أخبار الشرق - 26 آب 2002
لطالما تساءلت: من يعني الأستاذ محمد جمال باروت بـ "صحاب الرؤوس الحامية" في أوساط المثقفين والمعارضين السوريين الذين يحمِّلهم، على قدم المساواة مع أصحاب الرؤوس الحامية في أجهزة السلطة، مسئولية القضاء على أجواء الانفراج الإيجابية التي شهدتها البلاد في العام الأول من حكم الرئيس بشار الأسد؟
كرر باروت هذه النظرية عشر مرات على الأقل في حدود اطلاعي المتواضع، ويوحي تكراره وبعض صيغه أنه لا يزال يحمل أصحاب رؤوس حامية ما في أوساط الطيف السوري المعارض المسئولية ذاتها. ورغم أنه كانت لدي تقديرات وتخمينات حول الطائر المحكي المحتمل الذي تشكل "الرؤوس الحامية" صداه، فإني لم أقطع الشك باليقين إلا بعد قراءة مقالته المعنونة "النومنكلاتورا السورية" في "أخبار الشرق" بتاريخ 21/8/2002.
فمن هذه المقالة فقط عرفت أن "جماعة قصر الشتاء"، وهذا مجرد تعبير آخر عن أصحاب الرؤوس الحامية المعارضين، هي مجموعة مكونة من عنصر واحد كما يُقال في الرياضيات؛ صحيح أن باروت يتحدث عن "بعض الرؤوس الحامية محدودة العدد والأفق"، لكنه يدخر شراسته كلها لمن "تربوا في أحزابهم الجبهوية" (تربية سيئة فيما يبدو)، ومن "غدوا الفهماء والوطنيين فيما يتعلق بإرهابية الإخوان". ثم يحمى رأسه فيصف "هؤلاء" بـ "إدارة المعارك القذرة ضد بعض المعارضين في الخارج"، ويصل إلى الذروة حين يستأنف "وتم تكريمهم باستثنائهم من حفلة اعتقال العشرة". تم تكريمهم أيضاً من قبل باروت نفسه باستخدام صيغة الجمع فيما مقول القول واحد فقط لا غير كما سنرى.
افتقدنا لازمةً لطالما رافقت في مقالات باروت "جماعة قصر الشتاء" وهي "مداحي القمر"؛ ولعل رغبة الكاتب بتسهيل الحزر علينا، معشر القراء، هي التي دفعته لحذف المجموعة التي تشترك بخاصية مدح القمر. كلما زادت التعيينات ضاق الماصدق كما يقول المناطقة. والماصدق الذي تنطبق عليه كل التعيينات السابقة هو شخص واحد بعينه دخل باروت معه في صراع علني على صفحات جريدة لبنانية بعينها، ويبدو أنه هنا يواصل ذلك الصراع لكن بوسائل أخرى.
لن نبرز في هذا المقام المفارقة المتمثلة في أن نظرية باروت حول مصير الانفراج السوري إنما هي تسديد لحسابات شخصية لا يهمنا من صاحب الحق فيها، كما لن نركز على حقيقة كون النظرية تعميماً لعنصر واحد، وأن مقتضيات استقامة الخطاب النظري هي التي استدعت ضم آخرين لتشكيل "جماعة قصر الشتاء" كما يسميهم. إذ من غير المعقول رهن مصير الانفراج السوري بمواقف شخص واحد حتى لو باشر بالفعل هجوماً على "قصر شتائنا" (ما هو؟ وأين يقع؟)، وأدار معارك "قذرة" ضد معارضين في الخارج واستعرض فهمه ووطنيته، ومدح القمر أو لم يمدحه .. إلخ .. إلخ.
لن نبرز هذا الجانب إلا بمقدار ما أن مقتضيات خطاب باروت أسهمت في "إنتاج" جماعة من "أصحاب الرؤوس الحامية" الذين يخدمونه الخدمة التي خلقهم للقيام بها، أعني تفسير مصير الانفراج السوري المغدور الذي يظن معظم الناس أن "طبقة" متنفذة وعدمية في السلطة هي التي اغتالته. هذه الطبقة لا تغيب على كل حال عن نظرية باروت، فهي أيضاً جماعة من أصحاب الرؤوس الحامية تقف على الجانب الآخر من الخندق (تتولى على الأرجح حماية الشتاء لا قصره). ولعلها هي نفسها أيضاً "النومنكلاتورا السورية" أو "البيروقراطية الوصائية" التي "صارح" باروت رئيس الوزراء بأنها هي التي تعرقل عمل الحكومة، هي وليس الناس الذين لا يبادرون إلى تشكيل الجمعيات حسب تصور رئيس الوزراء!!
لكن وجود فريق (وليس رجلاً واحداً فحسب) من أصحاب الرؤوس الحامية في جهة الحركة الديمقراطية السورية ليس مجرد ضرورة خطابية بالنسبة لباروت، بل هو اقتناع متروى فيه سبق له أن عبر عنه منذ نيسان 2001 على الأقل حين نسب (مجلة الآداب، آذار - نيسان 2001) إلى "عديدين" أن مقابلات رياض الترك ومقالاته "تصعيدية"، وحين مزج بين فضول الصحفي ومبدئية المناضل الذي يريد الانتصار لموقفه باستخراجه من "كوادر قيادية في جناح المكتب السياسي والتجمع" حقيقة أن "الاتجاه الغالب في اللجنة المركزية (لحزب رياض الترك) أعلم الأمانة العامة للتجمع الوطني الديمقراطي بأن مقالات الترك وتصريحاته تعبر عن رأيه الشخصي لا عن رأي الحزب". والحزب هو الحزب الشيوعي - المكتب السياسي.
لسنا بعيدين كما هو واضح عن نظرية الرؤوس الحامية التي ستكون تحديثاً لنظرية "المتخشبين والتصعيديين" الواردة في مقالة "الآداب" ذاتها، وهي المقالة التي نجد فيها أول نسخة في حدود اطلاعي عن "ترنح قصر الشتاء المزعوم"؛ وقد فرض هذا التحديث نفسه بعد اعتقال الديمقراطيين العشرة في بداية خريف العام الماضي.
هل هناك، إذاً، "عنصران" فقط يزعمان ترنح قصر الشتاء، أحدهما رياض الترك والآخر من "الفهماء والوطنيين .. الذين يديرون معارك قذرة .."؟ هذا غير واضح، لكن من المعقول أن نفترض أن فريق الرؤوس الحامية المعارض يقبل التوسيع بانضمام "تصعيديين" آخرين إليه عند الضرورة.
هذه النظرية خاطئة جوهرياً في تصوري، لكنها أكثر من ذلك تقوم بوظيفة خطرة. فبمجرد الحديث عن فريقين أو جماعتين من أصحاب الرؤوس الحامية يسرِّب الخطاب نوعاً من التكافؤ أو التساوي بينهما، ويحمل بالتالي مسئوليات متكافئة لطرفين غير متكافئين على الإطلاق.
إن الإنتاج الخطابي لطرفين هو أول ما يلزم من أجل الحرب وتبرير الحرب. ومن المقبول منطقياً وأخلاقياً أن النقد المتكافئ لطرفين ليس بينهما ولو ذرة تكافؤ واحدة إنما يخدم الأقوى ويزيد من ضعف الأضعف. وقبل ذلك لم يكن "أصحاب الرؤوس الحامية" في أي وقت فريقاً أو جماعة لكي يمكن اعتبارهم طرفاً "يتحالف" مع أصحاب الرؤوس الحامية من طرف السلطة لقطع "الدرس الذي مهدت له رؤية الرئيس" (نحن في زمن الرؤى!). وإذا كان لا شك في وجود ما يجمع بين رياض الترك و"الفهماء" و"الوطنيين" وكل من قد يمنح أو لا يمنح لقب "تصعيدي" في أوساط الحركة الديمقراطية السورية، فإنه ليس ثمة أي تنظيم أو مؤسسة أو جبهة تجمع بين هؤلاء، دع عنك أن تكون بأيديهم أية قوى أو وسائل للتصعيد أو التهديد أو الإكراه. بل إن تعبير "الحركة الديمقراطية السورية" ليس إلا تعبيراً تفاؤلياً بالمعنى الأصلي لكلمة تفاؤل: نستخدم التعبير لنشجع الشيء على الوجود.
تقدم نظرية الرؤوس الحامية ودراما "السقوط المزعوم الوشيك لقصر الشتاء" المزعومة المواكبة لها تبريرا كاملا لاعتقال كل من قد يعبر عن رأيه بحدة أو بنبرة عالية أو "في الخارج"، وتصادر العقلانية وتجيرها لحساب الأقوى ومن يملك السلطة. وهي بمثابة سيف مسلط على رقبة الحريات العامة، بما فيها الحريات الأساسية التي لم تعد موضع تفاوض في أي بلد من بلاد الأرض: حرية التعبير والاجتماع والحق في الأمن الشخصي، بل وحق الحياة.
يتساءل المرء: هل وضع معتقلي الرأي المحكومين، بمن فيهم رياض الترك (72 عاماً) وعارف دليلة (67 عاماً) وحبيب عيسى (57 عاماً)، في زنازين منفردة خانقة في عز الصيف، وسيلة لتبريد رؤوسهم، أم لقتل إبائهم وفقاً لنمط مألوف بات يشكل عنصراً أساسياً في الهوية الوطنية السورية؟ وقبل ذلك كيف تحتفظ نظرية الرؤوس الحامية بصلاحيتها إلى درجة تدفع صاحبها إلى تكرارها بلا كلل أو ملل حتى بعد اعتقالات أيلول الماضي؟
ليس جمال باروت مثقفا تبريريا من صنف إيديولوجيي السلطات واعتذارييها، لكن نظريته تحوز طاقة تبريرية كبيرة بالفعل، خصوصاً في الوقت الذي لا يبدو فيه أن "ثورة المراسيم" تتجاوز كونها حبراً على ورق ولم يشعر أي مواطن بأثر حقيقي لها كما يقول هو شخصياً. هذا علما أن الثورة المذكورة هي كل ما نُغرَى به لنتشرف بلقب أصحاب الرؤوس الباردة.
لا أعرف أي كاتب كرر بهذه الدرجة من الإلحاح فكرة محددة وبالتعابير ذاتها وفي أوقات متقاربة إلى الحد الذي نجده في مقالات الأستاذ باروت عن الرؤوس الحامية وقصر الشتاء. ويبدو أن لديه حالة من التثبت النفسي الشديد الذي يتجلى في عدم قدرته على مفارقة الفكرة. بعبارة أبسط ثمة حقد عنيف لا يكف عن تغذية وشحن عقل الكاتب ويجعل من نظريته تصعيداً لانتقام شخصي لا يبدو أنه يشبع. يقيس التكرار شدة التثبت النفسي ويرتفع بنظرية الرؤوس الحامية إلى مستوى التقليد أو الفلكلور الشخصي الذي يستمر بصرف النظر عن أصله والتجربة المشكلة له.
قبل عامين كان رصيد الممكنات السوري في أعلى مستوى له منذ بداية حكم حزب البعث، وبدا واضحاً أن ما شهدته الشهور الأولى من عهد الرئيس بشار الأسد هو بمثابة استئناف لحياة سياسية وثقافية سورية تعرضت للتجميد خلال عقدين من السنين على الأقل. كان الأمل أعدل الأشياء قسمة بين السوريين. وقتها كتب الأستاذ باروت محذراً مما سماه، بغير كثير من التوفيق في رأيي، "فلكلور الحقد". مع ذلك بدت هذه الإشارة مفيدة في إطار التوجه نحو بلورة إجماع وطني على الإصلاح وطمأنة أصحاب القرار إلى أن مستقبلاً كريماً لـ "أم الجميع سورية" - حسب التعبير الميلودرامي لباروت - ومستقبلاً مشتركاً لأهلها أهم بكثير عند المعارضين من حَضْن نزعات الثأر والانتقام التي تمزق وتفرق. بعد أقل من عام تضاءل رصيد الممكنات السوري إلى مستوى "الاستقرار والاستمرار"، وتسمم المناخ المعنوي بالتخويف والتهديد والوعيد.
نظرية باروت لا تساعد في تفسير التسمم الحاصل ولا تقدم أو تسهم في تقديم ترياق لتعديله، إن لم نقل إنها تنطلق منه كتحصيل حاصل ثابت وتبني عليه. وأهم من كل ذلك إن ممارسة باروت الشخصية هي مثال مشجع على عدم التخلي عن "فلكلور الحقد".
__________
* كاتب سوري