي جهمة وقاسية وفادحة مع إله متجهم قاس صحراوي، لا يتقن غير الوعيد؟؟ لقد خسر البشر بفكرة أخناتون التوحيدية، أضعاف ما ربحوا. بل إنهم عملياً وتاريخياً، لم يعرفوا معه غير الخسارات الأبدية. من حروب تتوالد ولا تنتهي، إلى أحقاد وكراهيات، واحتقار واستهتار.. من هذا الدين إلى ذاك، ومن ذاك إلى هذا. بل شاع كل ما سبق بين أنصار الدين الواحد، فتفرقوا شيعاً، وكفّروا بعضهم البعض. زاعمين أنهم محتكرو الحقيقة الإلهية، ولا توجد هذه خارجهم! بمعنى أن بيان الواحد ينطق فقط على لسانهم. وأنهم مكلّفون بالجهر به لتسييده، ومقارعة كل الخارجين عليه والمنحرفين عنه. فهم، بالمعنى المستتر، مقدسون، والآخرون مدنسون! وما بين المقدس والمدنس، تتحوّل الحياة إلى موت، والأرض إلى يباس، والناس إلى حطب المحرقة. فهل هذا ما يصنع الحضارة والرقي حقاً؟ وأينهما هذان سوى في البلاد التي تعلمنت والبلاد التي تخلّصت من مفاعيل القصة كلها؟! لقد أفسد أخناتون، الحياةَ في هذا الشرق المنكود. ولولاه لكنا الآن في شأن آخر ووارد آخر. فهو أُسُّ البلاء، وبئر الشقاء! لو كنا غير شكل، مع كل هذه الأرض، وهؤلاء البشر، وهذا النفط، لكنا يقيناً، وصلنا إلى ما وصله الآخرون، من تقدم وازدهار ورقي. لكن فكرة الإله الواحد، بما هي جذر وحاضنة الحاكم الواحد، أفسدت كل شيء، وأعادتنا إلى وراء الوراء، فيما العالم من حولنا، لا يجري إلا ليتقدّم. حتى صارت المسافات بيننا وبينه تٌقاس بالسنوات الضوئية! إن أحفاد أخناتون، هم حاكمونا إلى الآن : يحكمون على غرار الفرعون القديم، سواء أكانوا في مصر أم الشام أم العراق أم الجزيرة أم المغرب العربي. فكل حاكم لدينا هو فرعون، وهو إله، وما ينقصه فقط وينقصنا كذلك، هو أن نصلّي له ونركع ونسجد، جسدياً، وليس مجازياً فحسب. مع أننا في زمن آخر وحقب أخرى : زمن أصبح فيه هؤلاء الفراعين، أضحوكة في أعين حاكمي الغرب المنتخبين، أضحوكة لا تثير سوى الاستغراب والشفقة! فهم فراعين لا سلطة لهم إلا على شعوبهم الجائعة المقهورة. أما إذا وقفوا أمام الحاكم الغربي، فهم لا أكثر من متسوّل وشحاذ! ولن يزولوا إلا بزوال الثقافة التي تؤلّههم. فهم أبناء هذه الثقافة، ولم ينزلوا على الناس من السماء. لقد كان أخناتون، إذاً، أول فاشيّ في التاريخ. أما آخر الطغاة الفاشيين، من الشرق والعرب، فلا أحد يعرف متى يوجد ومتى ينتهي. ذلك أنه ما لم تتغيّر ثقافتنا، في العمق منها، وتنحو منحى التنوع وقبول الآخر المختلف، والتعلم منه، سوف يولد الطغاة طاغية وراء آخر، ولن ينتهوا. إن مأساتنا في ثقافتنا، قبل أن تكون في بضعة حكام أفراد. مأساتنا، كما يمكن القول، في النسق. وكما يمكن القول أيضاً، في السيستم، فالسيستم كله مضروب ومعطوب. لذا يولد الطغاة في هذه البقعة التعيسة من الأرض، كما لو أنهم نبت طبيعي فيها. وكما لو أنهم قدر مقدور وفي كتاب مسطور! فلا أحد منا معنيّ بأن يمدّ بصره إلى برّه: إلى الشاطئ الآخر من حوض المتوسط : إلى أوروبا مثلاً، حيث رئيس الدولة هناك، هو أعلى موظف لدى الدولة. يعني في الأخير: موظف! وما يعني أيضاً، أنه بشر، مثل البشر، وأن له مدة يحكم من خلالها، ثم يتقاعد ويذهب ليتريّض، في شوارع الناس ومتنزّهات الناس، كمتقاعد مثل مئات آلاف المتقاعدين من شعبه. يحدث هذا أمام عيوننا ونشاهده في الفضائيات، بينما، وفي نفس الوقت، نرى المسؤول العربي، مهما قلّ شأنه، وانخفضت قيمته، لا يسير إلا بموكب وحراس ومرافقين، أي تحت حماية ورعاية جيش لا ضرورة له، ويُصرف عليه من خزينة الدولة، أي من أموال دافعي الضرائب، وعلى حساب الفقراء المعدومين! لكن كل هذه التفاصيل، ومليارات غيرها، ما هي إلا إفراز طبيعي لثقافة الإله الواحد، والحاكم الواحد : ما هي إلا رأس جبل الجليد، وأما قاعدته، فهي، يقيناً، فكرةُ عمّنا أخناتون.
2005
#باسم_النبريص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|