هشام غصيب
الحوار المتمدن-العدد: 3447 - 2011 / 8 / 4 - 13:43
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
علم الكون: آليات تطوره
2001
شهدت البشرية حتى اليوم (مطلع الألفية الثالثة) ثلاثة أصناف من التصورات الكونية، أي تلك التصورات المعنية بالموجودات بصفتها كلاً أو نظاماً كليا تترابط مكوناته مكانيا وزمانيا وأصلاً ونوعاً. هذه الأصناف هي:
1- التصورات الأسطورية التي تعتبر الكون مسرح فعل الأرواح والآلهة.
2- التصورات الفلسفية التي تعتبر الكون نتاجاً لمبادىء عقلية موضوعية أولية، فلسفية وجمالية وأخلاقية (مثلاً: كون أفلاطون، كون أرسطو، كون أفلوطين، كون الفارابي وابن سينا، كون السهروردي).
3- التصورات العلمية التي ترتكز إلى نظريات الفيزياء والرصدات الفلكية.
وقد انحسر الصنفان الأولان انحساراً شبه تام في القرون الأربعة الأخيرة، وحل محلهما الصنف الأول من حيث المشروعية والتزام النخب المعرفية. لكن هذا الصنف ابتدأ مثقلاً بالتناقضات والاستحالات القاتلة وظل كذلك طوال قرنين من الزمان، الأمر الذي حال دون تكونه علماً، وإن كانت قاعدته الفيزيائية علمية. وبالتحديد، فإن الفيزياء الكلاسيكية، التي أرسى قواعدها نيوتن في القرن السابع عشر، لم تكن قادرة على توفير أساس متسق منطقيا لعلم الكون. لذلك ظلت التصورات العلمية تراوح مكانها مثقلة بتناقضاتها الداخلية حتى عام 1917، يوم نشر ألبرت آينشتاين ورقته المشهورة، التي طبق فيها نظريته في النسبية العامة (1915) على الكون (أو، قل: الزمكان) بوصفه كلا عضويا مترابطاً. وكان نشر هذه الورقة إيذانا بانطلاقة الدراسة العلمية للكون، أي ببدء علم الكون، بوصفه علماً بالمعنى المتعارف عليه اليوم، كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا. ذلك أن نظرية النسبية العامة هي نظرية كونية في جوهرها، فلا تكتسب تناسقها الداخلي إلا بكونيتها وتطبيقاتها الكونية. ولئن أعاق الفصل المطلق بين المكان والزمان والمادة في نظرية نيوتن اعتمادها قاعدة لعلم الكون، فإن ربط هذه الموجودات عضويا في بعضها في نظرية النسبية العامة أتاح المجال، لأول مرة في التاريخ، لمعالجة الكون علميا بوصفه نظاماً ماديا واحداً موحداً.
لكن تطور علم الكون في غضون القرن العشرين أثبت أن نظرية النسبية العامة تشكل جزءاً من قاعدة علم الكون، وليس القاعدة كلها. كان على علماء القرن العشرين أن يرفدوا نظرية النسبية العامة بالفيزياء النووية، ثم بنظرية المجال الكونتمية، ثم بنظريات التوحيد المجالية الحديثة (نظريات التوحيد المهيبةGUT’s ، نظريات الخيوط الفائقة، نظرية أم النظريات M-Theory ، وغيرها)، حتى يتسنى لهم التغلب على مفارقات علم الكون وتفسير فيض الظاهرات الكونية الذي تفجر على الساحة العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وتكمن مشكلة نظرية النسبية العامة في أنها نظرية جزئية وغير مكتملة. فهي نظرية في بنية المكان والزمان، وليست نظرية شاملة في المادة. وكان أكثر من أدرك هذا النقص في النظرية هو مبدعها الرئيسي، ألبرت آينشتاين، نفسه، الأمر الذي قاده، منذ نشر نظرية النسبية العامة وحتى لحظة وفاته، إلى تركيز قدراته الذهنية الخارقة على محاولة بناء نظرية مجال موحد شاملة تشكل إطاراً نظريا مكتملاً لفهم جميع الظاهرات المادية، بما في ذلك المجال الكهرمغناطيسي والجسيمات دون النووية. لكنه أخفق في ذلك، وترك الأمر للأجيال اللاحقة، التي ما زالت ماضية على هذا الدرب بزخم ومثابرة. ولكون نظرية النسبية العامة نظرية في المكان والزمان فقط، فإن تنبؤاتها الكونية جاءت مقصورة على المكان والزمان، ولم تمس المادة وظاهراتها الغنية. إذ تنبأت أن المكان إما أن يكون متمدداً، وإما أن يكون متقلصا، في الزمان، إذا كان توزيع المادة فيه متجانساً، أي إذا كانت كثافة المادة لا تتغير من موضع إلى آخر. وضع هذا التنبؤ لأول مرة عام 1922 على يدي الرياضي الروسي، ألكسندر فريدمان. وجاءت أبحاث الفلكي الأميركي، إدوين هابل، بعد ذلك بسبع سنوات لتدعم فكرة أن المكان يتمدد، حيث اكتشف هابل أن المجرات تتباعد عن بعضها بسرع تتناسب طرديا مع المسافات بينها، تماماً كما تنبأ فريدمان على أساس نظرية النسبية العامة.
لكن نظرية النسبية العامة قادت أيضا إلى فكرة أن الكون محدود في العمر، وإن عجزت عن تحديد هذا العمر بدقة لكونها نظرية غير مكتملة، أي لغياب تصور داخلي للمادة فيها. وعلى أي حال، فما كان بالإمكان لنظرية نيوتن أن تقود إلى هذه الفكرة الغريبة بحكم بنيتها الفكرية الأساسية. فالمكان مطلق وثابت في نظرية نيوتن. أما الفكرة التي قادت إليها النسبية العامة فهي أن عمر المكان محدود، بمعنى أن المكان ابتدأ في لحظة معينة (من العدم؟) على صورة نقطة لامتناهية الصغر، ثم تمدد حتى وصل إلى الأبعاد الهائلة التي نشهدها اليوم. فقبل بضعة مليارات من السنين (حوالي 12 مليار سنة، وفق أحدث القياسات الفلكية)، كان المكان نقطة لامتناهية الصغر والسخونة والكثافة.
وكان أول من توصل إلى هذه النتيجة المثيرة هو العالم الكاهن الكاثوليكي البلجيكي، ليميتر. ولعله لم يكن من قبيل الصدفة أن هذه النتيجة جاءت على يدي عالم كاهن. ولربما كان للدافع الديني أثره في وصول ليميتر إلى هذه النتيجة. وقد هلل لها واحتفى بها رجال الدين من كل حدب وصوب، ظنا منهم أنها تؤكد قصة خلق العالم الواردة في كتبهم المقدّسة، غير مدركين أن هذه النتيجة المبهمة تنبع من نواقص نظرية النسبية العامة وثغراتها، لا من مكامن قوتها وكمالها، وأنها مؤشر على حدود انطباق النظرية ومحدودية قدرتها على معالجة مسألة نشوء الكون. وهذا هو شأن رجال الدين، أنى كان مذهبهم؛ يتمسكون كالغرقى بما ينثره العلم أمامهم من قش في مسيرته المعرفية المظفرة، لانعدام ثقتهم بنهجهم الأوامري الاستبدادي.
ولنتوقف قليلاً عند هذه الفكرة، فكرة أن المكان، بما يحمله من مادة، انبثق جملة وتفصيلا من نقطة منفردة لانهائية الصغر والسخونة والكثافة. ولندقق في معنى هذه المقولة.
أولاً، ينبغي الانتباه إلى أن هذه النقطة المنفردة تشكل حدّاً للمكان والزمان. فهي ليست في المكان والزمان. إنها تضم المكان برمته وتشكل نقطة بدء الزمان. وعليه، فإنها خارج المكان والزمان (خارج الزمكان) بصفتها حدّاً للزمكان. ولما كانت معادلات النسبية العامة (أو، ما يسمى معادلات آينشتاين المجالية) تعنى بالزمكان، وتفترض وجوده، وتصف العمليات والتفاعلات المادية ضمن إطاره، فإن النقطة المنفردة تقع خارج إطار النسبية العامة، بمعنى أن قوانين النسبية العامة تنهار ولا تسري عند هذه النقطة. وبالطبع، فإن رجال الدين قد يفهمون من ذلك أن العلم يعجز وينهار عند لحظة خلق العالم. فهم يهللون فرحاً لأي مظهر من مظاهر عجز العلم والإنسان الذي يصنعه، لأنهم أعداء الحرية والعقل. لكنهم لا يدركون أن قصة الخلق التي يروجونها لا تقل سوءاً، من حيث المعقولية والقدرة التفسيرية، عن النقطة المنفردة، إن لم تكن أسوأ بكثير. وعلى أي حال، فإن النقطة المنفردة تشير إلى حدود نظرية النسبية العامة ونقائصها وكونها تفتقر إلى نظرية شاملة في المادة، لا إلى حدود العلم ونقائصه.
ثانيا، فإن مفهوم اللانهاية في هذا المقام (المكان اللامتناهي الصغير، السخونة اللانهائية، لانهائية كثافة المادة) مفهوم مبهم وضبابي، على الأقل فيزيائيا. وبصورة عامة، فإن بروز اللانهاية في نظرية فيزيائية لهو مؤشر على بروز حدّ لانطباق النظرية، أو إلى نقص فيها، أو إلى نقص في الأنموذج المعتمد. لذلك، فقد عدّ جل الفيزيائيين النقطة المنفردة الأصلية للكون نقطة ضعف كبيرة في نظرية النسبية العامة، وسعى بعضهم إلى إيجاد طرق وآليات لتفاديها والالتفاف حولها. وظن بعضهم أنه يمكن تفاديها إذا افترضوا أن توزيع المادة في المكان ليس متجانساً، بمعنى أنهم ظنوا أن النقطة المنفردة الأصلية منبعها افتراض تجانس توزيع المادة في الكون. وظنوا أن إزالة هذا الافتراض سيقودهم إلى حدّ أدنى محدود لحجم المكان. لكن سرعان ما خيب أملهم ذاك الفيزيائيان البريطانيان، روجر بنروز وستيفن هوكنغ، اللذان برهنا رياضيا، وبطريقة محكمة، في نهاية الستينيات من القرن العشرين، أن نظرية النسبية العامة تقود إلى ضرورة النقطة المنفردة الأصلية حتى لو كان توزيع المادة في المكان غير متجانس. وهذا ما حدا الفيزيائيين، بمن فيهم بنروز وهوكنغ، إلى النظر خارج حدود نظرية النسبية العامة، صوب ما يسمى نظرية المجال الكونتمي، من أجل التغلب على هذه الصعوبة.
وثالثاً، فهناك مشكلة العبور من اللانهائي إلى المحدود، وهي المشكلة التي أرقت بال الفيلسوف الإغريقي (الكنعاني) زينون، وما زالت تؤرق بال الفيزياء الحديثة. فكيف يتسنى للكون أن ينتقل من حجم لانهائي الصغر وسخونة وكثافة لانهائيتي الكبر إلى حجم محدود وسخونة وكثافة محدودتين؟!
وهكذا، فقد شكلت نقطة البداية للكون صعوبة بالغة لنظرية النسبية العامة في معالجتها مشكلة الكون نشوءاً وتكوينا وتطوراً.ومع ذلك، فقد هلل رجال الدين لهذه الصعوبة واعتبروها أساساً علميا لتصوراتهم ما قبل العلمية لنشوء الكون وتطوره. فالملاحظ أنهم يقتاتون على نقائص النظريات العلمية، لا على نقاط قوتها، الأمر الذي يجعلهم يلهثون باستمرار وراء العلم وتطوره المتسارع، عبثا ومن دون جدوى.
وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن نظرية النسبية العامة أظهرت قصورها في عجزها عن التنبؤ بتوزيع المادة المرئية (المجرات) والأخرى غير المرئية وتوزيع الضوء وغيره من الأمواج الكهرمغناطيسية في المكان، وفي عجزها عن تحديد هندسة الكون ومصيره. هذا ناهيك بصعوبات منطقية يصعب ذكرها هنا بالنظر إلى طبيعتها الفنية المعقدة والمتخصصة. كل ذلك قاد الفيزيائيين إلى تخطي نظرية النسبية العامة صوب التطورات الهائلة التي كانت تمر فيها ما يسمى نظرية المجال الكونتمي .
والحق أن هذا النقص مكتوب أصلاً في البنية الداخلية لنظرية النسبية العامة، وبخاصة في ما يسمى معادلات آينشتاين المجالية، التي تعبر عن قوانين تفاعل المادة مع الزمكان. فالشق الأيسر من هذه المعادلات يعبر عن بنية الزمكان وطبيعة هندسته ودرجة انحنائه (أي درجة ابتعاده عن هندسة إقليدس المألوفة في حياتنا اليومية). وهو ينبثق جوهريا من قلب نظرية النسبية العامة، التي تعنى أصلاً بالزمكان. أما الشق الثاني، فيعبر عن المادة والطاقة، ولا ينبع من قلب نظرية النسبية العامة، وإنما يعتمد في مضمونه على النظريات الفيزيائية الأخرى، وإن كان يعتمد في شكله على مبادىء النسبية العامة. ويمكن القول إن هذا الشق هو الجسر الذي يربط النسبية العامة بنظريات المادة. وهو لا ينتمي حقاً إلى النسبية العامة، وإنما إلى النظريات الأخرى. لذلك، فهو يعكس الحالة التي وصلت إليها نظرية المادة. وعليه، فإن معالجة النسبية العامة للكون تتطور بتطوير نظرية المادة، وتأخذ شكلاً جديداً كلما طبقت على طور جديد للمادة.
ففي المراحل الأولى من وضع نظرية المكان المتمدد، اعتمدت نظرية المادة الموروثة من الفيزياء الكلاسيكية (ميكانيك نيوتن ونظرية ماكسويل في الكهرمغناكيسية)، بعد أن أعيد صوغها وفق مبادىء النسبية العامة. وأدت هذه المعالجة إلى التنبؤ بتمدد المكان، ومحدودية عمر الكون، والنقطة المنفردة الأصلية، وعجزت عن التنبؤ بالسمات الأخرى للكون والمتعلقة مباشرة بطبيعة المادة.
وفي المرحلة الثانية (الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين)، التي شكلت العصر الذهبي للفيزياء النووية، أدخلت نظرية الالتحام النووي وبناء العناصر في التصور النسبي العام للكون من خارجه، فكانت النتيجة توسيع دائرة تنبؤات النظرية، تمثل في التنبؤ بنسب العناصر في المادة المرئية في الكون، والتنبؤ بتوزيع الطاقة الكهرمغناطيسية وخصائصها في المكان (ما يسمى إشعاع الخلفية). إذ تنبأت النظرية بأن ثمانين بالمائة من كثافة المادة المرئية هي من الهيدروجين، وحوالي عشرين بالمائة هي من الهيليوم، وأن نسبة باقي العناصر لا تتجاوز الواحد بالمائة. وقد أثبتت القياسات والرصدات الفلكية الدقيقة ودراسة الأطياف الضوئية للنجوم والمجرات معقولية هذا التنبؤ.
أما التنبؤ الآخر للنظرية في شكلها النووي، فهو أن المكان يملؤه بحر من الطاقة الكهرمغناطيسية متدنية درجة الحرارة، وأن توزيعها متجانس تماماً، وأنها مماثلة في طبيعتها لما يسمى إشعاع الجسم الأسود (أي الإشعاع الكهرمغناطيسي المنبعث من التجويفات). وبالفعل، فقد تم الكشف عن هذه الطاقة عام 1964، وجاءت القياسات والرصدات مطابقة للتنبؤ، الأمر الذي دعم النظرية ودحض النظريات الأخرى المنافسة، وفتح عهداً جديداً في دراسة الكون وظاهراته.
ومع ذلك، فإن إدخال الفيزياء النووية في التصور النسبي العام للكون لم يفلح في التغلب على صعوبات هذا التصور وتناقضاته الكثيرة، بما في ذلك مشكلة النقطة المنفردة الأصلية. وبرغم هذه الصعوبات، ازداد العلماء تمسكاً بهذا التصور بفضل إنجازاته الهائلة المذكورة. فكيف لنا أن نتخلى عن أنموذج يبين لنا كيف تبتعد المجرات عن بعضها، وكيف بنيت العناصر في الكون، ويحسب نسبها، ويبين توزيع الطاقة الكهرمغناطيسية مكانياً وموجيا؟! كان لا بدّ إذاً من التشبث بهذا الأنموذج النسبي العام، والبحث في التطورات المستمرة لنظرية المادة عن مخارج وحلول لصعوبات الأنموذج وتناقضاته.
وجاءت الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين تحمل معها بشائر أنموذج شبه مكتمل للمادة ومكوناتها، وهو ما أخذ يعرف بالأنموذج المعياري للمادة. ويقسم هذا الأنموذج المكونات الأساسية للمادة والطاقة إلى ثلاث عائلات متمايزة: (1) عائلة الكواركات، التي تتكون منها البروتونات والنيوترونات؛ (2) عائلة الليبتونات، التي تضم الإلكترونات وغيرها؛ (3) عائلة البوزونات، التي تضم الجسيمات المسؤولة عن التفاعلات والقوى الأساسية في الكون، كجسيم الفوتون المسؤول عن التفاعل الكهرمغناطيسي، والصمغيات (الغلوونات) المسؤولة عن التفاعلات النووية القوية.
وقد استطاع التصور النسبي العام استيعاب الأنموذج المعياري بيسر، ومكنه ذلك من تحديد حالات الكون، أو حالات مادة الكون، ابتداء من واحد مقسوماً على عشرة للقوة خمس وثلاثين من الثانية من نشوء الكون وحتى اللحظة الراهنة. فبين كيف نشأت عائلات المادة والطاقة المذكورة أعلاه ومتى نشأت، ثم كيف ومتى انفكت عن بعضها واستقرّت. وفسّر أيضا اللاتكافؤ في مادة الكون بين المادة وضدها. فمن المعلوم أن لكل جسيم أولي ضداً معاكساً له في الخصائص. فإذا اصطدم الجسيم بضده، انفجرا وتحولت كتلتاهما إلى طاقة كهرمغناطيسية. والأصل أن تنتج الجسيمات وأضدادها بالتساوي. لكن الواقع عكس ذلك تماماً. فجل مادة الكون من صنف واحد. أما الضد فتكاد نسبته أن لا تذكر. لكن الأنموذج المعياري استطاع حلّ هذا الإشكال، وجاءت النتيجة منسجمة تماماً مع نسب المادة والطاقة الموجودة في الكون.
وبرغم هذه الانتصارات الكبيرة، فقد ظل التصور النسبي العام (ما يسمى نظرية الانفجار الكبير) يشكو من صعوباته وتناقضاته الكبيرة. لكن تطورات أخرى، أصابت نظرية المادة في السبعينيات والثمانينيات، فتحت آفاق نظرية وتربة نظرية جديدة للتغلب على هذه الصعوبات وحل هذه التناقضات. فلئن عجزت نظرية نيوتن الكلاسيكية عن توفير أرضية لعلم الكون، ولئن أفلحت نظرية آينشتاين في النسبية العامة في توفير مثل هذه الأرضية، لكنها عجزت عن توفير أرضية مناسبة لوضع تصور علمي دقيق ومنسجم لولادة الكون، فإن التطورات المذكورة بدت قادرة على توفير أرضية ملائمة لتفسير ولادة الكون علميا.
وبصورة خاصة، فقد برزت على أساس التطورات المذكورة ثلاث أفكار غيرت مجرى البحوث الكونية وقلبتها رأساً على عقب إلى غير رجعة، وهي:
(1) في ضوء نظريات المجال الموحد، التي اشتد ساعدها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي (العشرين)، والتي حاولت توحيد التفاعل الكهرمغناطيسي مع التفاعلين النووي القوي والنووي الضعيف وحققت نجاحاً جزئيا في ذلك، برزت فكرة أن عائلات الأنموذج المعياري ليست نهاية المطاف، وإنما تنبع من حالات للمادة أكثر جذرية وأولية. وبصورة خاصة، برزت أهمية ما يسمى الفراغ الزائف، وهي حالة للمادة شبيهة بالفراغ، لكنها غير مستقرة ومثقلة بالطاقة، أي إنها فراغ مثقل بالطاقة، ومن ثم غير مستقر. وعندما بدأ علماء الكون يدخلون هذا المفهوم في التصور النسبي العام للكون، كانت هناك مفاجأة تنتظرهم. فحتى هذا التطبيق، كان أثر حالات المادة المعروفة على المكان واحداً ويتمثل في إبطاء تمدد المكان على اعتبار أن المادة تؤثر بجاذبية جاذبة على بعضها. لكن علماء الكون فوجئوا بأن الفراغ الزائف يعطي أثراً معاكساً تماماً. إذ إنه يدفع المكان إلى التمدد بصورة انفجارية هائلة، بحيث ينتفخ المكان من نقطة أصغر من الذرة بمليارات مليارات مليارات المرات إلى كرة بحجم البرتقالة في لمح البصر (في فترة تقع بين واحد مقسوم على عشرة للقوة خمس وثلاثين من الثانية وبين واحد مقسوم على عشرة للقوة اثنتين وثلاثين من الثانية!). بذلك ضرب علماء الكون أكثر من عصفور بحجر واحد. إذ عثروا على مصدر الانفجار الكوني الكبير في هذا الانتفاخ (التضخم، التورم) الصاعق الذي يعانيه المكان في اللحظات الأولى من تولد الكون، بفعل حالة الفراغ الزائف هذه. وعثروا فيه أيضا على مصدر المادة والطاقة في الكون، حيث إن تحلل الفراغ الزائف إلى الفراغ الحقيقي المألوف أدى إلى تولد فيض الجسيمات الذي تتكون منه مادة الكون. أضف إلى ذلك أن نظرية الانتفاخ (التضخم) تلك تخطت كثيراً من الصعوبات والتناقضات المستعصية التي عانى منها التصور النسبي العام للكون، والتي لا مجال لذكرها هنا بالنظر إلى طابعها الفني المعقد. كما إنها وفرت أرضية نظرية مكينة لتفسير درجة التجانس المذهل، التي يبديها الكون على مستوى ما بعد عناقيد المجرات، مقرونة بدرجة اللاتجانس الكبير التي يبديها توزيع مادة المجرات في المكان.
ولكن، وبرغم هذه الانتصارات النظرية الكبيرة، ظلت معضلة النقطة المنفردة الأصلية قائمة. فمن أين جاءت حالة الفراغ الزائف في المقام الأول؟ ومن أين جاءت طاقته والمجالات (ما يسمى المجالات غير المتجهة) التي تحمل هذه الطاقة؟
وقد تطورت نظرية الانتفاخ (التضخم) الكوني هذه صوب تقديم حل لمشكلة النقطة المنفردة الأصلية، وذلك على يدي الفيزيائي الروسي، أندريه ليندا. إذ توصل ليندا إلى ما يسمى الانتفاخ الفوضوي. ومفاد هذه الفكرة أن الانفجار الكوني ليس حدثاً فريداً يحدث مرة واحدة، وإنما هو عملية متواصلة وسلسلة لانهائية من الأحداث، وأن المكان كيان لانهائي تتولد فيه فقاعات كونية تتمدد صوب اللانهاية بصورة متواصلة. فالانفجار الكوني لا يحدث في الآن ذاته في كل بقاع الكون، وإنما يصيب بقعة ويتخلف في بقعة أخرى. من ثم، فإنه ليس هناك بداية ولا نهاية للكون، بمعنى أن الأكوان (الفقاعات الكونية) تتوالد باستمرار عبر عملية الانتفاخ (التضخم) الكوني، وتخلق كل فقاعة كونية شروط توالد المزيد من الفقاعات الكونية داخلها، وكأن الكون هو شجرة لامتناهية التشعب من الفقاعات الكونية.
والسؤال هو: إلى أي مدى تحل هذه الفكرة مشكلة النقطة المنفردة الأصلية؟ وإلى أي مدى تحمل مضامين مفاهيمية واضحة ومنسجمة مع ذاتها؟ وبصورة خاصة، إلى أي مدى تحدد مفهوم الزمان بصورة منطقية منسجمة مع ذاتها؟
ولعله من السابق لأوانه البت في هذه الأسئلة.
(2) بدأت في مطلع السبعينيات من القرن العشرين تتردد فكرة غريبة مفادها أن قوانين الفيزياء تجيز نشوء الكون من العدم. لكن هذه الفكرة لم تبرز على أساس نظرية النسبية العامة، وإنما ضمن إطار نظرية الكونتم، التي أطلق شرارتها الأولى الفيزيائي الألماني، ماكس بلانك، في مطلع القرن العشرين. والحال أن فيزياء القرن العشرين تنازعتها نظريتان أساسيتان: نظرية النسبية العامة، التي وجدت حقلها الطبيعي في الكون بوصفه نظاما شاملاً، ونظرية الكونتم، التي وجدت حقلها الطبيعي في الذرة ونواتها والجسيمات دون النووية. وانطلقت كل من النظريتين في حقلها الطبيعي بمعزل تقريبا عن النظرية الأخرى. ومع تطورهما الطبيعي، برز حجم الاختلاف، لا بل التناقض، بينهما. ولم يقلق ذلك الفيزيائيين كثيراً ما ظل حقلا النظريتين بمنأى عن بعضهما. لكن تطور علم الكون، واعتماده المتنامي على تطور نظرية المادة، وتمكنه من معالجة حالات الكون في اللحظات الأولى بعد ولادته، كل ذلك أدى إلى تداخل الحقلين الكوني ودون النووي تداخلا عضويا لا انفكاك فيه ولا مفرّ منه، الأمر الذي دفع خيرة العقول النظرية صوب توحيد النظريتين المتناقضتين: النسبية العامة ونظرية الكونتم. وبرغم التطورات المهمة التي حدثت على هذا الصعيد في ريع القرن الأخير، إلا أن التوحيد المرجو لم يتحقق حتى الآن، ويسود المحاولات التي تمت حتى الآن جو كثيف من الغموض والضبابية.
وعلى أي حال، فقد قادت نظرية الكونتم إلى تصور جديد للفراغ (الخلاء) مفاده أن الفراغ يعج، بالضرورة وبحكم طبيعته، بفيض من الجسيمات (فوتونات، إلكترونات، كواركات، الخ…) قصيرة العمر. فلا مانع لنشوء الجسيمات دون النووية من قلب الفراغ، شريطة ألا يتخطى بقاؤها فترات خاطفة تتناسب وطاقتها. ومن ذلك نبع السؤال الكوني الآتي: لئن أباحت قوانين نظرية الكونتم نشوء الجسيمات دون النووية من الفراغ لفترات خاطفة، فهل من الممكن أن تبيح نشوء بذور مكانية كونية من العدم؟
وبرزت صعوبتان أساسيتان في الرد على هذا السؤال. وتكمن الصعوبة الأولى في عمر الكون الطويل. فالجسيمات المتولدة من الفراغ لا تبقى إلا للحظات خاطفة. ما الذي يبقي الكون لمليارات السنين، إذاً؟ وكان الجواب أن الكتلة (أو، الطاقة) الكلية للكون تساوي صفراً، بمعنى أن الطاقة الموجبة المتمثلة في كتلة الجسيمات تكافىء تماماً الطاقة السالبة المتمثلة في المجال الجاذبي للكون. من ثم، فإنه يمكن للكون أن يبقى لفترات طويلة جداً وفق قوانين الكونتم، التي تنص على أن هناك علاقة عكسية بين زمن البقاء وبين طاقة النظام المادي.
أما الصعوبة الثانية، فتكمن في الحجم الهائل للكون اليوم. إن البذرة الكونية تنشأ صغيرة جداً، بل تكون أصغر من البروتون بمليار مليار مرة. والسؤال هو: لماذا لا تنهار هذه البذرة تحت تأثير الجاذبية لتعود إلى العدم الذي انبثقت منه؟
والجواب، الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هو أن كثيراً من هذه البذرات الكونية تنهار بالفعل قبل أن يتاح لها المجال للتحول إلى أكوان، لكن بعضها تتضمن حالات مادية تدفعها إلى الانتفاخ والتضخم الهائلين اللذين يحولانها إلى أكوان ضخمة على غرار كوننا.
لكن هاتين الإجابتين لا تفيان تماماً بالغرض، حيث إنهما تكتفيان ببيان الإمكانات ولا تحددان الاحتمالات، ولا الآليات المفصلة لنشوء البذور الكونية وتحولها إلى أكوان ضخمة. كما إن مفهوم العدم الذي تنطويان عليه مفهوم ضبابي مبهم يعوزه التحديد الدقيق. فهل هو المكان الفارغ من المادة والطاقة، أم إنه المكان الذي تكون فيه طاقة المجالات الأولية للمادة عند حدها الأدنى، أم إنه حالة انعدام المكان والزمان والمادة والطاقة؟ وما معنى ذلك كله وما إمكانيته؟
وقد نشأ علم الكون الكونتمي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة ولبيان الاحتمالات والآليات المفصلة لنشوء الكون من العدم. والفكرة الأساسية هنا هي أن هناك محيطاً من البذور الكونية الممكنة الحدوث والمتنوعة المضمون، أي من حيث طبيعة هندستها وحالة المادة. لكن احتمالات حدوثها، أي انبثاقها من العدم، ليست متساوية. فبعضها مهمل الاحتمال، وبعضها الآخر عظيم الاحتمال. ولكن كيف نحدد هذه الاحتمالات؟ إننا نحددها تماماً كما نحدد احتمالات الإلكترون أو الفوتون، أي بمبادىء الميكانيكا الكونتمية ومعادلاتها، بعد توسيعها وتعميمها بالطبع. وقد جرى توسيع هذه المبادىء وتعميمها كونيا بطريقتين: طريقة هوكنغ وهارتل من جهة وطريقة فايلنكن ولندا من جهة أخرى. وبرغم بعض النجاحات التفسيرية التي حققها علم الكون الوكنتمي ممثلا بهاتين الطريقتين، إلا أنه ما زال في بداية الطريق، وأمامه الكثير من التحديات والتوضيحات، كما إن جل مفهوماته ما زالت مبهمة وضبابية.
وفي بادىء الأمر، فهم بالعدم المكان الفارغ من المادة والطاقة، وانصبت الجهود على اشتقاق وجود المادة بتنوعها من المكان الفارغ، سواء أكان منحنيا أم غير منحن، ارتكازاً إلى فكرة أن المكان الفارغ غير مستقر بفعل الذبذبات الكونتمية، الأمر الذي يدفعه إلى “الانهيار” إلى كون يعج بالمادة. لكن علم الكون الكونتمي سرعان ما تخطى ذلك إلى اعتبار العدم ليس فقط حالة انعدام المادة بتنوعاتها الزاخرة، وإنما أيضا حالة انعدام المكان والزمان، فكان عليه وضع تصور لانبثاق المكان والزمان والمادة من قلب العدم بهذا المعنى تحديداً. ووجد ضالته في طرائق ميكانيك الكونتم بعد تعميمها إلى أقصى حد. ووضع نصب عينيه: (1) اشتقاق وجود البذرة المكانية وآليات نشوئها؛ (2) اشتقاق شروط انتفاخ المكان بسرعة خيالية تفوق سرعة الضوء بمرات عديدة؛ (3) اشتقاق قوانين المادة وقوانين الزمكان من طرائق ميكانيك الكونتم المعممة؛ (4) اشتقاق توزيع المادة في المكان، وبخاصة توزيع المجرات؛ (5) اشتقاق اتجاه الزمن وكونه يسير في الاتجاه ذاته في كل نقطة مكانية. وهي مهمات كبيرة تحتاج إلى جهود نظرية جبارة وإلى حسابات تستلزم أعتى الحواسيب الممكنة.
وهنا يبرز السؤال الفلسفي الآتي: هي إن العدم (اللامادة واللامكان واللازمان)، الذي يتكلم عنه علم الكون الكونتمي، هو اللاشيء أو اللاوجود فعلاً؟ هل إن علم الكون الكونتمي يناقض، بطرحه ذاك، المبدأ الأساس للعقلانية والقائل بأن لا شيء ينبع من العدم؟
هناك ميل واضح لدى بعض الفيزيائيين صوب صدم قرائهم وإثارة دهشتهم وتحدي مخيالهم ومسلماتهم بتكرار مقولة أن الكون نبع من العدم المطلق بالضرورة – ضرورة مبادىء ميكانيك الكونتم المعمم. ولربما كان هذا الميل يعبر عن نزعة تسلطية لدى أولئك الفيزيائيين ورغبة مهنية في إخضاع غير المتخصصين لسحر رؤيتهم، وفي ممارسة استعلائهم المعرفي، وبث الرهبة والخضوع في نفوس الآخرين، وجعلهم يشكون في كل مسلماتهم ومقومات تفكيرهم. إنه أقرب إلى الآيديولوجيا منه إلى العلم بمعناه النقدي الصارم. فهم يغفلون أولا أن هناك غموضاً وإبهاماً مفاهيميا لا يجوز إنكاره في علم الكون الكونتمي. فلئن كان الغموض المفاهيمي ملازماً لمكانيك الكونتم العادي والمألوف، فما بالك بعلم الكون الكونتمي، الذي يتضاعف منسوب غموضه! ومن جهة أخرى، فإن كون العدم ينصاع إلى مبادىء ميكانيك الكونتم المعمم يشير إلى أنه ليس عدماً مطلقا، وإنما هو نوع من الوجود بالقوة. إنه نوع من العودة إلى أرسطو. بل إن علماء الكون الكونتمي يتحدثون عن السوبرمكان، الذي يتكون من جميع الاحتمالات المكانية والمادية. ألا يشكل هذا السوبرمكان الوجود بالقوة الذي يتحول إلى وجود بالفعل بفضل مبادىء الكونتم المعممة؟
يبدو لي أن هناك تأويلين عقلانيين ممكنين للعدم في علم الكون الكونتمي: فإما أن يكون العدم حالة كمون أي وجوداً بالقوة لجميع الاحتمالات والممكنات، كما أسلفنا، وإما أن يكون حالة سابقة (منطقيا) على المكان والزمان والمادة، بحيث تتركب الأخيرة وتنبثق من قلب هذه الحالة الأولية. وما زلنا بالطبع في البدايات الأولى للتنظير لهذين التأويلين.
(3) لقد دلت التطبيقات الأولى لمكانيك الكونتم على أن هناك طولاً أدنى وفترة زمنية دنيا لا يمكن تخطيهما إلى ما دونهما. وعليه، فإن النقطة الأصلية المنفردة إن هي إلا وهم كلاسيكي، حيث إن القوانين الكونتمية تحظرها وتحظر الوصول إليها. فهناك حجم أدنى للمكان، أصغر بتريليونات تريليونات المرات من حجم الذرة، لكنه محدود وأعلى من الصفر. وقد ولدت هذه التطبيقات الأولى الأمل في أن تتمكن ميكانيك الكونتم من حل مشكلة النقطة الأصلية المنفردة، الأمر الذي حدا الفيزيائيين النظريين إلى تكثيف جهودهم لتوحيد ميكانيك الكونتم مع نظرية النسبية العامة في نظرية شاملة واحدة، أي لبناء نظرية كونتمية في الجاذبية. وهناك حاليا عدد من المحالولات لتحقيق ذلك، وفي مقدمتها علم الكون الكونتمي، السابق ذكره، ونظريات الخيوط الفائقة. وفي حال نظريات الخيوط الفائقة، فإنها ليست مجرد نظريات في المادة تضاف إلى نظرية النسبية العامة من خارجها، كما كان عليه الحال في التطبيقات الكونية السابقة، وإنما هي نظريات شاملة في الوجود المادي تنبع منها نظرية المادة ونظرية الزمكان (النسبية العامة) بصورة طبيعية. ومن هذه الزاوية، فهي تعد تحقيقا لحلم آينشتاين في بناء نظرية مجال موحد شاملة للمادة والمكان والزمان. لكن هذه النظريات ما زالت مبهمة المعنى الفيزيائي، كما إن تطبيقاتها الكونية ما زالت في بداياتها. وهناك أمل في أن تتمكن هذه النظريات من تجاوز مشكلة اللانهايات، التي أثخنت جسد نظرية المادة والجاذبية حتى الآن، بما في ذلك مشكلة النقطة الكونية الأصلية المنفردة.
ومن الأفكار المثيرة، بصدد حل مشكلة النقطة الكونية المنفردة، ما طرحه ستيفن هوكنغ بصدد الزمان في نظريته في علم الكون الكونتمي. إذ رأى هوكنغ أن الزمن يبدأ يتحول إلى نوع من البعد المكاني قبل أن يصل إلى نقطة الصفر (نقطة البداية). ويتم هذا التحول بصورة تدريجية. بذلك، وبرغم محدودية عمر الكون، فإنه ليست هناك نقطة بداية زمنية محددة للكون، ومن ثم ليست هناك نقطة كونية أصلية منفردة. كل ما في الأمر أن الزمان والمكان الثلاثي المألوف ينبثقان بفعل قوانين الكونتم من فضاء رباعي أولي سابق منطقيا على الزمان. فإذا عدنا بالزمان إلى الوراء، فإنه يتحول إلى بعد مكاني قبل الوصول بنا إلى النقطة المنفردة. وهو مخرج مرضٍ منطقيا لمشكلة النقطة المنفردة، وإن كان شديد الإبهام والتجريد وليس هناك ما يدعمه رصديا بصورة مباشرة. لكنها فكرة جريئة على أي حال، وتحمل في باطنها أمل بناء إطار نظري جديد قادر على استيعاب ظاهرة الخلق والنشوء الكوني استيعابا علميا عقلانيا.
وختاماً، فإنه ينبغي القول إن علم الكون دخل منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين مرحلة جديدة في تاريخه تمثلت في تطوير أدوات كشف وتلسكوبات فضائية وأساليب في الرصد والحساب جديدة تتميز بدقتها المذهلة، التي تجعل من الممكن قياس الكميات الكونية بدقة قياسية، ومن ثم حسم كثير من المقولات الكونية، التي ظلت معلقة ردحاً طويلاً من الزمن. وبهذه التطورات المتسارعة صار بالإمكان الحسم بين النظريات الكونية، حتى تلك التي تتناول عملية الخلق والنشوء. لذلك فإننا لا نبالغ إن قلنا إن علم الكون وصل درجة النضج العلمي، وأنه لا ضير البتة في اعتباره علماً دقيقاً ناضجاً شأنه في ذلك شأن فروع الفيزياء الراسخة، كالفيزياء النووية وفيزياء الحالة الصلبة والفيزياء الفلكية. ولا شك أن العقد القادم سيكون عقد علم الكون، حيث من المتوقع أن يشهد ازدهاراً لا مثيل له في السابق، ويتجاوز بدرجات ما حققه هذا العلم من تطورات وقفزات طوال القرن العشرين الفائت.
المراجع
إذا أراد القارىء الكريم أن يتوسع في علم الكون من دون الدخول في التفصيلات الفنية والرياضية، فيمكنه الرجوع إلى الكتب والمقالات الآتية (الموجودة في مكتبتي الخاصة):
1. هشام غصيب، سيرورة التوحيد في الفيزياء المجال: الطريق إلى النسبية (من كوبرنيكوس إلى آينشتاين)، الجمعية العلمية الملكية والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، عمان، الأردن (1988).
2. هشام غصيب، دراسات في تاريخية العلم، دار التنوير العلمي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن (1993).
3. هشام غصيب، هل نشأ الكون من العدم؟ المضمون الفكري لنظرية النسبية العامة لآينشتاين، الأسس والمبادىء والاختبارات الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان وبيروت (1999).
4. Davies, P., God and the New Physics, Dent, London (1984).
5. Davies, P., Superforce: The Search for a Grand Unified Theory
of Nature, Heinemann, London (1984).
6. Davies, P., The Mind of God, Simon and Schuster, London (1992).
7. Eddington, A., The Expanding Universe, Cambridge Univ.
Press (1952).
8. Hawking, S., A Brief History of Time, Bantam, London (1988).
9. Hawking, S., and Israel, W., 300 Years of Gravitation, Cambridge
Univ. Press (1987).
10. Kaku, M., Hyperspace, Doubleday, London. (1994).
11. Layzer, D., Constructing the Universe, Scientific American
Library, New York (1984).
12. Narlikar, J. V., The Lighter Side of Gravity, Freeman, New
York (1982).
13. Pagels, H., Perfect Symmetry, Bantam, New York (1986).
14. Pagels, H., The Cosmic Code, Bantam, New York (1983).
15. Parker, B., Eintein’s Dream, Plenum, London (1988).
16. Singh, J., Modern Cosmology, Pelican, Penguin (1970).
17. Wald, R., Space Time and Gravity, Chicago (1977).
18. Wheeler, J., A Journey into Gravity and Spacetime, Scientific
American Library (1990).
19. Davies, P., About Time: Einstein’s Unfinished Revolution,
Simon and Schuster, New York (1996).
20. Davies, P., and Gribben, J., The Matter Myth, Simon and
Schuster, New York (1992).
21. Chown, M., Afterglow of Creation: From the Fireball to the
Discovery of Cosmic Ripples, Arrow, London (1993).
22. Callan, C., et. al., Cosmology and Newtonian Mechanics,
American Journal of Physics, (1964).
23. Hawking, S., and Penrose, R., The Nature of Space and Time,
Scientific American, (1997).
#هشام_غصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟