الأربعاء 28 أغسطس 2002 16:43
يمكن الاتفاق مع الرأي القائل إن الفكر العربي، ومنذ العقود الأخيرة، في محنة كبرى وفي مأزق حقيقي. فالفكر العربي، وبكل فروعه من سياسي وديني واجتماعي وثقافي، ليس فقط متخلفا عن مسار العصر ومتطلبات حضارته، وإنما قد تراجع إلى وراء وتردى حتى بالمقارنة مع ما كان عليه في النصف الأول من القرن الماضي، حيث ظهر مفكرون ومصلحون وكتاب وعلماء متنورون بالعشرات من أمثال علي عبد الرازق وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وعبد الرحمن بدوي وشبلي شميل ومنصور فهمي وعلي الوردي و رئيف خوري و جبران، والمصلحين من علماء الدين كمحسن الأمين وكاشف الغطاء، وشعراء التجديد، وآخرين وآخرين. بل حتى الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر كان الأكثر تقدما فكريا واجتماعيا (النظرة للمرأة والغرب). وإذا كان موضوعنا هنا ليس تشخيص عوامل الظاهرة والظروف التي أفرزتها وطورتها (كالفقر والجهل، وفشل مشاريع التنمية والمشاريع القومانية المفخمة، والإحباط الناجم عن العدوان الإسرائيلي المستمر، وغير ذلك)، فإنني أتناول هنا ما أراه من بين أهم معالم هذه الظاهرة و تجلياتها: من سيادة ثقافة العنف بكل أشكاله،والتعصب الشديد لحد التطرف أحيانا كثيرة، ورفض التحليل العقلاني والمعاينة النقدية للأمور والأحداث والمواقف والتجارب السياسية مع إلقاء التبعات على "الآخر"، (سواء كانت أمريكا -والغرب عموما- أو إسرائيل أو كان الآخر سياسيا عربيا مخالفا أو مثقفا منافسا)، و الانكفاء على النفس والماضي باسم الأصالة ومكافحة الغزو الثقافي، والازدواجية المغالطة في النظر للمشاكل وفي اتخاذ المواقف العملية. وهذه الازدواجية السائدة في الساحة قد تنجم عن دوافع إيديولوجية وسياسية او عن عقد ومواريث التخلف الاجتماعي والثقافي، وأحيانا بحسابات حزبية وشخصية.
ان ثقافة العنف بل والتمجيد الغوغائي للموت المجاني، ومنطق التخوين والتكفير والتفسيق، (وهذه الظاهرة تسود العالم الإسلامي كله مع صعود تيارات التطرف الديني والتطرف السياسي المتبرقع بالدين) هي السائدة اليوم، وبكل أسف، بين النخبة والجمهور الواسع معا. صحيح أن هناك أقلاما وأصواتا عربية شجاعة حرة ومتنورة، تقف في وجه الغزو العنفي للفكر والممارسة السائدين. ولكن هذه هي أصوات وأقلام الأقلية المحاصرة، بل والمضطهدة والمهددة سواء، من الأنظمة القمعية الفاسدة أو من أدعياء الدين، أو من القيادات والنخب الثقافية المتشنجة التي تعتقد باحتكارها للحقيقة المطلقة والتي ترفض الحوار والتسامح واحترام الآخر والإقرار بنسبية الحقيقة وجدليتها المتطورة والمرنة. ونعرف مثلا ما حل بفرج فودة والاعتداء على نجيب محفوظ وقرار المحكمة المصرية بالتفريق بين حامد أبي زيد وحرمه ومطاردة رواية قديمة لحيدر حيدر .كما نعرف مجازر الجزائر "الإسلامية !؟" والاعتداء على الأقباط، والاعتداء على الكنيس اليهودي في تونس وغيرها و غيرها من وقائع وأحداث وممارسات دموية. أما المرأة فلا تزال في العالمين العربي والمسلم الضحية الاولى لعقلية التخلف وثقافة العنف التي تهين الكرامة وتحتقر حقوق الجنسين. وانه لمن المرعب أن يصبح نموذج البطل القدوة أمثال ابن لادن وأبي نضال وأبي سياف وطاغية بغداد ومن لف أمثالهم من حكام او قادة كتل وأحزاب وجماعات تنتهج العنف الدموي سبيلا لتحقيق غايات سياسية هي الوصول للسلطة والتشبث بها. وما شعار "الدولة الإسلامية الكبرى" إلا المثال الصارخ للشعارات البراقة التي تستعمل اليوم (من بين شعارات أخرى) لتحقيق المشاريع المذكورة.
لقد أشار عدد من الباحثين إلى دور الإيديولوجيات الحاسم في غلبة ثقافة العنف وعقلية "المؤامرة"، ورفض الآخر حد الرغبة في تحطيمه جسديا إن أمكن، وإلا فمعنويا واجتماعيا. ولعل هذا التفسير له مبرراته وشرعيته فضلا عن مواريث الخلف الحضاري المزمن في مجتمعاتنا. وسواء كان "المؤدلج" المتعصب قوميا أو يساريا او إسلاميا، فإن جوهر العقلية مشترك. ولذلك نجد شيوعيين سابقين يتحولون من إيديولوجيا لأخرى دون أن يجدوا في الأمر غرابة. ذلك لان هذه الإيديولوجيات كليّانية ومغلقة ما لم يخرج أصحابها من الدائرة المغلقة ويعترفوا قولا وفعلا بنسبية الحقيقة وعدم عصمة القيادات والأفكار والأحزاب والنخب والأفراد. والعنف في أقصى مداه سكين وخنجر أو مسدس ورشاشة وتفجيرات، وهو في أشكاله الأخرى فرض الحجاب تحت وطأة الضغط الاجتماعي و العائلي، أو التشهير والاتهامات المجانية ومحاولة اغتيال المخالف معنويا. إن الإيديولوجيات المغلقة لا تطيق الاعتدال والحلول الوسطى للمشاكل إذ لا ترى غير الأبيض أو الأسود،وتلجأ للمغالطة لتبرير شرعية مواقف حامليها السابقة منها والراهنة. وهكذا نجد من يرون إعادة النظر في التجربة الناصرية خيانة، أوأن انتقاد أخطاء الشيوعيين "مؤامرة إمبريالية لشق الصفوف"، أو أن فضح الفتاوى الدينية التافهة والدعوة للفكر العلمي والنقدي "كفرا وإلحادا"، والغزل الشعري والنثري والأفلام العاطفية والاستعراضية "فسقا" و"انحلالا".. الخ. ومنذ سيادة النخب "المؤدلجة "على الميدان السياسي والثقافي والاجتماعي صار القتل المجاني للنفس "استشهادا"، وقتل الآخر فرضا مقدسا. وهكذا مثلا انتهت القضية الفلسطينية من مأزق لآخر، جراء انتشار عقلية رفض التفاوض والتسوية السلمية، تحت شعار "إنهاء دولة إسرائيل" و"إبادة اليهود". وحتى القيادة الفلسطينية المعتدلة فضلت اللعب مع العواطف والمناورة الضارة بمجاراتها للمتطرفين العدميين. وهذا ما يريده شارون وزمرته من غلاة الصهاينة العنصريين التوسعيين. ويقتل شارون فلسطينيا فترفع فورا دعوات "الثأر" ولكن ليس من الجيش المعتدي والرموز المعتدية بل من الطفل والمرأة والشيخ ومن التلاميذ ورواد المطعم وركاب الحافلات. وبهذه العمليات الانتحارية التي صارت ثقافة وطقسا، ينتصر شارون ويبرر جرائمه المتكررة. إن الفلسطينيين ومعظم النخب السياسية العربية لم تفهم أن العالم انتقل من عهد لعهد بعد أحداث سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وان شارون يوظف العمليات الفلسطينية ضد المدنيين الإسرائيلين توظيفا مكيافيليا بربطها بالحرب الدولية على الإرهاب. وبذلك خسر الشعب الفلسطيني الكثير من العطف الدولي على قضيته. كما تهمش ولو مؤقتا دعاة السلام وقواه في إسرائيل. والقضية الفلسطينية هي دولية وفلسطينية معا، بل هي دولية أكثر من كونها عربية، وذلك بمعنى أن القيادة الفلسطينية الشرعية والدول العربية تطلب من واشنطن نفسها التدخل لإرغام شارون على التراجع عن سياسة العنف والعودة للمفاوضات السياسية. إن نبذ العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين والتفجيرات العشوائية لا يعني أبدا وقف النضال الفلسطيني العادل من أجل قيام دولته المستقلة. فللنضال التحرري أشكاله المجدية ولم نعرف أن المقاومة الفيتنامية مثلا وضعت في تكتيكها قتل الأمريكي أيا كان وأينما كان. لقد دفعت الشعوب العربية و بلدانها أثمانا باهظة للقضية، واستثمر أكثر الحكام هذه القضية لتغييب الديمقراطية وهدر الحريات ولتبذير المال العام على التسلح العقيم، كما الحال مثلا مع عراق اليوم الذي يرفع حكامه المتسلطون صرخاتهم المخادعة باسم نصرة فلسطين لتغطية قمعهم الدموي الوحشي للشعب وقواه الوطنية، ولتبرير هدر المال واستنزاف الثرة الوطنية وبذخ النخبة الحاكمة وحاشيتها وأجهزتها القمعية، وللتغطية على مسئوليتها عن وصول العراق لما وصل إليه منذ كارثة غزو الكويت والعقوبات المترتبة عليه، والمناورات المستمرة مع مجلس الامن الدولي مما يعطي مزيدا من الحجج لبقاء الحظر الاقتصادي. فالنهج الخاطئ بل الخطر للقيادات الفلسطينية المتطرفة يسئ لا للشعب الفلسطيني وحده بل ولشعوب المنطقة العربية أجمع. ولكن من لا تقل مسئوليتهم هم النافخون من بعيد في النار، الداعون لاستمرار العمليات الانتحارية وهم وراء مكاتبهم الفارهة في العواصم العربية او الغربية ومن الفضائيات المتشنجة واعمدة الصحف والمنابر المختلفة. هؤلاء يشجعون المتطرف الفلسطيني على اعتبار الانتفاضة هدفا بحد ذاتها وان الانتفاضة لا تعني غير عمليات تدمر الفلسطينيين أضعاف ما تؤذي إسرائيل وهي تديم الاحتلال وليس العكس. إنهم يغذون عقيدة أن الموت غاية الغايات وسبيل السعادة والمجد وليس ان كل نضالنا هو من أجل حياة سعيدة وكريمة وحرة على كوكبنا. وتقديس الشهادة بأي ثمن ليس حكرا على المتطرف الإسلامي بل هو عقيدة ومزاج أيديولوجيان نجده لدى الستاليني، والقوماني المندفع، وكل مؤدلج سياسي آخر.
ولننظر أيضا في المواقف العربية الراهنة من القضية العراقية، سواء عنينا الحكومات او النخب المثقفة والسياسية غير الحاكمة. فباستثناء أقلية محدودة العدد من المثقفين العرب، نرى، مع الأسف، دفاعا مستميتا عن نظام تعارضه النسبة الكبرى من الشعب وقواه الوطنية،التي تنشد الخلاص من الديكتاتورية الشمولية، وترميم السيادة الوطنية المتصدعة، وتعزيز وحدة العراق ووحدة شعبه. غير أنه، ومع ازدياد الحديث عن التغيير الجذري القريب في العراق والتحركات النشيطة في هذا السبيل نجد، في الوقت نفسه، ازدياد تحامل المنابر الإعلامية العربية على الوطنيين العراقيين ولصق الاتهامات الباطلة بهم،والتخويف من التغيير العراقي المطلوب ـ سواء بالتخويف من انفصال كردي موهوم أومن قيام دولة شيعية غير موجودة إلا في مخيلة هؤلاء المدافعين الزائفين عن شعبنا و العراق، بينما لا يقصدون غير بقاء النظام العراقي. وأسباب هذه المواقف متعددة فمنها الإيديولوجي والسياسي المحلي، ومنها الحسابات التجارية والاعتبارات الشخصية، وخوف البعض من التحول الديمقراطي في العراق، الذي عند تحققه سيؤثر لا محالة على مسار الأحداث في كل المنطقة ـ وهذا مما سيحرج بعض الأنظمة والقيادات السياسية الأخرى.
وفيما تصدر الفتاوى التبريرية لبقاء النظام لا نجد غير أصوات قليلة تدافع عن الشعب وتدين الممارسات القمعية التي بلغت في العقد الأخير حدا لم يشهده تاريخ العراق الحديث، وإذ تحولت طبيعة الدكتاتورية نفسها لتنتقل إلى حكم الفرد والعائلة،ومن ورائهما قرية بعينها لم تعرف حضارة بغداد ولا تشعر بأي عطف حقيقي على بقية سكان العراق المتعددي الألوان الدينية والمذهبية والعرقية. ومن الحكام العرب من يعبرون لواشنطن عن "القلق" على مواطنيهم المقيمين في العراق في حالة سقوط النظام من دون أن يعربوا يوما عن التعاطف مع محنة شعبنا بسبب القمع ونهج التعذيب،وحملات الاعتقال و الإعدام الجماعية، وقطع الأعناق، وصلم الآذان، ووشم الجباه، وتعريب المناطق الكردية والتركمانية، وتهجير مئات الآلاف،وغيرها وغيرها من الممارسات ذات الطابع الفاشي والطائفي والعنصري.
إن النخب العربية هي التي تضخ الدعايات المدافعة عن النظام العراقي وضد وطنييه، وإن الشارع العربي المصدوم بالعدوان الإسرائيلي وبأخطاء وخطايا السياسات الأمريكية،والذي يعاني معظم أفراده من الأمية، يصدق مندفعا وراء دعوات النخب ودعاياتها التي تتعكز على المغالطة، وتشويه الحقائق. وتستغل النخب هنا (وكما في القضية الفلسطينية) مشاعر الكراهية السائدة نحو الأمريكان لتبرير وشرعنة كل ما هو باطل وضار من مواقف. فهل كراهية أية دولة كبرى تبيح الدفاع عن مظالم هذا الحاكم العربي أو ذاك ؟! ولماذا تجريم الحوار مع سادة الورقة العراقية منذ حرب الكويت الأمريكان، وطلب العون الدولي لغرض إبدال النظام بنظام ديمقراطي برلماني مسالم مع الجيران ومنكب على إعادة البناء وترفيه الشعب المسحوق ؟! وكيف يجوز الطلب من واشنطن عونها في القضية الفلسطينية ولا يجوز ذلك لقوى شعب تعرض،كالفلسطينيين، للمظالم والدمار، إن لم يكن اكثر ؟! وهل عراق صدام موحد حقا لكي يعرب المزايدون عن خوف مصطنع من تمزيقه لو حصل التغيير الديمقراطي ؟! أم إن سياسة حكامنا ونهجهم العنصري والطائفي قد صدعا الوحدة الوطنية السيادة الوطنية العرقية بعد ان صار العراق بعد حرب الكويت تحت الوصاية الدولية - والوصاية الأمريكية بالذات.
لقد وجدنا العجائب في هذه المواقف العربية المناصرة لنظام دموي والخاذلة لشعب ذي تاريخ مجيد ولبلد كان له ثقله ودوره الكبيران على الساحة الإقليمية. كما نعجب من غرائب ردود الفعل العربية من أحداث 11 ايلول (سبتمب)ر، وهي ردود كشفت للعيان، وأكثر من أي وقت، أمراض الفكر والممارسة العربيين السائدين، وما تلجأ إليه أكثرية النخب من مغالطات ومداورات ولعب بالحقائق وتشويه للمعلومات. فمنذ اللحظات الاولى انطلقت الهلاهل على نطاق الشارع العربي كله تشفيا بما حل بأمريكا من خسائر كبرى. وانبرى دعاتنا ومتفلسفونا بأكثريتهم الساحقة للتفسير و التبرير قائلين إن تلك التفجيرات كانت نتاج السياسات الأمريكية الظالمة ولاسيما لمناصرتها لإسرائيل. ولم يخف الكثيرون انبهارهم بدقة العمليات وحسن تنظيمها وتوقيتها. غير انه في الوقت نفسه وبموازاة ذلك جرى الترويج لنظرية "مؤامرة أمريكية - صهيونية" من وراء الحدث!! هؤلاء العباقرة لم يسائلوا انفسهم كيف يرقصون طربا لحدث هو من صنع "مؤامرة معادية محاربة العرب والإسلام" !! وبالرغم من اعترافات بن لادن وشركاه، الصريحة منها وغير المباشرة، بمسئوليتهم، وتهديدهم بالمزيد من أعمال الإرهاب الوحشية، فإن أصحابنا الأفذاذ راحوا يغالطون ويحاولون عبثا تبرئته. ومنهم من إذا أحرج قال في المجالس إن بن لادن كان صنيعة أمريكية دوما وهو جزء من اللعبة. وقلت لبعضهم : "ولم لا تكتبون ذلك علنا؟" فأسقط في أيديهم. ولكن المغالط يخرج من مغالطة لأخرى دون أن يرق له جفن! ومؤخرا وجدوا ورقة قش في كتاب فرنسي (تثار تساؤلات حول ظروف ودوافع صدوره !) يتلاعب ببعض الجوانب الفنية الدقيقة للتفجيرات التي لا يفهمها أكثرية القراء الساحقة أو ببعض النقاط التي لا تزال تفاصيلها غير واضحة للعلن، ليحاول هو الآخر البرهنة (كما يتصور( على نظرية المؤامرة. فرأينا مثقفين من اتجاهات مختلفة يرددون مغالطات الكتاب كحقائق مسلمة متجاهلين عشرات الادلة الدامغة على مسئولية القاعدة، ومنها اعترافات زعمائها أنفسهم.
لقد دمغت "القاعدة" نفسها بالعمليات الإرهابية التي أساءت للعرب والمسلمين أكبر إساءة والأكثر فداحة وسوء عواقب. لم تكن دوافعهم فلسطينية أو لصالح الشعب العراقي وإنما سعيا للسلطة في إمبراطورية إسلامية متخلفة وهمجية على نمط الطالبان حيث المرأة مجرد رقيق، والناس محرومون من وسائل الثقافة والحضارة ومن الحريات الشخصية ومن كرمة الإنسان. وهذه الزمر المتطرفة تكفّر لا اليهود والمسيحيين والهندوس وغيرهم من غير المسلمين وحسب، بل وتعتبر جميع المسلمين الآخرين كفارا (المسلمين غير المتّقين كما عبر سيد قطب). وهم يحاربون أمريكا لأنهم اعتبروها عائقا أمام قيام إمبراطوريتهم المنشودة. ودعا شركاء بن لادن علنا من الفضائية القطرية المعروفة إلى قتل كل أمريكي وأينما كان! ومؤخرا ينزلق رجل دين لبناني فاضل ليدين حوار المعارضة العراقية مع أمريكا "الكافرة" كما وصفها !!
إن أصوات الكثيرين من الكتاب والدعاة و"أمراء" الدين ترتفع بصخب ضد ما تعتبره حرب الغرب على الإسلام والمسلمين. ومنذ ان أصدر فوكوياما وهننغتون دراساتهما عن صراع الحضارات زادت هذه الأصوات الهائجة صخبا وهيجانا، علما بان مفكرين غربيين هم أول من تصدوا لنظرية هننغتون وأفكار فوكوياما. وإذا ليس مستطاعا إنكار وجود تيارات متعصبة وعنصرية في الغرب، فإن الصحيح أنها ليست بالتيارات السائدة في المجتمعات الغربية، في حين ان الدعاة الحقيقيين لحرب الأديان هم المتطرفون من الإسلاميين الذين يكفرون غير المسلمين ومخالفيهم من العرب والمسلمين. وعندما يدعو مساعدو بن لادن علنا لقتل كل أمريكي فكيف لا يؤثر ذلك على مشاعر الأمريكي البسيط والمسالم؟
إن ثمة ازدواجية مثيرة في منطق المؤدلجين من مختلف المدارس في الموقف من الغرب. فالملايين من العرب والمسلمين لاجئون في امريكا وبقية الدول الغربية، ويتلقون، مع عائلاتهم، مساعداتها الاجتماعية السخية، وهم يشتغلون، ويتجنسون. وثمة آلاف جديدة في كل يوم تحاول الوصول بكل طريقة إلى لندن أو باريس أو السويد أو هولندا، وغيرها. ومع ذلك فنحن نشتم هذا الغرب نفسه الذي نتنفس فيه بحرية في حين تنقضّ اكثر الأنظمة العربية على حرية المواطن وكرامته. ويهاجم متطرفونا ومعظم مثقفينا العولمة بوصفها غزوا واستعمارا أمريكيين، بينما يتمتع الجميع ببركات هذه العولمة، ويستخدمها الإرهابيون للتدمير ولإبلاغ العالم رسالتهم الجاهلية الظلامية الدموية باسم الإسلام. إنهم يستخدمون الفضائيات والانترنيت والحاسوب، ويركبون الطائرات، بل ويدلون بتصريحاتهم من الشاشات الغربية نفسها. ومع ذلك يشتمون، ويبشعون، ويخوّفون، ويحذرون! ولابد هنا من التمييز بين الشرائح المحتجة على العولمة في الغرب وبين دعاة الحرب عليها من أسرى الإيولوجيات المغلقة. ففي الغرب، ورغم نشاط فئات من الفوضويين والعنفيين، فإن أكثرية المحتجين يدعون للعدالة والى التوازن والعدل في توزيع ثمار التقدم التقني الهائل. إن العولمة لا تقاوم لأننا نعيشها كل يوم وساعة ودقيقة، ونشربها، ونتنفسها. ولكن المطلوب هو العمل لنشر العدل الاجتماعي في هذه العولمة ومساعدة البلدان النامية الأكثر فقرا، ورفع مستويات معيشة الشغيلة في البلدان الغربية نفسها، والمطالبة بواجبات واحدة للدول الكبرى في مواجهة مشاكل البيئة والجريمة وديون العالم الثالث وغيرها من كبريات مشاكل اليوم. إن هذه الازدواجية في التعامل مع الغرب مثال للازدواجية السائدة بين النخب العربية المهيمنة على وسائل الاتصال وعلى السلطة السياسية. ومثال صارخ آخر هو تباكي الدعاة والعديد من الحكومات على معتقلي الطالبان والقاعدة، بينما يتجاهلون المعتقلين والسجناء السياسيين الذين يعذبون في زنزانات الأنظمة العربية والمسلمة وهم بمئات الآلاف. وكان الأستاذ عبد الرحمن الراشد على كل الحق في التنبيه إلى هذه الازدواجية المرائية جدا.
ان النخب الفكرية في المنطقة العربية تضل الطريق وتتنكر لرسالتها إذا اعتبرت أن واجبها هو تشجيع الغوغائية ومجاراة غرائز الناس الطيبين المحبطين. بل إن المفكر والمثقف بوجه عام سيقعان أسرى تثقيفهم ودعايتهم عندما يستحوذان على مشاعر وأفكار الجمهور الواسع. فغالبا ما نجد مثقفين يزايدون على أنفسهم وعلى الشارع المتحمس والملتهب عاطفيا، فتصبح العلاقة بين النخبة الفكرية والجمهور في دوامة لا تنتهي من التأثير والتأثر .وحماس الجماهير لا يصلح دائما معيارا للصواب والخطأ .ونعرف جميعا أن الشارع الألماني الشعبي هو الذي حمل للسلطة هتلر. كما نذكر حماس الشارع العربي لهتلر وفتوحاته العدوانية وذلك نكاية بالسياسة البريطانية عهد ذاك .ولكن هل كان ذلك الحماس مبررا؟ وهل كراهية سياسة الدولة التي كانت تستعمرنا تبرر التصفيق والتهليل للوحش النازي الضاري الذي لم يكن يكنّ للعرب غير التظاهر المرائي بالعطف؟ وهل فعلت قيادة الحاج أمين الحسيني خيرا بالتحالف مع النازية والفاشية الإيطالية ورفض المشروع البريطاني ( 1937 ـ 1939 ) بالموافقة على قيام دولة فلسطينية مستقلة مع منح اليهود حكما ذاتيا، على أن لا يزيد عددهم عن العشرين بالمائة من مجموع السكان؟
إن من السهل للنخب الفكرية والسياسية تملق عواطف الجماهير جراء الإحباط المبرر وذلك بحثا عن شعبية مؤقتة ومهزوزة. غير ان واجب النخب، والفكرية منها بالذات، هو إرشاد الجماهير وتوجيهها الصحيح، والتفكير في مصالحها البعيدة الأمد لا في تغذية وتأجيج الحماس وحسب إلا إذا كان حماسا لقضية عادلة ولموقف مناسب للمقتضيات ولموازين القوى ومجمل الأوضاع الوطنية والإقليمية والدولية. لقد أخطأ الكثيرون منا في تبني شعارات ومواقف سياسية متهورة ألحقت الضرر الكبير. كما عانت الحياتان السياسية والثقافية كثيرا جدا من سيادة ثقافة العنف ورفض الحوار والتسامح، والنقد الهادئ والمبرر، ومن عقلية "المؤامرة" إياها.
إن في مقدمة الظروف المخففة للأخطاء والخطايا والمفسرة لها هو حرمان البلدان العربية من الحياة الديمقراطية الصحيحة بسبب تسلط الأنظمة، خصوصا ذات الشعارات المفخمة التي كانت سبيلا لقيام الشموليات العربية، وفرض نظام الحزب الواحد والقائد الواحد. وإذا كان وضع الفكر العربي الراهن، بفروعه (السياسي والديني والاجتماعي ـ الثقافي) بائسا ويبعث على الرثاء وعلى الكثير من الإحباط، فإن وجود شرائح من النخب الشجاعة والمتنورة قد يكون بصيص الضوء في العتمة القاتمة.
ان شعوب المنطقة العربية ستظل هامشية وفي آخر الموكب العالمي في مختلف النواحي ما لم تمتلك نخبها المنقاة جرأة الدفاع عن الصحيح ورد موجة التجهيل الظلامي وثقافة العنف والتعصب والتقوقع، التي تغزو العالمين العربي والإسلامي. ولا تقدم ولا مكانة فاعلة لهذه الشعوب من دون إزاحة أنظمة القهر والفساد، و سيادة الديمقراطية، وروح الحوار والتسامح والاحترام الصارم للمواطن وحقوقه وكرامته، وغرس ذلك في ثقافتنا وسلوكنا منذ الطفولة وفي برامج التعليم على مختلف المستويات. وهذه في رأيي هي المعايير التي تحدد اليوم لدينا معاني ومصطلحات الوطنية، والأصالة، والتقدم مقابل الموميائي الموروث من العصور الحجرية الأولى!
إيلاف خاص