|
إنتاج وإدارة المعرفة
محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 3456 - 2011 / 8 / 14 - 19:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تسألني، هل المسافة كبيرة بيننا وبين مجتمعات التقدم واقتصاد المعرفة؟ وأقول لك: هي نفس المسافة بين شكلانية الإعلان عندنا وتفاهته وبين موضوعيته عندهم وعقلانيته، هي ليست مسافة زمن وإمكانات وقدرات، هي فارق التوقيت والفكر والتخطيط والإدارة وتوظيف الكفاءات، فبينما نعلن في بلادنا المحروسة بالرقص والطبل والأغاني عن السيارات والغسالات والحلاوة والمربات والضرائب والسمن والمنظفات، فإن الكثير من الشركات العالمية تعلن عن منتجاتها من الأجهزة والمعدات تحت عنوان "نحن نبني المعرفة"، وربما هذا هو جوهر الفارق بيننا.
علي الغلاف الداخلي لمجلة "فورتشن" الأمريكية كانت هناك عبارة تقول "سوف تصلح المجلة بالمعرفة ما أفسدته الخمر في العقول"، أما شركة فورد العالمية للسيارات فقد تصدرت إعلاناتها سيارة فاخرة كتب تحتها "إركب أفكاراً جديدة ذ مفهوم جديد للقيادة"، وتعلن شركة إيلي ليلي عن الأدوية التي تنتجها تحت عنوان "المعرفة دواء فعال"، أما شركات تكنولوجيا المعلومات مثل IBM وميكروسوفت والتي شهدت تراجعاً في هيمنتها علي سوق اللاب توب فقد نصحها خبراء إدارة المعرفة باقتحام مجال بيع الأصول المعرفية مثل النظم المعلوماتية المتكاملة، الاستشارات، الصيانة، وتصميم الشبكات، حيث هذه المنتجات والخدمات المعرفية تمثل فرصتها للخروج من أزمتها الاقتصادية. وبعد أن طبقت IBM
هذه النصيحة صرح "لويس جرستنر" الرئيس التنفيذي للشركة في سياق إعلانه عن تحقيق نتائج جيدة " إن ما يحرك السوق بصورة متزايدة هو الخدمات العلمية والحلول المعرفية وليس المنتجات التكنولوجية وحدها، وتلك هي استراتيجيتنا الجديدة في إدارة المعرفة".
وهكذا فالمعرفة يمكن أن تباع بشكل ظاهر وصريح كمنتج أو سلعة، ويمكن تضمينها في قدرات مبدعة تقدم خدمات مهنية في الطب والهندسة والعمارة والاستشارات وحتي في مهارة ميكانيكا إصلاح السيارات. ولا أحسبك في حاجة لمزيد من الشرح والتوضيح، إذا ما قلت لك إن نواتج المعرفة هي كل مانشتريه ونبيعه ونستعمله، فقط عليك أن تعيد النظر إلي جدول حياتك اليومية وما تفعله منذ مغادرة فراشك في الصباح، بداية من تحميص خبزك وتشغيل الكوفي ماشين لتجهيز القهوة ومراجعة رسائل ال SMS علي الموبايل، ومشاهدة أهم الأخبار في الفضائيات أوتصفح جريدتك المفضلة علي الإنترنت، ثم ركوب سيارتك بعد أن تفتح أبوابها من ضغطة علي مفتاحها المشفر، وتشغيل جهاز ال MP3 "مشغل الأقراص المدمجة"، وصولاً إلي مكتبك ومتابعة بريدك الإلكتروني، وكتابة "الستاتيو" علي الفيس بوك، وربما متابعة لفيلم وثائقي أو دعائي يخص عملك علي اليوتيوب، أو رسالة قصيرة علي التويتر، وغيرها من مستحدثات العلم والتكنولوجيا كالصراف الإلكتروني والفيزا كارد وكل معطيات الأتمتة Automation
التي ملأت حياتنا، وهي كما تري جميعها نواتج الإبداع والإختراع والإبتكار والبحث العلمي وتكنولوجياته المبهرة، إنها المعرفة.
والمعرفة ياصديقي مثل ملابس النساء، يمكن أن تكون بسيطة أومتكلفة، محتشمة أو متبرجة، ضيقة أو فضفاضة، وإدارة المعرفة أشبه ماتكون " بالمقصدار" المحترف والذي يستطيع أن يختار الثوب المناسب لكل مقاس ولكل مناسبة. وإدارة المعرفة ليست هي الخطوة الأولي نحو إدارة مؤسسة علمية ناجحة، بل هي الأخيرة. فالإدارة الجيدة لاستراتيجية سيئة أو غير موجودة فكرة عبثية، إذ لا جدوي في مجال المعرفة من إدارة مؤسسة ليس لديها عمل تقوم به أو عمل لم تقم بتعريفه وتوصيفه وتحديد أهدافه بشكل جيد، وربما هذه هي أكبر تحدياتنا ومشكلاتنا في مؤسسات التعليم والبحث العلمي.
يتفق معنا في هذا زميل هارفارد " توماس ستيوارت"، الذي يضيف أن إدارة المعرفة كانت هي الأساس الذي بنت عليه الشركات والمؤسسات الدولية نجاحاتها في ظل الاقتصاد العالمي الجديد، إقتصاد المعرفة، حيث قامت ببناء قواعد بيانات، وتنمية وتطوير رأس المال الفكري للمؤسسات، وبناء شبكات معلومات داخلية، وقيادة برامج تدريبية وتغيير النمط الثقافي للعاملين والمؤسسات، وإنشاء منظمات إفتراضية ومجموعات عمل وقوي تنظيمية في إطار الآليات الحديثة في الإدارة، من جودة شاملة وإعادة الهندسة، ووضع برامج تنفيذية لمخططات استراتيجية.
والاستراتيجية في الاصطلاح العسكري هي أهداف بعيدة، ومخططات قريبة، وتكتيكات حالة وطارئة، تهدف بالأساس إلي التغلب علي الخصوم والمنافسين، وهي شكل من أشكال صراع الإرادة ووسيلة فاعلة لتحقيق أهداف ومصالح وطنية عجزت السياسية عن تحقيقها، أما استراتيجيات إنتاج وإدارة المعرفة فهي شئ مختلف يصنع التميز كما يصنع القيمة، وهي ميزة تنافسية مضطردة ومتجددة، تحمل قوة الدفع الذاتي بالإبداع والتجديد والتنظيم والابتكار.
وكما يقول " بيتر دراكر" مؤسس علم إدارة المعرفة، إن التخطيط الاستراتيجي ليس بصندوق مليء بالحيل أو مجموعة من الأساليب الفنية، إنه تفكير تحليلي والتزام بتفعيل كل الموارد والكفاءات، وهو تطبيق للفكر والتحليل والخيال والقرار السليم. إنه مسئولية وليس أسلوبا فنيا. التخطيط الاستراتيجي ليس تنبؤاً ولا عقلاً مسيطراً علي المستقبل، ونحن لانصدق إلا ما ننجزه من عمل وما نؤديه من مهام، والاستراتيجيات التي غالباً ما تنجح هي التي تضع في اعتبارها المشكلات والتحديات والفرص، وتعتمد علي أفكار ووسائل غير تقليدية تقوم علي الإبداع والابتكار، فتحرز التقدم وتساعد علي التحرك نحو شيء جديد تتبناه وتقدمه. في ظل اقتصاد المعرفة ذلك الغول الذي ابتلع السوق والبيئة ونواتج البحث والعلم والناس وتقيأهم سلعاً ومنتجات تكنولوجيا وحداثة، تعمل استراتيجيات إنتاج وإدارة المعرفة علي محورين، أحدهما إشباع السوق Market Satisfaction وإرضاء تطلعاته بضخ تكنولوجيات جديدة لم تكن معروفة من قبل، قام البحث العلمي علي ابتكارها وإنتاجها وخلق طلب متنامي عليها. مثال ذلك التليفون المحمول وأجيال تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. المحور الثاني هو سد احتياجات السوق وتلبية متطلباته Market Driven
من منتجات أساسية وسلع معمرة ووسائل حياتية يتزايد الطلب عليها، فتقوم الصناعة بتمويل البحث العلمي من أجل تطويرها أوابتكارها وإنتاجها.
في دراسة أجراها معهد ماكينزي عن الأمم الصناعية أوضحت بصورة قاطعة أن إنتاج العمال الأمريكيين يزيد عن انتاج العمال الألمان والفرنسيين بحوالي20٪? ويزيد علي انتاج العمال البريطانيين بأكثر من30٪? و ويزيد علي انتاج العمال اليابانيين بأكثر من 40٪ . وكما يقول خبير الإدارة العلمية الأمريكي "روبرت ووترمان"، فقد بلغت الدهشة بالباحثين في معهد ماكينزي العالمي من هذه النتائج حداً جعلهم يريدون معرفة السبب، فأجروا دراساتهم بمساعدة "روبرت سولو" من معهد مساتشوستس للتكنولوجيا والحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد 1987 حيث توصلوا إلي أنه لايمكن إرجاع التفوق الأمريكي إلي الفروق في التكنولوجيا، أو اتساع السوق، أو عمليات الإنتاج الاقتصادية الكبري، أو كثافة وتركيز رأس المال، أو مهارة العاملين، فهذه العوامل واحدة بصورة أو بأخري في الأمم الصناعية الكبري، وإذا ماكانت هناك فروق فعلية فهي سرعان ما تتوازن، لأن رأس المال والتكنولوجيا والأفكار تنساب هذه الأيام بكل يسر وبساطة عبر الحدود بين الدول. وقد انتهي الباحثون إلي استنتاج أن السبب الرئيس وراء تفوق أمريكا علي الآخرين يكمن في الإدارة الرشيدة للمعرفة واستراتيجياتها التنافسية التي تعمل في ظل عدد أقل من اللوائح الحكومية، وقدر أكبر من الكفاءة والمرونة في طريقة إدارة الشركات والعاملين في الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا عزيزي القارئ أحسبني أجبت فأسهبت، وأعدت عليك ماسبق أن قلت وكتبت، فأوجزت: تري هل يمكن لمنظومة التعليم والبحث العلمي في بلادنا، بإدارتها وجامعاتها ومؤسساتها، تدارك فروق التوقيت وتجاوز مسافة الرقص والزمر والغناء وركاكة الإعلان، وصولاً لمجتمع إنتاج وإدارة المعرفة قبل فوات الأوان؟ هذا هو التحدي والسؤال.
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
»فصل المقال فيما يكتب عن الدستور أو يقال
-
ضرورات الثورة ومحاذير الفوضي
-
الكومبرادور يحاول إغتيال الثوره
-
إستراتيچيات المشروع العلمي للثورة
-
الزمن ما بين نيوتن وجويدة
-
عن الثورة وجمال عبد الناصر
-
من الثورة إلى النهضة..كيف؟
-
إنتروبيا العلم والسياسة
-
التعليم واقتصاد المعرفة
-
العلم شفرة النهضة ورهانها
-
براءة الثورة ودهاء السياسة - المجلس العسكري والثورة مابين مط
...
-
ثورة تبحث عن مؤلف .. (علي المجلس العسكري أن يتحمل مسئولياته
...
-
-جمعة كشف المستور والبث التجريبي لدولة الخلافة-..
...
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|