|
ذهنية -خراسان- وأصولية السياسة
محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 3458 - 2011 / 8 / 16 - 20:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لاشك أننا أمام حالة من التطرف ذهب إلى حد القطيعة والاحتراب مع كل ما هو عقلانى وحداثى وعصرى، وهو تطرف يحاول أن يرد كل جديد فى العلم والمعرفة إلى قديم فى النص والعصر والتراث، وهذا ضد قانون الطبيعة وضد مسارات العقل وتطور المعارف الإنسانية. كان يتحدث فى جدية بادية وكنت أتابعه فى دهشة وترقب، أخذتنى رجفة بينما هو يقرر أننا نعيش عالم الحقائق المطلقة وأنه لا جديد تحت الشمس فقد أسفرت مستجدات عصرنا عن كل خبيىء فى باطن الدنيا حتى أضحت كتاباً مقروءاً لا ينبىء عن جديد ولا يبعث على المفاجأة والدهشة. وكانت هذه هى المفاجأة، إذ هو واحد من المثقفين الذين تقرأ لهم وتراهم عبر الشاشة الفضية وحوارات الفضائيات وعبثية الندوات التى أضحت مسخاً معادا مكروراً بلا معنى ولا دلالة. كنت أتابع ما يقوله عبر الشاشة الصغيرة وهو يردنا إلى "جادة العقل والصواب" كما يقول ويدعى، بأن نطلق الدنيا ونعمل للآخرة ويحثنا على رفض المبادئ الدستورية والدولة المدنية وحقوق المواطنة والحريات العامة وحقوق الإنسان فكلها من صنع الغرب وفيها تقليد للكفار ومجتمعاتهم المتسيبة، وهو يدعونا للتمسك بتراث السلف الصالح وعصر الفتوحات!! يااللهّ! هذا نموذج جديد عن الهندسة العكسية لكن فى مجال الأفكار والثقافة والعلوم والبشر. بالهندسة العكسية يمكنك أن تحاكى ما قدمه الغرب المتقدم من منتجات تكنولوجية وحداثية، تفكك المنتج إلى أجزاءه البسيطة لتفهم وتتعلم ثم تعيد تصنيع هذه الأجزاء وتركيبها، هكذا فعلت الصين واليابان وكوريا فى كثير من المنتجات الصناعية لعصر الحداثة الغربية. هذا فى عالم التكنولوجيا أما فى عالم الأفكار فالتفكيكية مدرسة فلسفية رائدها "جاك دريدا" فيلسوف فرنسى نظر إلى الفلسفة الإنسانية والثقافة بإعتبارها نصوص أدبية أو فكرية، فالقصة والقصيدة واللوحة والكتاب والمعمار والخيال جميعها نصوص لا يمكن الوصول إلى فهم متكامل لها إلا إذا قمنا بتفكيكها وردها إلى أجزاء أصغر، ثم نعمد بعد ذلك إلى تركيب أفكارها بالكيفية التى تشكل لها مفهوماً متماسكاً يثبت أمام النقد والعقل ومحاولات الإدراك. التفكيكية فى أساسها لا تقبل التعريف والأصول والقواعد وهى تعمل على زعزعة الأسس الميتافيزيقية لكل ما هو ثابت أو مطلق. التفكيكية عند جاك دريدا فكرة شرسة وهى أداة تهاجم الفلسفة والأدب والحضارة وبالتالى هى تهاجم نفسها بإعتبارها نصاً من النصوص، وكونها محاورة سردية جدلية تعمل على زعزعة الثابت والمطلق بما فى ذلك الإيمان والدين والعقيدة، هنا تأتى المفاجأة إذ صاحبنا الذى بدأ رحلته من المادية الجدلية والعلمانية ردته صدمة الرجعية الفكرية التى نعيشها إلى حاكمية السلف، فبدا رغم اتساق هندامه مفارقا لمعنى العقل والوعى، وبدى خلف بدلته الإيطالية الأنيقة ذلك الجلباب الأبيض القصير، لباس أبو الأعلى المودودى بفكره المأزوم عن إسلام الحدود والقيود والجمود والصدام والتطرف حيث هجمة الوهابية التى تحاول اقتلاع صحيح الدين والوطن وتصفى الثورة وتركن إلى الجمود والتخلف وبما يحقق مصالح أعداء الاسلام والوطن والأمة، وفى مثل هذه الأجواء يختلط على الناس من يقتدى بالسلف الصالح وصحيح الدين وبين من ركب الموجة عن حسن نية أو براءة فكر أو سطحية تلقى واعتناق أوغاية أخرى فذهب يرفع أعلام السعودية فى قلب القاهرة ويرفض الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
هى إذن رحلة الإرتداد من الأرحب والأوسع إلى الأضيق والمحدود، من فضاءات العلم والفكر والمعرفة إلى قوالب التراث والتاريخ والمعلقات وحروب داحس والغبراء وبديع النص ومحسنات اللغة وجمود التناول وضيق الأفق، فاصطدم بنفسه مع نفسه، وهى ليست مشكلته وحده إنما هى عقدة الكثيرين من المتثاقفين حين حاولوا مجاراة مفردات استدعاء الماضى والإحتكام إليه، وهى أزمة حياتنا المصرية بين فائض التدين الشكلى وقلة الدين الفعلى. أقول إصطدم صاحبنا بنفسه وانقلب على نفسه، فمن حيث أراد الهندسة العكسية والتفكيكية وقع فى مصيدة أكبر من إستيعاب عقله الذى ارتد إلى أجزاء متناثرة وقفت عند أبواب الفتوحات والتاريخ وآداب العصر الجاهلى، فلم يعى أن التفكيكية فكرة ضد الدين والعقيدة والنص المقدس ذاته. التفكيكية إطار فلسفى يهدف تعميق إدراكنا للواقع وفهمه، وهى أداة تحليلية ترد كل فكرة ونص وشىء إلى ما هو دونه أو أصغر منه حتى تصل إلى أساسها المادى، وهى لا تسلم كثيراً بالغيبى والسلفى وما وراء الطبيعة، وهذا بالضرورة غير ما أراده صاحبنا حين رفع عقيرته بالصياح عبر الشاشة الصغيرة، ساعتها ربما دار فى ذهنه خلط من نوع آخر، حيث التفكيكية الأصولية منهج معرفى تبلور فى الحوزة العلمية فى" خراسان" فى القرن الرابع عشر الهجرى وهى تهدف الى الفرز والفصل فى اللغة حيث تؤكد على مسالك معرفية ثلاثة: المسلك القرآنى، والمسلك العرفانى، والمسلك الفلسفى أو كما أسس لها طائفة من الأعلام، منهم محمد رضا حكيمى، والميرزا مهدى الأصفهانى ومجتبى القزوينى وغيرهم. هذا الخلط فى المفاهيم والأفكار والرؤى يشكل عالمنا العربى اليوم فنعيش عالم الأوهام لا الأفهام، عالم النقل لا العقل، وهى قصة قديمة جديدة فيها من التباس المبنى والمعنى أكثر مما فيها من إستقامة الفكرة والرؤية. ربما استبد بك الشوق وكابدك الفضول لتعرف اسمه ومن يكون؟ لكننى أصارحك بأنه ليس شخصاً محدداً بل هو كيان قائم الآن بيننا، شاهد على تخلف أفكارنا وسلفيتها وإرتدادها واحتكامها لحقائق هو يدعى إطلاقها وثباتها، فوقف بفكره عند عصرها وخاصم بها عصره وخرج عليه، فانقطع عليه السبيل نحو مستقبل تنشده البشرية فى تقدم وحداثة، وقف يحتكم للماضى ونسى أن أهم ما يميز الفكر الإسلامى هو قدرته على التجدد إذا احتكمت لمفاهيمه ومقاصده ومراميه، أما هو فقد آثر الوقوف عند حدود النص وحرفيته، فضاعت منه الدنيا التى خلق ليعمرها وتذبذب فى ذهنه مفهوم الدين وتشوهت مقاصده. وهنا يتجلى الخلط الذى ساد حياتنا الثقافية وفضاءنا العام، فباستثناء الخالق جل وعلا، فكل الحقائق فى هذا الكون نسبية لا مطلق فيها إلا حقيقة واحدة مفادها ألا هناك حقيقة مطلقة، فالحقيقة هى واقع محدد المكان معين الزمان وما عداه هو واقع آخر له مواصفاته وصوره وكياناته، الواقع متغير والحقيقة غير ثابتة، وهذا هو مناط العلم ودرسه المستفاد، فلا الكون توقف عن البوح باسراره ولا الطبيعة والحياة الدنيا أضحت كتاباً مفتوحاً لا يقدم جديداً ولا يشى بحديث. الكون ما زال يكتنفه غموض يستحث الفكر والجهد ويستأهل الكشف والعلم والبحث والتجريب. أما هذا الخلط فهو سبب ذلك التطرف الذى لا يهدد مفاهيم المواطنة والسلام الإجتماعى فحسب وإنما هو تطرف يذهب إلى حد القطيعة والاحتراب مع كل ما هو عقلانى وحداثى وعصرى، وهو يحاول أن يرد كل جديد فى العلم والمعرفة إلى قديم فى النص والعصر والتراث، وهذا ضد قانون الطبيعة وضد مسارات العقل وتطور المعارف الإنسانية، هو ضد "ديالكتيك" الفكر أوجدلية عناصره ومكوناته وعطاياه، وهو ما يذهب حتى بالمعارضة السياسية المستنيرة إلى الوقوف فى معسكر الأصولية التى تعادى كل المستجدات وتكفر بنواتجها، وجميعها دليل على ضبابية الرؤية وعتمة العقل والتباس المعارف وحلكة الأفكار. نحن نعيش أصولية فى الفكر والدين والسياسة وبدائية فى التفكير وتناول سطحى لفقه الأولويات، ناهيك عن التباس الرؤية وتغييب الوعى بقصد توظيف المطلق والدينى والمقدس لخدمة النسبى والدنيوى والطارئ، وكأننا نصر على مخاصمة العصر ومعاداة العلم وتجاوز العقل فنتوقف عند شكلانية الدين وتصحره وبداوته بينما قيم الدين الحنيف لاترفض التجديد ولا تجافى أسس التحديث والمعاصرة بل هى تدفعنا للتقدم والنهضة، شريطة ألا تحكمنا ذهنية خراسان فى الدين أوالسياسة.
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أقروا الماجنا كارتا وخذوا كل المقاعد
-
إنتاج وإدارة المعرفة
-
»فصل المقال فيما يكتب عن الدستور أو يقال
-
ضرورات الثورة ومحاذير الفوضي
-
الكومبرادور يحاول إغتيال الثوره
-
إستراتيچيات المشروع العلمي للثورة
-
الزمن ما بين نيوتن وجويدة
-
عن الثورة وجمال عبد الناصر
-
من الثورة إلى النهضة..كيف؟
-
إنتروبيا العلم والسياسة
-
التعليم واقتصاد المعرفة
-
العلم شفرة النهضة ورهانها
-
براءة الثورة ودهاء السياسة - المجلس العسكري والثورة مابين مط
...
-
ثورة تبحث عن مؤلف .. (علي المجلس العسكري أن يتحمل مسئولياته
...
-
-جمعة كشف المستور والبث التجريبي لدولة الخلافة-..
...
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|