|
تنمية الشعور بالمواطنة
صادق الازرقي
الحوار المتمدن-العدد: 3459 - 2011 / 8 / 17 - 07:47
المحور:
المجتمع المدني
لابد لنا في البداية أن نعرج على التعرف على مفهوم المجتمع المدني، اذ انه وبرغم زوايا النظر المتعددة التي من الممكن ان نبصر بها عند محاولة الإحاطة بذلك المفهوم فان ثمة مشتركات تولدت لدى المعنيين يمكن أن يستندوا اليها للولوج الى محاولة تعريفه، وهم الآن يجمعون على ان المجتمع المدني هو ليس المجتمع السياسي كما ورد في بدايات ظهور المفهوم بل انه العمل التطوعي في مجالات مجتمعية شتى تضم طائفة واسعة من الأنشطة منها النوادي الرياضية وجمعيات حقوق الانسان وجمعيات الرفق بالحيوان ومنظمات الدفاع عن حقوق المرأة وغيرها من النشاطات، اذ لا يكتفي الإنسان بالبحث عن لقمة عيشه والنزوع الى تلبية متطلبات حياته وأسرته بل على كثير من الناس أن يكونوا مستعدين للتطوع لإفادة الآخرين في شتى ضروب حياتهم لتحقيق الألفة في المجتمع التي تليق بإنسانية بني البشر وتمنح مغزى لوجودهم وحياتهم، وتلك من أبرز الحوافز التي تديم نسغ الحياة في المجتمعات البشرية وتوجهها بما يخدم الناس وينمي روحهم الانسانية التضامنية وهي مغزى وجودهم واساس رقي البلدان وتطورها. ولقد التفتت الشعوب في البلدان المتحضرة ـ وحتى الحكومات ـ و لاسيما في أوروبا وأميركا الى أهمية تلك العوامل والمحفزات ونظمتها في توجهات أخذت شكل اتحادات تطوعية إنسانية تشمل ألوان الحياة كافة وذلك هو سرّ رقي تلك المجتمعات وتطورها المتواصل. لقد عانينا نحن في العراق طيلة عقود من الغياب التام لمنظمات المجتمع المدني بفعل سيادة الممارسات القمعية من قبل الأنظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على حكم البلد إذ أدّت سياسات القمع والحروب والحرمان الى تركز اهتمامات المواطن العراقي في البحث عن النجاة من الموت وعلى تأمين لقمة عيش أسرته التي كان يحصل عليها بشق الأنفس. وإثر سقوط النظام المباد في نيسان 2003 أصبحت الساحة مهيأة للولوج في مضمار العمل التطوعي للتضامن مع الهموم الإنسانية والاتحاد معها بفعل نشوء أجواء جديدة تمثلت في بروز وجهي الممارسة الديمقراطية الأبرز، أي حرية التعبير والتداول السلمي للسلطة، وكان يفترض أن ينمو المجتمع العراقي بعد التغيير نمواً طبيعياً، الا ان الامور سرعان ما نكصت وسارت بعكس ما يتمناه المواطن، اذ حاولت جهات متطرفة حرف الامور باتجاه اشاعة لغة العنف والاحتكام الى السلاح وفرض الرقابة من جديد على الرأي الآخر وعدم السماح بالنمو السليم للمجتمع. وترافق ذلك مع بروز العمليات الإرهابية شبه اليومية التي جعلت المواطن يضع مرة أخرى الأمن وسلامته الشخصية في سلم اولوياته فانحسرت الاعمال المرتبطة بالمشتركات الانسانية وما يتعلق بها من نشوء اتحادات تطوعية. الا ان كل ذلك لم يمنع من بروز الاصوات والنشاطات الساعية الى استعادة اللحمة الانسانية التي هي سر بقاء المجتمع ورقيه، فانبثقت كثير من منظمات المجتمع المدني التي عملت على استعادة الروح للمجتمع العراقي التي حاولت لغة العنف والكره والحقد تغييبها واستبدالها بروح الانكسار والاستسلام والخضوع ليتسنى لبعض الجهات الايغال في استغلالها لمنفعتها و إدامة فسادها. لقد ظهرت المنتديات الثقافية ومنتديات الحوار الثقافي كأبرز واجهة لمنظمات المجتمع المدني انطلاقا من ان تلك التجمعات عبرت التصنيفات الدينية والطائفية والقومية ـ ويفترض بها ذلك ـ لأنها تحتوي الهم الانساني بأبهى صوره المتمثلة بالتماهي مع الابداع الثقافي شعرا ورواية وقصة و ابحاثاً ثقافية وغيرها من صنوف المنتجات الابداعية. وفي الحقيقة فان المجتمع العراقي الذي يحاول الانعتاق من همومه واحزانه احوج ما يكون الى منظمات المجتمع المدني التي تعنى بالثقافة من دون غيرها اذ ان إثارة الاهتمام بالجوانب الادبية والثقافية في حياة الناس يحقق أمرين رئيسين أولهما شحذ الشعور الانساني لدى المتلقي والمواطن وهو ما بنا حاجة اليه ولاسيما في الاوقات الحالية التي نسعى الى اجتيازها بعد سيادة المظاهر السلبية في الروح العراقية التي هي في اصلها روح انسانية محبة وعطوفة الا ان الانظمة السياسية التي حكمت البلد طيلة عقود اماتتها واستبدلتها بتنمية مظاهر حب الانا والانتقام والكره وعززتها بتكريس لغة العنف والاحتكام الى السلاح؛ والأمر الثاني الذي تحققه إشاعة الثقافة ـ وكذلك طبعاً الرياضة والفن وغيرها من النشاطات الانسانية ـ هو معالجة جروحنا التي حاول البعض اثارتها عن طريق النقر على الوتر الديني والطائفي وهو ما يجب ان ننأى عنه اذ ان الشعور الديني هو امر فردي يتعلق بعلاقة الانسان بربه ومن المجحف والظلم اقحامه في امور هي من صلب الهم الانساني المعاصر ومنها السياسة وضروب النشاط البشري الاخرى. وبرأيي، فان انتشار منظمات المجتمع المدني التي تحتفي بالثقافة والفن والرياضة وغيرها من النشاطات الانسانية والاكثار من أعدادها ورعايتها من قبل المجتمع والدولة يؤدي قطعاً الى تحقيق قفزة نوعية في حياة المجتمع العراقي والارتقاء بحياة افراده، فالندوات التي تقيمها تلك المنتديات تنمي في الانسان الشعور الحقيقي بالمواطنة التي فشل السياسيون في اذكائها كما انها تكرس فيهم الهم الانساني بعيداً عن الاستقطابات السياسية والدينية والقومية والطبقية وتمهد السبيل الى نشوء انسان يحفل بالإنسان الآخر ويتطلع لمشاركته في همومه ويسعى لوضع حلول لمشكلات اخيه الانسان اذ ان قيمة الانسان الحقيقية لا تكتفي بالسعي لتحقيق المنافع المعيشية للفرد والاسرة، بل يجب ان تتعداها الى التضامن الانساني الاوسع وهو سر نمو المجتمعات ورقيها وان ذلك يتطلب انشاء منظمات مجتمع مدني مهنية وفاعلة في شتى صور الحياة وتبرز الثقافة كمفصل حيوي فيها. وعودة على بدء نقول، ان تفعيل وانبثاق منظمات المجتمع المدني في العراق يشكل قضية في منتهى الحيوية يستحيل بناء المجتمع والانسان من دون تفعيلها. وتأتي منظمات المجتمع المدني المهتمة بالثقافة والحوار الثقافي في سلم اولوياتنا و لاسيما في المدن التي تمتاز بكثافتها السكانية العالية، اذ ان تفعيل لغة الحوار الثقافي والقاء الضوء عن طريق التواصل الاجتماعي والندوات على جميع مظاهر الحياة في المجتمع وخلق النقاشات البناءة ينمي في روح الانسان شعورا جمعيا محببا ويدفعه للتفكير بالآخرين وهمومهم.. هكذا تجاوزت البلدان المتحضرة تخلفها وانتقلت بمجتمعاتها من الوحشية الى الرقي الانساني وهذا ما يجب ان نسعى اليه لتجاوز المحن التي ادخلتنا في بوتقتها اخطاء السياسة وفشل السياسيين وهو ما يجب ان تعالجه الاهتمامات الانسانية المشتركة العابرة للسمات الفردية وفي طليعتها الثقافة التي هي مشترك وطني وارث انساني، فحينما نتحدث عن بدر شاكر السياب وابداعه مثلاً، لن نفكر قطعا بدينه او قوميته او غيرها من المسميات الخاصة بالفرد، بل ان ابداعه ومنجزه الانساني هو الذي يطغى و يثير فينا فضول المعرفة ورونقها، وما يصح في هذا أنموذج السياب يصح ايضا على جميع صور النشاط الثقافي الانساني الذي يراكم المشاعر الانسانية الدائمة ويشحذ مشاعر محبة الآخرين ويرتقي بالوطن وينميه ويخلق شعبا متحضرا مرفهاً سعيداً.
#صادق_الازرقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثلاث صفقات تجارية فاسدة في عشرة ايام!
-
آلية غير منصفة لتنفيذ القرارات
-
سلف المالية وعود من دون إجراءات
-
الكهرباء في قبضة الاحتيال
-
(الفاو) و (مبارك) في خضم سباق المصالح
-
لنغتنم فرص الارتقاء بالبلد
-
التسويف في ترشيق الوزارات
-
نزاهة الزعيم
-
الحلقات المفرغة للوضع العراقي
-
من ينصف الأرامل في يومهن؟!
-
محاولات حرف مسار التنافس السياسي
-
من يتجشم المسؤولية بعد عناء الايام المائة؟
-
حق التظاهر السلمي مكفول و مصون
-
تسليح الجيش العراقي .. بين رغبات الجوار وضيق أفق السياسيين
-
اللاجئون العراقيون.. طموحات العودة وخذلان المسؤولين
-
الوحدة الوطنية ومأزق الوصول الى دولة الرخاء
-
مركب الوزارات المخروم في لجة الأيام المائة
-
البحث عن فسحة للفرح
-
أحلام المواطن المشروعة وسبات النواب المزمن
-
الإزاحات العكسية في أنماط الحياة العراقية
المزيد.....
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا روسيا بشأن مكافحة ت
...
-
أثار غضبا في مصر.. أكاديمية تابعة للجامعة العربية تعلق على ر
...
-
السويد تعد مشروعا يشدد القيود على طالبي اللجوء
-
الأمم المتحدة:-إسرائيل-لا تزال ترفض جهود توصيل المساعدات لشم
...
-
المغرب وتونس والجزائر تصوت على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام وليبي
...
-
عراقجي يبحث مع ممثل امين عام الامم المتحدة محمد الحسان اوضاع
...
-
مفوضية اللاجئين: من المتوقع عودة مليون سوري إلى بلادهم في ال
...
-
مندوب ايران بالامم المتحدة: مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري
...
-
مندوب ايران بالامم المتحدة: نطالب بانهاء الاحتلال للاراضي ال
...
-
جدل في لبنان حول منشورات تنتقد قناة محلية وتساؤلات عن حرية ا
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|