صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1029 - 2004 / 11 / 26 - 07:36
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
25 نوفمبر، 2004
تخيل ان ثلاثة سرقوا بستانا. ثم تخيل ان سكان القرية تجمهروا يصرخون باقرار الحق والقانون, وهم يكيلون الضرب لواحد من اللصوص دون الاثنين الاخرين. اتشترك معهم في الهجوم عليه؟ ام انك ستصرخ: ياجماعة.. والباقين؟ ثم تخيل انك لاحظت ان من اجتمعت القرية عليه هو اضعفهم واقلهم قدرة على الدفاع عن نفسه.
الايدعوك ذلك للشك في عدالة القرية وما وراء صراخها من دوافع؟
ثم لو انك رحت تحاول سحب الضاربين وتقف بينهم وبين الوحيد الذي تجرأوا على معاقبته, الا تبدوا لهم مدافعا عن الباطل؟ ثم الا يدعوك المشهد فيما بعد الى مراجعة مواقف اهل القرية والتشكيك في عدالة نظامهم في كل مرة يصرخون فيها دفاعا عن "الحق"؟ الا تبدوا عندها محاميا للشيطان في نظرهم؟
وصلتني ردود عديدة محتجة على ما كتبت مؤخرا, فبدوت للبعض مدافعا عن قاتل فان خوخ, وبدوت لاخرين مدافعا عن الاسلام ضد الحضارة والعلمانية, ولاخرين واقفا ضد الناشطين من اجل حقوق المرأة.
لكني لم اقل لمهاجمي الاسلام الا: والاخرين ياجماعة؟ ولم اقل الا: ان قاتل فان خوخ مجرم لكن فان خوخ لم يكن رمزا انسانيا. ولم اقل الا: ايان هرسي علي منافقة لاتهتم الا بطموحها السياسي وليس لها اهتمام بالمرأة او غيرها.
عندما احتج محرر "اسلام اون لاين" عند لجنة مراقبة نصوص الانترنيت ضد التمييز, على نصوص تهاجم المسلمين, ردت اللجنة بأن النصوص المذكورة ليست ضمن ما يحاسب القانون عليه, وعندما قام بوضعها على موقعه مستبدلا كلمة "الاسلام" ب "اليهودية", و"المسلمين" ب "اليهود"و"الامريكان" سارعت اللجنة بالاحتجاج!
عندما قتل مسلم, هولندي اصيل او صميم, كما يحلو للبعض تسميته, قامت الدنيا في هولندا والغرب قبل ان يقول القضاء كلمته, ولكن عندما قتل عريف هولندي عراقيا قرب السماوة نهاية السنة الماضية, واتهمته وزارة العموم الهولندية بالقتل بلا مبرر, قامت هولندا ولم تقعد دفاعا عنه قبل ان يقول القضاء كلمته ايضا, وتألم وزير الدفاع بلا خجل, ان اريك او لم يقض رأس سنة سعيدة, لانه كان محجوزا!
قبل ايام, رفض امام مسلم مصافحة "فردونك", وزيرة الهجرة الهولندية استنادا الى معتقده الديني, معتذرا منها بكل احترام, فقامت الدنيا مرة اخرى, وعزفت الصحافة نشيد الحضارة والتخلف. ثم تكتشف انه وقبل فترة قصيرة, كان "ايفرس", وهو رابي يهودي هولندي معروف قد رفض (بأدب ايضا) مصافحة عضوة البرلمان "نباهات البيرق" وهي من اصل تركي, , واستمر النقاش بينهما بهدوء بعد ان تفهمت البيرق موقفه. ولم يثر الموقف اي غبار.
لكن عواصفا هوجاء قد ثارت اول امس, عندما صرح مسلم هولندي متحول من المسيحية بانه "يتمنى ان يموت ولدرز قبل الانتخابات القادمة, بشكل ما, على ان لا يقتل على يد مسلم". ورغم ان ولدرز يعيش ككثير من غيره على اثارة الاحقاد على الاسلام والمسلمين والهولنديين من اصل اجنبي, بل ويعارض انظمام تركيا الى اوروبا لنفس الاسباب, ورغم انه كثرما تلفظ بعبارات نابية عن الاسلام والمسلمين, كاسبا بذلك شعبية تهدد بجعله قائدا لثاني اكبر حزب في هولندا في الانتخابات القادمة: اقول رغم كل ذلك, فانت تشعر ان هذا الكلام ليس مناسبا اجتماعيا, وتستعد للاحتجاج عليه.
امس, وفي برنامج تلفزيوني, كان فان ارتسن يقترح تغييرا في القانون (كالعادة) ليسمح بمحاسبة المتفوهين بمثل هذا الكلام. وحين سأله الصحفي عن حادثة مماثلة قال فيها هولندي انه لن يشعر بالاسف لو ان فلانا قتل تحت عجلات عربة الترام, ولم لم يحتج احد على ذلك, فوجيء فان ارتسن وتمتم بعد صمت, ان الوضع في هولندا الان مختلف وشديد التوتر. لكن نفس الوضع المتوتر لم يمنع فان ارتسن قبل ايام من التصويت على الغاء قانون يحرم "سب الله", ولم يخش ان يفهم مثل هذا الالغاء في هذا الوقت على انه دعوة الى المزيد من الحرية للشتائم الدينية التي ادت في النهاية الى مقتل فان خوخ واطلقت شيطان التطرف والتوتر.
طفل عمره 11 عاما, قال كلاما غير مناسبا عن اليهود, فضاقت الارض بامستردام, وامتلئت الصحف وارسل المسؤولين والمحامين الى بيته "يتحدثون معه" عن المسموح وغير المسموح بطريقة وصلت حدا الارهاب.
لكن حين دعا بروفسور يهودي هولندي اسرائيل الى قتل اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين لم تجد حتى الصحافة في الخبر ما يثير شهوتها للتعليق, ولا السياسيين للاحتجاج عليه او نصحه.
الصحافة متهمة بالاهتمام بالتقاط الاخبار المثيرة بغض النظر عن نتائجها, لكن هذا الاتهام اخف من التهمة الحقيقية بالتحيز الايديولوجي الشدبد. فلم لم تلتقط الخبر المثير حين امسك برئيس حزب مهم, بجرم ارسال فاكس تهديد مزور موجه اليه نفسه والى رئيس المجموعة البرلمانية لحزبه, موقعا اياه على انه من مسلمين متشددين؟ اليست هذه اخلاق اولاد شوارع ورجال عصابات, خاصة في هذه الفترة الحرجة؟ ومن يدري كم من رسالة تهديد زورها هو وامثاله؟ وكيف يحترم اعضاء حزبه الانتماء لحزب يرأسه هكذا متخلف اخلاقي؟
لم لم تسأل الصحافة ايضا رجال الدين المسيحيين واليهود, واكتفت بسؤال الائمة المسلمين عن موقفهم من المثلية الجنسية (الهومو)؟ ولم لم يقل هؤلاء بشجاعة انه موقفهم هم ايضا, عندما مزقت الصحافة والسياسة المسلمين لذلك الموقف؟
لم يتم تجنب المقارنة مع الاديان الاخرى في كل مرة ينتقد فيها الاسلام حول نقطة ما؟ لم يقارن دائما بين "اعمال" المسلمين مع "مُثل" المسيحية, وليس الاعمال مع الاعمال والًمُثل مع المُثل؟
لايقتصر الامر على ما يحدث في هولندا, بل خذ مثلا عما حدث عندما منعت السعودية صفحة "الحوار المتمدن" من "دخول اراضيها". هو بالطبع عمل ضد الديمقراطية والحرية ويستحق كل الشجب, وشاركت فعلا في توقيع اعتراض على ذلك. العديد جدا من كتاب "الحوار المتمدن" كتب مقالات احتجاج ضد السعودية, لكني كتبت عن عمل مماثل ويزيد قامت به زعيمة الديمقراطية الغربية اميركا بالاستيلاء ومصادرة حاسبات مواقع "انديميديا". فمن غير العدل ان نتفرغ كلنا للسعودية, وهناك من يرتكب نفس الخطأ مضاعفا دون انتباه احد.
انا شخص علماني, واؤمن بحرية المرأة واحترم المدافعين عنها,( وعندما كان الجو سليما كتبت في ذلك مهاجما القانون 137 في العراق), وانا اعتبر قاتل فان خوخ مجرما واحمق, ولا استسيغ رفض مصافحة النساء ولا اقول علنا في وسائل الاعلام امنياتي بالموت لمن اكرههم, واستهجن الكلام العنصري ضد اليهود, وفيهم العديد من ابطالي.
لكني لا اريد ان ادافع عن رأيي هذا بالكذب المنتشر باعتبار ايان رمزا للدفاع عن حرية المرأة وحقوق الانسان, كما عبر من قدم لها جوائزها, وان فان خوخ وفنه مرشدا للشعوب في نضالها ضد الدكتاتورية, كما عبرت منظمة عراقية في هولندا, ولا اقر التحيز من اجل فرصة للتعبير عن استنكاري للكلام غير المناسب في الاعلام. هذا التحيز قد دمر فرصة النقاش الموضوعي في تلك المواضيع, ولم يترك للمتحدثين الا اختيارا بين ما سيفسر دعما الخطأ من جهة, او الانظمام الى الحملة لمهاجمته بشكل متحيز لا عدالة فيه.
لقد حرمنا هذا التحيز السافر من فرصة النقد السليم العلمي, حسن النية, لكل ما هو خطأ, دون التسبب الا بالضروري من الجروح, وبالادب والصبر الاحترام لرأي الاخر المخالف, وكلها لوازم لاغنى عنها لمن اراد حقا الارتفاع بالمجتمع فوق الخطأ والنقص. لكن ايان وفان خوخ وفورتان وولدرز, والصحافة المنافقة, قتلوا الفرصة وسمموا الجو اللازم للحوار المتمدن, ولم يعد هناك مجال الا للصراخ او الصمت حاليا.
لقد بدا انني تخليت لحين عن الدفاع عن هذا "الحق" الذي اؤمن به بل واحبه. الا انني انما فعلت ذلك فقط لانه جائني هذه المرة مغلفا بباطل اعظم منه.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟