|
النظرة الأطفالية في المجتمع الكرزازي:(تعبير عن الوجود و مواقف من الحياة المحلية مع جانب من بعض قصورها)2/2
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 3459 - 2011 / 8 / 17 - 18:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وإذا كان الظلم هو العلامة المميزة لهذا التدخل،فأمين الذي يبلغ من العمر 12 سنة ،والذي يرعى الأغنام والأبقار،ويجلب الماء من السقاية،والبئر،ويبيع البيض في الطريق للبورجوازيين المدينيين،ويأتي بالتبن والعشب من التيرس،ويذهب إلى المدرسة كل يوم في مستهل مداخلته لم يتوان في إظهار إعجابه بالمكان الذي هو فيه،وبرر ذلك بالقول:" ما يعجبني في هذا المكان،هو هذا الدوم الشامخ،يمنحنا بكل سخاء ثماره التي تسمى بالغاز "،"فالدوم" في نظر أمين هو ما يعطي لهذا المكان وجوده،وإذا نزلنا إلى الواقع نجد في نهاية فصل الصيف ودخول فصل الخريف مجموعة من الفاعلين الإجتماعيين،والفاعلات الإجتماعيات يبحثن عن ثمار" الدوم"،والتي تسمى "بالغاز"،فهي تعطي حركية غير مسبوقة(في أوقات السنة الأخرى) في أماكن ظلت طوال السنة مهجورة،وتعطي دينامية مفعمة بالتفاعلات،ويبرز أيضا من خلال مكانه،ومن خلال الواقع،أن "الدوم" ما كان ليذكر لولا وجوده الفعلي في ذهنية النظرة الأطفالية الكرزازية،وبالفعل فرغم المحاولات التي بذلت من طرف الساكنة المحلية الكرزازية للقضاء على هذه الشجيرة في إطار استصلاح الأراضي،فإن المحاولات ما فتئت تتلاشى،نظرا لجذور الشجيرة العميقة،وتكيفها مع المناخ المحلي.غير أن ما تتجاهله هذه الجهات على طول عقود من الحرب ضد تلك الشجيرة هو أن وجودها وجود ضروري لاعتبارات متعددة منها:1- شكل الدوار الطبوغرافي المنحدر الذي يتسم بوجود منحدرات،وهذه المنحدرات تتموقع بها ساكنة تشكل نسبة مهمة من الساكنة الكرزازية 2- حماية ساكنة الدوار من الفيضانات الناجمة عن الإنتقال المناخي الكوني والكرزازي(خاصة التغيرات الناجمة عن الإحتباس الحراري،والدليل على ذلك هو سقوط الأمطار بغزارة في فصل الصيف،وهذه تعتبر سابقة من نوعها على اعتبار أن الذهنية الكرزازية تعودت في إطار التقاليد المحلية على النظر إلى موسم المطر في فصل الشتاء،وهو يؤشر على بداية السنة الفلاحية،فكلمة"الشتا" تعني في اللغة المحلية المطر،وبالتالي فالمطر مقرون بفصل الشتاء،لكن المناخ وغيره هو متغير)،وهذا ما زعزع البنية الذهنية في الآونة الأخيرة،ولا سيما النظرة الأطفالية في نظرتها نحو "الدوم" باعتباره:3- شجيرة تمنح"الغاز"4- تمنح الأوكسجين5- تثبت التربة6-تنمو في وسطها الأعشاب7-تعشش في وسطها الحيوانات على اختلاف أصنافها وأنواعها8- يتوارى خلفها الرعاة من لسعات البرد القارسة 9- تتغذى عليها الأبقار في موسم الخريف الجاف10- ويتغذى عليها الأطفال في موسم الشتاء البارد 11- كانت تشكل ركنا ركينا من غذاء الساكنة المحلية في عقود وسنوات الجفاف التي اجتاحت المنطقة على طول التاريخ المحلي..... إن هذه الأشياء التي ذكرنا،وغيرها هو مايبرر إقحام النظرة الأطفالية لشجيرة "الدوم"،باعتبارها شجيرة موجودة بالقوة ،وبالفعل في الذهنية الأطفالية،باعتبارها ذهنية لها نظرة قائمة الذات،نظرة أتت من صميم تفاعلها مع بنيات متعددة كالمدرسة-الإعلام-المسجد....،وتحاول أن تبلور وجودها وظهورها في ظل بنيات عتيقة وذهنيات عتيقة لازالت تتحكم في المخيلة الكرزازية وتغلق قنوات البروز والظهور في وجه ذهنيات ونظرات وبنيات ليس لديها ميكانيزمات(اقتصادية-اجتماعية..سياسية) تخول لها البروز،لكن السوسيولوجيا،ومن خلال احتكاكها بالبنية الأطفالية وجدت أنها صوت كغيره من الأصوات،يتكلم،يعبر،يدافع،ينتقد،ينادي،يقول،لكن الذهنية المهيمنة(الباتريركية-الأبوية) تغلق آذانها الصماء دفاعا عن وجودها الذي ما فتىء يهدم مع سيرورة وصيرورة التاريخ،هذا الهدم يبرزه نقد أمين للمؤسسات الإجتماعية ،فرغم سنوات التضبيع،وإضعاف ملكة النقد ،وسياسة التلمذة والتطويع والتطبيع ،وغرس ملكات الإستسلام،فإن هذا لم يمنع أمين من التعبير بلسان دارجي مغربي نقدي صرف:"اللي كيطلع لي الدم هو هاذ الدخان اللي جاي من هاذ الوزين العيان"،إنه نقد موجه إلى معمل صناعة الآجور الذي يتموقع شرق دوار بني كرزاز على الحدود مع دوار البيض،وهو معمل هجين يفتح أبوابه تارة ويغلقها تارة أخرى،ويشغل العمال تارة ويسرحهم تارة أخرى،لكن الطامة الكبرى هو وجوده فوق أراضي الدوار،ويعمل على تلويث هواء المنطقة النقي في وقت باتت الأشجار المنتجة للأوكسجين والعالم الأخضر يتراجع بعد هجوم مريرتقوده البورجوازية المدينية على الساكنة المحلية التي تفتت أراضيها من جراء نظام الإرث،والتي فقدت شبابها الذي لم يجد أين يعمل،والتي كثر عدد عاطليها...،ومن ثمة لم تجد الساكنة المحلية ما تفعل غير بيع أرضها(للبورجوازية المدينية) والتوجه صوب المدينة..،ثم إن نقطة أخرى يصب فيها النقد الأطفالي،هو الإستغناء عن الشباب المحلي،مقابل الإتيان بعمال خارج نطاق الدوار،من سنغاليين،وبوركينابيين،ومن مناطق متفرقة من المغرب...،فكيف يعقل،وبهذه الغباوة أن يستوطن هذا المعمل المترهل في هذه الأرض،وهو لم يشغل الشباب المحلي؟؟؟!!! هذا هو السياق المتحكم في بلورة النظرة الأطفالية ،والتي عبر عنها أمين،والتي لم تعبر عنها الذهنية الباتريركية –الأبوية المحافظة والمتواطئة مع الإستغلال الرأسمالي،والتي تسكت عنه مقابل أن يسكت عنها،غير أن الشيء الذي فات أمين،ولم يذكره هو أن العمال بصفة عامة غير مستفيدين من الرعاية الإجتماعية والصحية ،ومن حق التظاهر،والإنضمام إلى النقابات العمالية،ومن أجر مناسب يتناسب مع الإرتفاع الصاروخي للأسعار،وما فاته أيضا هو الصراع القانوني المرير الذي لازال حتى الآن بين عدد من العمال،وأرباب المعمل،والذي لم يمنح أي نتيجة تذكر حتى الآن!!! وفي ختام تدخله أبرز أمين مشاكله داخل المدرسة ،لكن هذه المشاكل تتشابه مع التدخلات الأخرى،إلا حكاية طريفة كان مضمونها على الشكل التالي:"واحد النهار، حنا اللي كيسمينا المعلم بالكسالة،ما حفظ تا واحد فينا ،كال اللينا اللي كاليا أنا حمار،غادي نسامحو ومنديرش ليه التحمال(الفلاقة)،كلنا كلنا حنا حمير،واحد فينا كال ليه أنا ضبع".تأسيسا على هذه القولة ،ماذا يمكن أن نستشفه من حكاية أمين؟1-مدرسة قائمة على الحفظ الفقهي المتحجر،وليس الإبداع والنقد2-مدرسة تتسم بالأوصاف التعجيزية-التقتيلية-التلاشية-العدمية (الكسالة) 3-مدرسة تربط تلاميذها بالأشياء السيئة للواقع الكرزازي(الحمار-الضبع)4- مدرسة تقدس المعلم وتعتبره فوق القانون،وفوق المدرسة...(غادي نسامحو)5-مدرسة تعمل على تذنيب التلميذ وعدم تذنيب المعلم (المالك لكل شيء- الصحيح الذي لا يخطىء-الطبيب الذي يبرىء..!!!!)،وهذا ضرب من ضروب التغليط التي تسعى إلى جعل الأستاذ-الفقيه-المدرسة فوق الإنتماء الإيديولوجي والإجتماعي للمجتمع6- مدرسة قائمة على العنف المادي والرمزي7-مدرسة لا يوجد فيها إلا تحيماريت والتضبيع،وإلا ما كانت تقول أنت ضبع ،أنت حمار....ما يمكن أن نخلص إليه من قولة أمين،هو أنه ناقد بارع،رغم أنه يحصل على نقطة "سيئة" في المدرسة،فالمشكلة تكمن في عنصرية وتطفلية المدرسة الهاربة عن الواقع الفعلي،باعتبارها مؤسسة حاملة لإيديولوجية المدينة بمديرها وأستاذها ومفتشها...،وإلا ماكان لأمين أن يفشل وتفشل أسرته ومجتمعه القروي في الخروج من الوضعية الراهنة في سبيل نهضة وتنمية حقيقية-فعلية،إنها وضعية تتحمل مسؤوليتها المدينة،باعتبارها مركز القرار السياسي والإقتصادي،والإجتماعي والثقافي...المسؤول عن تهميش العالم القروي،وتهميش أمين. مريم،تبلغ 9 سنوات من العمر،وتدرس في السنة الثالثة من المرحلة الإبتدائية،تقوم بالأعمال الداخلية والخارجية على حد سواء،فهي تكنس وتطبخ في بعض الأحيان،وتنظف الملابس والملاحف،وتأتي بالماء من البئر والسواقي،وترعى الأبقار والأغنام ،انطلاقا من هذه الأدوار التي تقوم بها مريم، ماهي نظرتها نحو واقعها ؟ قبل الإجابة على هذا السؤال المحوري،ينبغي الإشارة أن رؤية ووجهة نظر مريم لم نقتبسها من تصريحها الكتابي والكلامي بالكامل،فهذه الفتاة الكرزازية هي فتاة رسامة،وتستطيع أن تعبر عن واقعها الأسري والإجتماعي انطلاقا من الرسم،رسم يقوم على التشخيص والتحليل والمساءلة والنقد،فعلى ماذا يتأسس هذا التشخيص وهذا التحليل،وهذه المساءلة،وهذا النقد؟ الإجابة على هذه الأسئلة كامنة في رسومات مريم. من خلال الملاحظة العينية لهذه الرسومات يتضح أنها تتشكل من مجموعة من الأشخاص،وكل شخص له سمته التي يتصف بها،وله موقعه الذي يتموقع فيه داخل الورقة،كما أن هذه الشخوص تدخل فيما بينها ضمن شبكة مكثفة من العلاقات،وهذه العلاقات لا تتوقف على جدلية علاقة الإنسان بالإنسان،بل لا يمكن لهذه الجدلية أن تتأسس إلا في إطار جدلية علاقة الإنسان بالطبيعة،وهذا ينم عن رومانسية وإنسانية وجدلية نظرة هذه الفتاة ،هذه الأشياء تؤكدها كلمة مكتوبة على جانب الورقة تحت مسمى"الحب"،وبجانبها قلب ،وعلى الورقة المحاذية لهذه الورقة ترسم هذه الفتاة امرأة على شكل وردة،وفوقها وردة.وإذا كان هذا هو الإطار العام لهذه الرسومات،ماذا عن مضمونها والخلفيات التي تنطوي عليها في علاقتها بواقعها الفعلي،الذي عبره وعبر ذاتها ساهمت هذه الفتاة في بلورة النظرة الأطفالية داخل المجتمع الكرزازي؟ من أجل الإجابة عن هذا السؤال،نبدأ بتحديد موقع كل شخص داخل الرسومات والصفات التي يتمظهر بها كل شخص. يتواجد في أعلى الصفحة شخص،ويبدو أنه ذكر،ومرسوم بخطوط غليظة بدءا من رأسه ووصولا إلى رجليه،كما يتوفر على رأس صلب،وعيون حادة،ومنقار مقوس يشبه منقار النسر،وصدر متين،وسواعد قوية،يدين مفتولتين،وساقين وفخدين ينمان على المثانة والقوة والعظمة،إضافة إلى النظرة المتغطرسة والمشاكسة والحادة،والقلق الظاهر على وجه هذا الشخص المرسوم،كذلك يظهر من خلال الرسم أن جهازه التناسلي غير مكشوف،لكنه يبدو منتفخا،ورأسه أصلعا زمهريريا،ومستعدا لخوض أية معركة ممكنة وغير ممكنة،أما بالنسبة لرجليه،فيظهر من خلال الرسم أنهما حافيتان وصلبتان متينتان كرجلي محارب سخر حياته لخوض المعارك والحروب،وفي الأخير لم ينل إلا بندقية برصاصة واحدة،وأمامه وخلفه العشرات من الأخطار التي ستحدق به. أسفل هذه الشخصية أو الشخص ترسم مريم شخصية أخرى،وتبدو أنها فتاة،بشعرها الطويل،يتمايل يمنة ويسرة ،وهوحر في حركاته،كما تتوفر هذه الشخصية على عيون مفتوحة يبدو عليها لون البراءة،وعلى فم وأنف قصير،إضافة إلى الساعدين الرقيقين،واليدين الصغيرتين اللتين تشبهان لون الزهور،ولون الفراشات،كما ترتدي هذه الفتاة فستانا قصيرا يصل حد الفخدين ،وترتدي في رجليها "صباط الطالو"،كما ترسم هذه الفتاة،وبشكل ظاهر الجهاز التناسلي الخارجي لهذه الشخصية على شكل مهبل تحيط به مجموعة من الشعيرات ،وعبر هذا المهبل يوجد خط يربط الشخصية ككل بشخصية أخرى توجد أسفلها،غير أنه يوجد بين الشخصية المذكورة والشخصية التي توجد أسفلها مجموعة من الوريدات الملونة والمخططة بإتقان شديد على شكل قلوب متفرقة ومتجمعة يجمع بينهما خط رابط وهذا الخط له بداية ونهاية تجمعهما سمة واحدة وألا وهي سمة الإعوجاج والتفكك،ويدل هذا على جدلية الحياة،حياة التفرق والتجمع،اليأس والفرح،البداية والنهاية الصعبتان مقابل الوسط اليسير الذي يدل علاقة قائمة على المعرفة والتأقلم،مثلا إذا أخذنا علاقة بين شخصين،فالصعوبة تبدأ في البداية،سرعان ماتزول وتصبح العلاقة قائمة على التأقلم،لكن نهاية هذه العلاقة تكون صعبة كالبداية ،هذه هي الرمزية التي أرادت أن تصل إليها هذه الفتاة الكرزازية الرسامة،هذا من جهة،من جهة ثانية،في الجانب الآخر من الورقة ترسم الفتاة قلبا كبيرا،وفي وسطه توقع توقيعا،ويفهم من خلاله أنها مستعدة للتوقيع على الحب،والدليل على ذلك أنها تكتب كلمة حب أسفل القلب ،وفي أعلاه ترسم وريدة تكتب في وسطها حب،وتهدف من خلال ذلك إلى إبراز أن الحب لا يمكن أن يتحقق إلا داخل فضاء الطبيعة والبادية التي تنتمي إليها ،وهنا تتحقق الرومانسية وتتحقق بساطتها والأهداف التي تدافع عنها هذه الفتاة ويدافع عنها المبدأ الرومانسي.أسفل هذه الرسومات نجد شخصية أخرى بشعرها الطويل ،لكنها تبدو ذكورية،لا من حيث اليدين،أو الوجه ،ولا من حيث العضو التناسلي المكشوف(القضيب)،والمربوط بخط طويل مع العضو التناسلي للشخصية المرسومة فوقها،وتبدو هذه الشخصية شابة ووسيمة ،وحافلة بالنشاط والحركية ،والأناقة والجمال والجاذبية،وأسفل الورقة نعثر على شخصية أخرى مرسومة بدقة كبيرة ،ويتضح أنها فتاة،بشعرها الطويل ،وعينيها المفتوحتين بتبصر وعناية نحو الواقع،ووقفتها المعوجة الإستعراضية،وثدييها البارزين ،وفمها النوراني الباعث على الحياة.في الورقة الأخرى يمكن أن نعثر على رسم على شكل خط بدايته معقوفة،وكذلك نهايته معقوفة،ووسطه طويل يتوسطه قلب.وأسفل هذا الرسم هناك شخصية مرسومة على شكل فتاة،وهذه الفتاة يتكون رأسها وصدرها وكافة جسدها من القلوب وتحيط بها وريدات شتى. وإذا كانت هذه الرسومات جميعها تدل على شيء،فإنما تدل على الواقع الفعلي الإجتماعي والنفسي والثقافي والجسدي والإقتصادي لهذه الفتاة الرسامة،فبقدر ما تعكس الرسوم شيئا عن واقع الفتاة ،فإن الفتاة من خلال الرسوم تبرز واقعها الذاتي والإجتماعي كما تعيشه وكما تحياه،وبالفعل،فالشخص المرسوم في أعلى الصفحة وجوده في هذا المكان بالضبط ليس اعتباطيا،بل يحمل دلالة معينة،وهذه الدلالة هي أن الإنسان الذكر هو الذي يوجد في قمة الهرم الإجتماعي في مختلف المؤسسات،أ-كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية،يهيمن عليها الرجل ،ويعمل على إبراز إيديولوجيته الذكورية فيها،وهذه الشرطية لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود رأسمال أو زاد مادي-رمزي،رأسمال يوضحه الرسم الذي حاول قدر الإمكان أن يوضح الصلابة والمثانة وقوة النظرات ،كلها سمات توضح أن الرجل هو مركز وقمة الهرم الإجتماعي،وإذا نزلنا إلى واقع هذه الفتاة ،نجد أن الأب هوالذي يسيطر على المؤسسة الأسرية التي تنتمي إليها الفتاة،سيطرة تتجلى في تقديس شخصيته،ومبادرته في الخطبة وفي الزواج(أم الفتاة) والتزويج(الفتاة)،حق تملك أفراد الأسرة،وتملك المواشي والأرض،وحتى الفتاة هي بنفسها مملوكة من طرف الأب،يملك حق إخراجها من المدرسة،يملك حق ذهابها إلى الرعي،وتنظيف البيت،وقت تزويجها وفق إرادته وليس إرادتها،كما أن الأب يملك حق شرعنة أفعاله وفق ما يتماشى مع مصالحه وطموحاته،إضافة إلى أن أفعاله هي مشرعنة من طرف المجتمع الباتريريكي،وحتى من طرف هذه الفتاة نفسها باعتبارها كائنا مبترركا نتيجة عملية الإستدخال الناجم عن التنشئة الإجتماعية الباتريركية الأبوية التبريرية،وإلا ماكانت تضعه في قمة هرم الرسومات،وإلا ماأعطته القوة الجسدية والنفسية والإجتماعية ،فواضح تماما أن هذه الأمورتولدت واستدمجت داخلها نتيجة التنشئة الإجتماعية الذكورية كما أكدنا من قبل .كما يجب الإشارة أنها ما كانت لترسم هذه الرسومات لو كان الواقع الذي تعيشه مرتاحة له،بل هو واقع يعمل على استعبادها وتشييئها،وهذا هو الدافع وراء رسوماتها ،فالرأس الصلب،واليدان المفتولتان،والساعدان المتينان...،كلها توصيفات تنم عن الشخصية الباتريركية كما هي،ودون نسيان النظرات الحادة- العابسة،من هنا يمكننا أن نقول أن هذه الفتاة توفقت في رسوماتها ،ومن جملة ما توفقت فيه هو رصد واقعها الفعلي كما هو،واقع تؤكده الملاحظة العينية بالتأكيد التالي،أن الفتاة تتعرض بشكل دائم لهجوم متواصل مادي- رمزي من طرف الآلة الباتريريكية،وتقول الفتاة:" ذات مرة تأخرت في الإتيان بالأغنام باكرا ،وكنا نرعاها أنا و أختي،فتوجه الأب نحونا ،فأمسكنا من وسط شعرنا،وصار يتلاعب بنا كالدمى،ونحن نصرخ دون أن يتمكن أحد من إنقاذنا من وحش لا يعرف الرحمة"،هذا هو المخفي وراء الرسومات،التي لا تدل إلا على الموت والقهر والعذاب،عذاب يملأ قمة الصفحة،التي هي تعبير مصغر عن الواقع الإجتماعي،ذلك الواقع المنافي للحياة،الحافل بالموت الإجتماعية،والأمراض الإجتماعية.فرغم أن الفتاة تقوم بخدمة من أجل الأسرة ،ألاوهي رعي الأغنام التي تدل على روح المسؤولية التي يتسم بها الطفل القروي(الكرزازي هنا)،فإن الآلة الباتريركية-الأبوية بماهي آلة تتأسس وتتموجد وتتبنين على العنف ولا تشبع ساديتها المريضة وو جودها الوبائي إلا بالنيل من إنسانية الآخرين ،وخاصة من هم في نظر الباتريركية "أقل درجة منها"،أو ينتمون إلى "الجنس الآخر"،لأن هذه الباتريركية ،و منذ تموجدها تبنينت على الإستعباد والآلية،لا على الإنسانية،بماهي إنسانية مفعمة بالدينامية والحيوية والمشاعر والإحترام المتبادل...،والدليل على الإستعباد أن هذا الأب توجه نحوهما،ودون إذن شرع في تعنيفهما،أليس هذا منتهى الآلية اللاإنسانية التي تغلب العنف على الحوار،والتي تنطلق من آليتها،فتؤليل الأطراف الأخرى(تعطيها بعدا آليا)،فتنزع إنسانيتها سواء في علاقتها بذاتها ،أو علاقتها بالآخرين،وهذا هو جوهر الآلة الباتريركية القائمة على سفك الدماء،وترك الندوب والآثار،وإلا ماكانت آلة،وإلا ماكانت بعيدة عن البعد الإنساني،ولكن كيف تؤليل الباتريركية الأطراف الأخرى(الزوجة-البنت-الإبن) وتتركها بعيدة عن إنسانيتها؟ تؤليلها حينما تمارس الباتريركية الإضطهاد المادي-الرمزي على الأطراف الأخرى ،والقائم على الإقصاء والنبذ،ولكي تحافظ هذه الأطراف على ذاتها من التلاشي،وتبقى"متوازنة" نفسيا-اجتماعيا، تعمل على استدخال العقيدة الباتريركية وتصبح عقيدتها ،فتدافع عنها ،وتعمل على تطبيق مبادئها أكثر من الباتريركية نفسها،هذا هو السر في بعد المجتمع المحلي (الكرزازي) عن السمات الإنسانية في طقوسه وممارساته،ونزوعه نحو التأليل الباتريركي ،وكذلك من خلال هذا التحليل يظهر مدى أهمية تلك الرسومات في توضيح سمات التأليل الباتريركي ،والعمل على نقدها ،وكذلك مدى أهمية تصريحها ،وإذا عدنا إليه(التأليل الباتريركي) فيظهر مدى دلالة إمساك الأب يشعر بنتيه،فالشعر في الثقافة الباتريركية هو"عيب" من "عيوب" المرأة،وما عليها لكي تكون لديها مكانة" داخل هذه الثقافة سوى "تغطيته" لكي لا يظهر،فالباتريركية هنا أرادت نزعه بوحشيتها من أجل إشباع ساديتها،وهذه الطريقة هي آلية من آليات تحقيق وتكريس هيمنتها ،"فنزعه" هو وسيلة لأليلة الأطراف الأخرى من أجل أن تصبح كالدمى ،أجساد بلا حركة،فتور بلا حيوية،آلية بلا إنسانية،خضوع بلا تمرد .وإذا كان هذا هو الواقع الفعلي للمجتمع الكرزازي الباتريركي،فإن النظرة الأطفالية هنا ،والمتمثلة في إبداعات مريم ،باعتبارها فاعلة اجتماعية كرزازية لها وزنها ومكانتها،لم تبق في رسوماتها راكنة لهذا الواقع الذي يعمل على استعبادها،بل وجهت نقدها للزمهرير والعنفوان الباتريركي،فهي رسمت الباتريركية في الصفحة،وكأنها تعاني من التلاشي الإنساني،ولا تختلف عن كائنات آلية تعيش في الطبيعة،تعيش من أجل نزواتها دون تحقيق إنساني لتلك النزوات،صورتها وكأنها عصابية لا تعرف إلا القلق والوحدة والضياع،تعيش في الخوف والرهبة،كما رسمتها تنظر بعيدة عن العلاقات الجنسية الإنسانية التي تخوضها الأطراف الأخرى،مما يدل أنها (الباتريركية ) بعيدة عنها،ورسمت كذلك الباتريركية بعيون صغيرة مما يدل على العماء والسطحية والإرتجال واللاتنظيم الذي يعتري الباتريركية باعتبارها مرضا من الأمراض الإجتماعية الخطيرة.بينما نجد أسفل الورقة،يمكن أن نعثر عبر هذه الفتاة الرسامة الكرزازية المبدعة والناقدة والمحللة والواعية بمشاكلها ،وبمشاكل الباتريركية عدو الإنسانية الأول عن حلمها الذي تسعى إلى تحقيقه يوما ما كبديل للوضعية المزرية التي تعيشه،ويعيشه كل ما هو إنساني في عالم جعل غير إنساني،إنها تحلم أن تعيش كإنسان يعيش إنسانيته،من كرامة وحرية،وعدالة ومساواة،وجنس،تريد أن تكون ذاتا تملك ذاتها،لا أن يملكها طرف آخر،تريد أن تربط علاقة جنسية إنسانية مع إنسان إنساني،يتخذ من العدالة والمساواة والحب كمنطلق لتحقيق تلك الإنسانية،ولا يتحقق إلا بها،وتريد كذلك تجاوز النظرات الهادفة إلى تذنيب الجنس،وتذنيب المرأة ،وتذنيب الرجل الإنساني المساواتي الرومانسي،فالإيمان بالجنس نظرا وممارسة هو ما يعطي للإنسان إنسانيته،ووجوده الطبيعي في الحياة،وإلا يمكننا أن نتحول إلى كائنات متأليلة-فلكلورية،تعيش في شقاء دون إنسانية ،تعيش في عدم دون إنسانية،تفضل إرادة العدم على عدم إرادة أي شيء،تلك هي سمة التي أرادت أن توصلها لنا مريم ،ونحن حاولنا فهمها قدر الإمكان عن رؤيتها للواقع الذي تعيشه وتحياه،واقع حللته لتنتقده،وتتصور انطلاقا من هذا الواقع واقعا معبرا وإنسانيا ينم عن الحياة والإنسانية.
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مامعنى الإنفعال؟- فريدريك نيتشه- تعريب:عبد الله عنتار
-
عظمة الإنسان - بليز باسكال-تعريب:عبد الله عنتار
-
النظرة الأطفالية في المجتمع الكرزازي:(تعبير عن الوجود و مواق
...
-
دوارنا بين الماضي والحاضر٬ رصد لموارده الطبيعية والبشر
...
-
أرضي-حياتي
-
دراسة وصفية:الفضاء العام (الحديقة العمومية-نموذجا)-حديقة الح
...
-
عنفوان تحت الرماد
-
متى تنهض المرأة الكرزازية؟*
-
آيروستي
-
الإسلام و قيود التاريخ(1)
-
سقطت الكفاءة وانتصرت الإنتهازية والتملقية
-
مدينة خضراء التي قيل أنها مدينة خضراء؟!!!!
-
الثورة المنسية
-
أية تنشئة نريدها لمغرب اليوم؟
-
نقد الإنتخابات المحلية(1)
-
دور الجنس في تغيير الشروط الإجتماعية
-
قراءة في الإنتخابات المغربية
-
القانون في المجتمع المحلي!(1)
-
البذرة المسوسة
-
الروائح الكريهة تجوب الأطراف والسلطات المحلية تغط في السهاد
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|