أخبار الشرق - 28 آب 2002
لو أردنا أن نترجم السؤال إلى لغة أكثر دقة لكان علينا أن نسأل: هل نجحت اعتقالات أيلول 2001 وما تبعها ولا يزال من ملاحقات أمنية متصاعدة للناشطين من مثقفين وسياسيين مستقلين, في ايقاف حركة المطالب الاجتماعية وفي القضاء على الأمل, الذي ولدته أزمة انتقال السلطة, في اقتراب أجل النظام الشمولي وعودة الحياة السياسية والاجتماعية والقانونية الطبيعية إلى سورية؟
وفي صيغته هذه سوف نكتشف كم يكون الجواب على السؤال خطيرا ومأساويا. فانتهاء ربيع دمشق, أي إمكان الانتقال بوسائل سلمية نحو وضع طبيعي يلغي حالة الوصاية والتجريد العملي والقانوني للشعب من حقوقه المدنية والسياسية, يعني, بالضرورة, في هذه الحالة, الاقرار بفشل الحلول السياسية وبالتالي إعادة البلاد إلى المناخات ذاتها التي ولدت أحداث حماة المأساوية.
ولعل جناحا قويا في النظام لا يحلم بشيء أكثر من تكرار ما حدث في الثمانينات في سبيل تصفية الساحة السياسية الوليدة في سورية من التراكمات الايجابية التي عرفتها في السنوات القليلة الماضية والتي تنزع جميعاً إلى تجريد السلطة السياسية من أي وسيلة لإضفاء المشروعية على استراتيجية الحرب الأهلية التي تتبعها منذ عقود في سبيل إلغاء أي حياة سياسية ومدنية معا وإجبار الشعب برمته على الإذعان والاستسلام الكامل والشامل لقرارات السلطة البيرقراطية وإرادة الحزب أو من يمثله ويتكلم باسمه.
لكن, لحسن الحظ, إذا عدنا إلى السؤال وتأملنا بالفعل في طبيعة التراكمات التي حصلت في الأعوام الماضية منذ 1994 لتعمق لدينا الاعتقاد بأن التحول أصبح حركة حتمية, وهي حركة مستمرة, وسوف تبقى مستمرة, ولو تحت الأرض, بالرغم من الاعتقالات وبالرغم من تراجع الحركة العلنية للمطالب الديمقراطية وانتشار الخوف وتعميم الاحباط بل واليأس عند قطاعات الرأي العام العديدة.
ومن هذه التراكمات وفي مقدمها الإجماع العام, بما في ذلك عند التيارات الاسلامية التي مالت في فترة ماضية إلى اللجوء إلى الوسائل العنيفة, على الالتزام الثابت بأساليب العمل السياسية, من حوار وندوات ومحاضرات واعتصامات واحتجاجات وعرائض وبيانات وتظاهرات سلمية ونبذ أي وسيلة تجنح إلى العنف أو تدعو إليه أو تراهن عليه. ومنها أيضاً الانتصار الساحق والنهائي الذي حققته الفكرة الديمقراطية في أوساط النخبة السورية والعربية كما تعبر عن ذلك وسائل الإعلام الفضائية.
ومما يزيد من قوة تأثير هذا الانتصار الفراغ السياسي المذهل الذي تعيشه البلاد بعد التراجع الرسمي عن الخيارات الاشتراكية التقليدية وافتقار الحزب الذي يعلن نفسه بالدستور قائداً للمجتمع والدولة لأي فلسفة أو رؤية حديدة للاصلاح تختلف عن تلك التي يشير إليها الانفتاح الاقتصادي, والتي ارتبطت في العالم أجمع بالديمقراطية الليبراية. ومنها كذلك دخول مئات آلاف الشباب ممن كوتهم الأرمة الاقتصادية بنارها وقتلهم الفراغ السياسي والثقافي المستمر منذ عقود وأعادت لهم تجربة المنتديات, وما دار فيها من نقاشات وحوارات وتواصل إنساني, الثقة بأنفسهم وعرفتهم على الشعور العميق بمعنى المسئولية الأخلاقية والوطنية؛ أقول عودة هؤلاء إلى ساحة العمل العمومي ونزوعهم, بالرغم من التهديدات التي تطاولهم والمخاطر التي تحيق بهم, الى العمل المشترك ونبذ موقف الفردية والاستقالة الأدبية التقليدية. ومنها أخيراً تحرير الرأي العام, بفضل وسائل الإعلام العابرة للدول, من قبضة الإعلام المحلي الخاضع للنظام والتحطيم العملي لوسائل الرقابة الحكومية على الفكر والضمير حتى لو استمرت وزارة الإعلام في توظيف عشرات الرقابيين الإضافيين للتحقق من ضمائر الكتاب والباحثين. ومنها أخيراً وليس آخراً الهزيمة السياسية والعسكرية والمعنوية التي مثلتها استقالة السلطات العربية جميعاً في مواجهة الحرب التي لا تزال تشنها الولايات المتحدة وإسرائيل على الشعب والمقاومة الفلسطينيين من دون أن يكون بإمكان هذه السلطات وقواتها المسلحة القوية والمتحكمة غالبا بمجتمعاتها تقديم أي مساهمة تذكر لنصرة الشعب المكافح والتخفيف من عذاباته.
ومن الواضح أن هذه التراكمات تنزع جميعاً إلى ترك النظام عارياً أمام جميع الانتقادات المحقة وغير المحقة, وذلك سواء حصل الاصلاح الاقتصادي والإداري المنشود أو لم يحصل, بل بشكل أكبر لو حصل هذا الاصلاح. والخلاصة أن مضمون ما نعيشه اليوم في سورية في هذه الفترة ليس انتهاء ربيع دمشق، ولكن قبل أي شيء آخر انهيار الثقة بالنظام وزوال الاعتقاد بقدرته على تقديم أي مكاسب أو إنجازات للمجتمع والدولة, أي فقدان الايمان بالنظام من حيث هو صيغة صالحة للحكم, بما في ذلك, وربما أكثر من أي فئات أخرى, عند قادة النظام وأكثرهم وعياً وصلاحاً.
للتغطية على الخوف من المستقبل وانعدام الايمان وعلى سبيل درء المخاطر الصاعدة وقطع الطريق على موجة الاحتجاج الثانية التي يعد لها لا محالة تراكم المكتسبات الفكرية والسياسية وتصاعد الاعتراض العملي على الأخطاء والنقائص والفساد تسعى أوساط القرار, وهي أوساط يصعب بالضبط تحديدها بدقة لأنها متغيرة ومتبدلة تعكس البنية القلقة التي تميز الدوائر الحاكمة, إلى تطوير استراتيجيتين متوازيتين ومتكاملتين: الأولى تهدف إلى وقف حركة الاحتجاج وتفتيت النخب القيادية الوليدة وتشتيت شملها لمنعها من ممارسة أي دور قيادي مواز وذلك عن طريق مباغتة الحركة الصاعدة للمجتمع بضربات قوية موجعة وتصعيد الضغوط الأمنية وتعميها على الأفراد وتعزيز سيطرة الحزب والأجهزة الأمنية على الدولة والإدارة والقطاع الخاص بملء جميع المناصب الإدارية والسياسية والثقافية والاقتصادية الشاغرة بالعناصر الحزبية والموالية. وهذا هو الذي يفسر التعبئة الأمنية الشاملة التي تشهدها البلاد في هذه الفترة والتشدد الذي تعرفه في مواجهة العناصر التي لا تزال ناشطة في الحياة العمومية. أما الاستراتيجية الثانية الموازية فهي تهدف إلى تحصين الموقف الداخلي خارجياً وذلك بالالتصاق بشكل أكبر من أي وقت مضى بالاستراتيجية الأمريكية العالمية والإقليمية, وهي اليوم استراتيجية مواجهة الارهاب أو الحرب على الارهاب, والاستفادة من واجهة هذه الحرب أو شعاراتها لتبرير وتمرير الاستراتيجية الداخلية الرامية إلى تصفية فرص التحول الديمقراطي والحصول على التغطية الدولية لهذه التصفية.
لكن, بعكس ما تنتظره تلك الأوساط المعادية لأي تحويل ديمقراطي سلمي للنظام, ستكون نتائج هاتين الاستراتيجيتين معكوسة تماماً. فالاحتلال المتزايد من قبل العناصر الحزبية والموالية للمناصب السياسية والاجتماعية والإدارية والثقافية والإعلامية في الدولة وما يرافقه من ضغوط أمنية متصاعدة على العناصر النشطة في المجتمع سوف يفاقم بقوة وسرعة من القطيعة التي هي أساسا عميقة بين النظام والمجتمع ويزيد من شعور جميع الأفراد بالغربة والهامشية والغبن والظلم في الدولة التي تقول إنها تسعى إلى إصلاح أحوالهم. في حين أن الالتصاق المتزايد بالاستراتيجية الأمريكية سوف يلغي مظاهر التميز الوطني الذي سعى النظام إلى البناء عليه لتأكيد نوع من الشرعية والقبول السياسيين.
وهذا ما يدفعني إلى القول, إنه بالرغم من مظاهر القوة التي يمكن أن تظهر على سلوك النظام واختياراته في هذه الفترة, خاصة في مواجهة المثقفين الذين حولوا عملياً إلى أعداء وخصوم عنيدين, إلا أن جوهر استراتيجياته يعكس الشعور المتزايد بالضعف والحصار. إن الحشد الأمني الجديد والمتجدد والالتقاء على سياسات المشاركة في الحرب العالمية ضد الارهاب التي يشكل العرب, وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني, ضحيتها الرئيسية, لا يمثل أي مخرج للنظام يمكنه من الانتصار على ربيع دمشق, أي على حركة التحويل الديمقراطي السلمي للمجتمع, بقدر ما يعكس سياسة الهرب إلى الأمام. وهي سياسة لا يمكن أن تقود إلى تحسين فرص إصلاح النظام ولا جعله أكثر قدرة على المناورة في الداخل والخارج بقدر ما تفاقم أزمته وتعمل على تضييق هامش مناورته في مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية معا.
من هنا فإن ربيع دمشق, الذي شكل بالنسبة للمجتمع المقيد والمدحور أملاً وليداً في الخروج من المحنة ومعانقة الشعور بالمواطنية وإمكانية العودة بسورية إلى حياة مدنية وسياسية طبيعية, أي إنسانية, يميل إلى أن يمثل, هو ذاته, الدودة التي تنخر وسوف تستمر تنخر في النظام وتفاقم من الشروخ التي وسمته دائماً: بين المجتمع والدولة, بين القول والعمل, بين الوعد والواقع, وذلك حتى لو لم يبق أحد على قيد الحياة ممن شاركوا فيه. فمنذ ربيع دمشق والطروحات التي نشرها والتواصل الفكري والاجتماعي الذي بعثه في صفوف نخب مهمشة ومنبوذة منذ عقود, أصبح نظام الحزب الواحد والفكر الواحد والرأي الواحد يبدو من دون هدف ولا رؤية ولا مبرر وجود.
__________
* كاتب وباحث سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس