أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - مصطفى مجدي الجمال - فيروس الانقسامية في اليسار المصري















المزيد.....


فيروس الانقسامية في اليسار المصري


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 3435 - 2011 / 7 / 23 - 08:57
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
    


فيروس الانقسامية في اليسار المصري
والنظر في مرايا مهشمة
الحلقة الشيوعية الثانية نموذجًا
عرفت الحركة الشيوعية المصرية حلقات تاريخية متعددة.
بدأت الحركة الأولى مع إعلان الحزب الاشتراكي عام 1921 والذي جمع تيارات يسارية عدة من الفابيين واللينينيين والديمقراطيين والقوميين.. ولكن الحركة الأولى تعرضت للتصفية تحت الضربات الأمنية وبفعل الصراعات بين أجنحة الحزب والتدخل ثقيل الوطأة للكومنترن في الحياة الداخلية للحزب.
وبدأت الحركة الثانية في أوائل الأربعينيات منقسمة أصلاً في صورة ثلاثة تنظيمات متناحرة كان على رأس كل منها قائد "يهودي"، ثم انضم إليها تنظيم رابع رئيسي في أوائل الخمسينيات ادعى لنفسه التمثيل الأممي والطابع "الوطني".. ودخلت هذه المنظمات في سلسلة عجيبة من الاتحادات والانقسامات والانفجارات.. وارتكبت من الأخطاء السياسية والتنظيمية- خاصة فيما يتصل بالعلاقة وثورة يوليو- ما جعلها في نهاية الأمر تصدر الحكم بالإعدام على نفسها في منتصف الستينيات..
غير أن النكسة العسكرية في يونيو 1967 سرعان ما أدت إلى إعادة تشكيل حلقات ماركسية تبلورت في نهاية الأمر في ثلاثة تنظيمات كبيرة نسبيًا في منتصف السبعينيات.. ودخلت هذه التنظيمية في صراعات عنيفة فيما بينها وداخلها، أنتجت المزيد من الانقسامات والانفجارات أيضًا..
واليوم بعد ثورة 25 يناير 2011 عادت التنظيمات اليسارية للبروز بقوة نسبيًا وبصورة علنية تمامًا.. فهناك التحالف الشعبي الذي يضم: تيار التجديد الاشتراكي (التروتسكي) المنشق عن منظمة الاشتراكيين الثوريين، مع التيار المنشق عن الخط اليميني لقيادة حزب التجمع، وعناصر أخرى من اليساريين "الديمقراطيين". وهناك أيضًا حزب العمال الديمقراطي الذي يضم أساسًا قيادات من منظمة الاشتراكيين الثوريين إلى جانب الكثير من العناصر النقابية والمثقفين اليساريين. كما أعلن الحزب الشيوعي المصري عن نفسه بعد أن فضلت أغلب قياداته الخروج من الهيكل التنظيمي للحزب والاكتفاء بالمناصب القيادية في حزب التجمع. وكان ظهور الحزب الاشتراكي المصري تطورًا جديدًا في الأحداث حيث أكد على طابعه كحزب غير أيديولوجي وضم المئات من العناصر الثورية والتقدمية الآتية من كل الاتجاهات الماركسية واليسارية.. إلى جانب موجة من الشباب الجديد الذي أفرزته الحركة الثورية في السنوات والشهور الأخيرة..
وبات السؤال المطروح على كل المنظمات الجديدة هو إلى متى يمكن أن يستمر هذا الانقسام؟ بينما يتساءل آخرون عن الحكمة من تصور وجود منظور يساري واحد يجب أن ينتظم أصحابه في تنظيم حزبي واحد..
وقد وعدت أصدقائي وزملائي الشباب بأن أنشر هنا بتصرف هذه المحاضرة التي سبق وأن ألقيتها قبل عدة سنوات في الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وتناولت فيها الانقسامية في الحلقة الشيوعية الثانية كنموذج للتحليل قد يفيد في بلورة رؤية الوحدة في الظرف الراهن:-
ترك التيار الماركسي بصمات واضحة على الحياة الفكرية والسياسية في مصر، وبدرجة أكبر كثيرا من إنجازاته التنظيمية. ولعل الانقسام والتشظي من أهم السمات الواضحة في هذا الصدد. وقد بلغت هذه السمة ذروتها في الحلقة الثانية من تاريخ الحركة الشيوعية التي بدأت أواخر الثلاثينات من القرن الماضي وانتهت في منتصف الستينيات مع حل تنظيمات الحركة لنفسها كي تتوحد في "الحزب الثوري الواحد" للناصرية. وقد استمرت هذه النزعة الانقسامية في الحلقة الثالثة التي بدأت في السبعينات، وإن لم تصل حد التشظي والتلاشي الذي بلغته الحلقة التاريخية السابقة عليها.
ومن الأمور اللافتة للنظر بقوة أن هذا التيار ذاته كان أكثر روافد الحركة الوطنية المصرية اهتماما بالتأريخ لنفسه، ومن تيارات أخرى أعرض منه بكثير. ويمكن تفسير هذا بأن التيار الشيوعي على وعي شديد بالتاريخ وعلمه، وقد امتلك كوكبة من المثقفين بدرجة أعلى نسبيا من أي تيار آخر. ولعل شعور المنضوين في هذا التيار بالغبن الكبير الواقع عليهم لتشويه نضالاتهم أو طمسها في الكتابات التاريخية والسياسية والدعائية، هو ما يجعلهم أكثر احتياجا من غيرهم إلى تسجيل تاريخهم بأيديهم. ولكن يظل هناك عامل آخر، وثيق الصلة بالموضوع الذي نتحدث عنه هنا، ألا وهو التاريخ الحافل بالانقسامات، والذي يزيد من حرص جميع الأطراف على تبرئة الذات وغسل الأيدي والرد على اتهامات الرفاق.
"جديد" الشفاهي
يتبنى "مركز البحوث العربية والأفريقية" بالقاهرة منذ أوائل التسعينيات مشروعا طموحا في هذا الصدد بالتعاون مع "لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى العام 1965" تحت إشراف المؤرخ المعروف الدكتور عاصم الدسوقي. وقد صدر عن المشروع حتى الآن سبعة مجلدات تضم العشرات من شهادات المناضلين، فيما يعد إضافة قيمة للتاريخ الشفاهي لهذه الحركة.
وقد تضمنت الشهادات معلومات تفصيلية كثيرة لم ترد في دراسات سابقة، وأنارت العديد من الجوانب المعتمة، غير أن أهم ما قدمته على الإطلاق هو استحضار الأجواء الداخلية – وحتى النفسية – بشكل مفيد جدا في تفهم مدى التفتت وبواعثه والتراشق بالاتهامات. بل إن غلو النزعة الانقسامية لم يغادر أصحاب تلك الشهادات رغم مرور عشرات السنين على تلك الخبرة.
ولا تعتبر الشهادات الشفهية وثيقة تاريخية مكتملة في حد ذاتها، حيث تحتاج إلى المضاهاة والمقارنة في ضوء العديد من الوثائق والقرائن التاريخية الأخرى. وهذا ما أكدته الشهادات المنشورة ذاتها، حيث شابها بالطبع قصور الذاكرة البشرية والنزعة التبريرية وروح التحزب وإصدار الأحكام على الماضي انطلاقا من معطيات حاضر يبعد عشرات السنين. ناهيك بالطبع عن كون الشهادات المنشورة لا تشمل بالطبع جميع الفئات والمستويات التنظيمية.
غلو!
تقابلنا واقعة طريفة وردت في شهادة "جنفيف سيداروس" التي طولبت بتقديم نقد ذاتي لأنها أعطت "صابونة" لزميلتها في الزنزانة "ماري بابادوبلو" المنتمية لفصيل شيوعي آخر (ج 3- ص14). وعلى عكس هذه الصورة الكاريكاتورية شديدة التكثيف تجيء الرواية التراجيدية في شهادة "ثريا حبشي" التي كانت منتمية لتنظيم غير الذي ينتمي إليه زوجها، فطلبت منها مسؤولتها "أوديت حزان" تجنيد زوجها في التنظيم، ولما فشلت في هذا قيل لها: "يجوز أنه ليس خائنا، لكن طالما أنه مصر علي المضي مع هؤلاء الناس فإنه في النهاية سيخون." وفي النهاية حينما فشلوا في إجبارها على طلب الطلاق من زوجها قاموا بتنحيتها جانبا (ج1- ص116).
وقد أورد أصحاب الشهادات مبررات لهذا الانقسام، مترابطة ومتداخلة ومتراتبة، لا يجوز الفصل بينها تماما، إلا لضرورات التحليل. وهذا ما سنحاول عرضه والتعليق عليه.
التركيب الطبقي
يقول "يوسف ماضي" (ج6- ص276) إن كل تنظيم كانت تقوده مجموعة من المثقفين وقواعده مكونة أساسا من الطلبة. ويضيف أن التنظيمات التي تمكنت من ضم عدد من قيادات العمال "لم يتم إعدادهم ككادر مسلح بالنظرية الماركسية لديهم القدرة لبناء حزب الطبقة العاملة".
ويقول "علي نجيب" إنه كثيرا ما كانت "تظهر أفكار المثقفين شديدة التنوع ومحكمة الاختلاف حول قضية ثانوية تتحول لانقسام" (ج6- ص221).
ويضيف المناضل العمالي "سيد ندا" أن الحركة لم يكن يوجد بها العدد الكافي "ممن يكتوون بالصراع الطبقي. وإن وجد بعض العمال، فإنهم لم يؤسَّسوا نظريا بالقدر الكافي الذي يمنعهم من الانحراف". وأرجع شغل بعض العمال لمناصب قيادية في بعض التنظيمات إلى عنصر الولائية قبل أي شيء آخر (ج2- ص49).
ويؤكد "إسماعيل عبد الحكم" الناشر المعروف على نفس المعني، ويضيف أن الحركة "لم تقترب من الفلاحين"، وإن أرجع هذا إلى الضربات الأمنية المتلاحقة (ج6- ص71).
أما الأديب "رمسيس لبيب" فيرجع جزءا من الانقسامية إلى تاريخ القهر الطويل الذي جعل المثقفين "يتصفون بدرجة عالية من الذاتية" (ج3- ص116). ورغم اعتراف المفكر الكبير"سمير أمين" بهذا الواقع الطبقي لعضوية الحركة الشيوعية، فإنه لم يحاول تفسير أثره في الميل الانقسامي واكتفى بالقول "إن المثقف يميل بطبيعة إلى الاهتمام بالأبعاد الفلسفية والحضارية للمشروع الشيوعي" (ج6- ص117).
وفي ظننا أن هذه التفسيرات المبنية على الطبيعة الطبقية أقرب إلى "التبرير القدري"، وقد تفيد أكثر في تفهم انعزالية الحركة عن الطبقات الشعبية، ولكنها لا تكفي لفهم الظاهرة الانقسامية. ذلك أن المثقفين والبرجوازية الصغيرة كانوا أيضا في قيادة العديد من التيارات الوطنية الأخرى، ومع هذا لم تعرف تلك الأخيرة ذلك المستوى العالي من الممارسات الانقسامية.
ويرى الكاتب أن بعض التنظيمات قد نجحت بالفعل في التماس الحقيقي مع الحركة العمالية ولعبت دورا مهما في التنظيم النقابي (خاصة حزب العمال والفلاحين)، كما نجح تنظيم "حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) في القيام باختراقات محدودة للريف، إلا أن هذا لم يتناسب مطلقا مع ما ادعته هذه التنظيمات لنفسها كأحزاب للطبقة العاملة.
وتبقي هناك أسئلة لم يجب عنها بعد، مثل لماذا لم تنجح التربية النظرية في تغيير ذاتية المثقفين؟ أم أن سمات الذاتية والفردية واللجاج والمماحكة والتهوس بالفكرة الواحدة قد باتت مثل التضاريس التي تصمد في وجه كل عوامل التغيير النفسي؟
ومن الناحية المقابلة هل يكفي القصور النظري لتفسير عدم نجاح الكوادر العمالية في فرض قبضتهم على التنظيم؟ أم أن الغلبة كانت لعوامل الإفساد التي حولتهم أيضا إلى السطحية والتصلب والمزاج التشاجري التخويني، في ظل وعي سطحي بالنظرية والواقع واعتداد مريض بالرأي في آن؟
"مركزية" الديمقراطية
في شهادته المهمة يقول "مارسيل تشيريزي" أحد اليهود الثلاثة مؤسسي التنظيمات الرئيسة في أوائل الأربعينيات إن اللجنة المركزية لتنظيم "حدتو" (وهو غير تنظيمه) كانت "تغير تركيب أعضائها باستمرار عن طريق الفصل والانتخاب الذاتي.. أما الكادر والقاعدة فكانا على جهل تام بكل هذه التغييرات. والشيء الوحيد الذي كان يصل إليهم هو صدى الخلافات والصراعات في اللجنة المركزية" التي لم يكن لها "أي اتصال فعال وحقيقي مع القاعدة ولم تسمح بقيام نقاش داخلي بل ورفضت حتى انعقاد مؤتمر أو كونفرنس محدود" (ج1- ص33).
غير أن "رمسيس لبيب" يؤكد أن "كل التنظيمات بلا استثناء قامت في بنائها التنظيمي على المركزية وليس المركزية الديمقراطية، ولم توجد في أي تنظيم آلية لتغيير القيادات أو السياسات، الأمر الذي كان يدفع في كثير من الأحيان إلى الانقسام" (ج3- ص117). ويضيف "محمود عزمي" الكاتب في الشؤون الاستراتيجية "إن الخط السياسي كان يفرض دون أن يؤخذ رأي الناس فيه.. وكان هناك قمع معنوي للآراء المضادة" (ج5- ص185).
ويعمم "سمير أمين" هذا القول باعتباره أن هذه هي السمة السائدة لأحزاب الأممية الثالثة التي "لم تدرك ضرورة رفض مبدأ الاحتكار العقائدي"، وأوضح أن بعض الممارسات الديمقراطية التي تمت بالفعل "لم تتجاوز الحدود البرجماتية في أفضل الظروف" (ج6- ص119).
إلا أن هذا ينقلنا إلى تفسير آخر للمفكر الكبير "محمود أمين العالم" يربط غياب الديمقراطية الداخلية بالطبيعة السرية للتنظيمات حيث يقول "إن وجود الديمقراطية في الأحزاب الشيوعية السرية عملية صعبة، وخاصة في إطار أحزاب ليست جماهيرية، وليس لديها مشروع اقتصادي- اجتماعي- ثقافي شامل وواضح ومحدد ومترجم إلى خطط عمل" (ج5- ص171).
وهنا يثور التساؤل عن مدى استيعاب القيادات الشيوعية للمركزية الديمقراطية وإخلاصها لها؟ أم أن هذه النظرية في التنظيم تنزع بالضرورة – أو عمليا – إلى مركزية/ فردية متطرفة في ضوء العوامل الإنسانية والطبقية والنضالية؟ وهل يمكن فصل هيمنة المثقفين – والقيادات اليهودية في بعض التفسيرات – عن غياب الديمقراطية الداخلية خشية منهم لفقد القبضة التنظيمية، ومن ثم وقوع الحركة في ما يعتبرونه أخطاء وانحرافات؟
وبماذا نفسر أن تنظيمات وطنية أخرى كانت سرية وغير ديمقراطية، ومع هذا لم تعرف هذا المزاج الانقسامي العنيف؟ في الحقيقة أن السرية ربما أفادت في تحقيق شيء من الحماية والانضباط للمنظمات، لكن غياب الديمقراطية الداخلية كان كفيلا بتحقيق الانفراط. والغريب أن مناسبات ممارسة الديمقراطية من نشرات للصراع الفكري أو مؤتمرات داخلية، كانت هي نفسها مقدمات الانقسام القادم.
النصية/ السلفية
ويتبين من الشهادات كيف أن النزعة النصية/ السلفية مثلت قصورا واضحا، خاصة في ظل عدم وضع هذه النصوص في سياقاتها التاريخية للتفرقة الضرورية بين ما هو قومي وما هو أممي، وبين النظرية والنموذج. فشاعت عبادة النصوص وهيمنة المفسرين وتعددت المذاهب، ومن ثم شاب العقم الطروحات والبدائل.
يقول "سعيد مصطفى" إن المنظمات فهمت الماركسية "على أنها فكر لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، الماركسية فهمت على أنها آخر كلمة" (ج3- ص165). ويؤكد السوسيولوجي "أحمد القصير" أن "الوعي النظري اتسم بالضعف عند الجميع. ومن الخطأ القول بأن هذا التظيم تميز بالفعل الجماهيري وأن التنظيم الآخر تميز بالعمق النظري". ويفسر هذا الضعف تفسيرا ملفتا بقوله "إن ظروف القهر من جانب السلطة لم تتح لأحد أن يلتقط أنفاسه" (ج5- ص28).
ويربط "سمير أمين" بين هذه الروح النصية الجامدة وبين ما سبق ذكره عن "مبدأ الاحتكار العقائدي" ويقول في عبارة صافية "إن الفهم العقائدي السائد في الحركة الشيوعية المصرية لم يتح مساحة لقبول التنوع. فالاختلاف كان ينسب دائما إلى انحراف يميني أو يساري، وفي ظل تعدد المنظمات الشيوعية المصرية التي زعم كل منها أنها تمثل الحزب الحقيقي القائم على أساس العقيدة الصحيحة.." (ج6- ص139).
وأسهمت الاختلافات حول طبيعة المرحلة الثورية وطبيعة السلطة وأساليب العمل والتنظيم في تعميق الانقسامات، وأصبحت المعول الرئيس لها. حتى ليقول الفنان "عدلي برسوم" في عبارة مؤسية "ضاعت سنوات العمر في مناقشة: ثورة أم ثورتان؟ كما لو كان من طبائع الأمور أن تطل بين الحين والآخر خلافات نظرية طويلة الأمد ليبقى الانقسام طويلا" (ج1- ص137).
ومع هذا ينبهنا "سمير أمين" في شهادته إلى عدم الاستهتار بأن التناقض بين البعد الوطني والأبعاد الاجتماعية والفكرية كان مصدرا موضوعيا للالتباس والانقسام.
وإذا كانت التبعية أو المرجعية الفكرية لمركز أممي واحد هي من أهم أسباب شيوع النصية، فمن المثير أن الشيوعيين المصرييين لم ينعموا أصلا – بسبب انقسامهم وأسباب أخرى – بالانضمام لهذه الأممية. ولعل هذا هو ما دفع الناشر "محمد الجندي" إلى استنتاج أن عدم الاعتراف الأممي "أي عدم الارتباط بمركز دولي واحد وعدم وجود مرجعية واحدة" هو من أسباب "نشأة الحركة منقسمة واستمرارها كذلك" (ج2- ص190).
ومما زاد من فداحة النصية والتراشق والتباعد بين أصحاب التحليلات المختلفة، تلك التطورات والتقلبات الكبرى التي مرت بها مصر بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت تحليلات قلقة وشديدة التباين، حيث طلب القادة الغوث من النصوص لدعم مواقف اتخذوها قبلا مع سبق الإصرار! ولعل هذا يفسر تلك التقلبات المدهشة في المواقف من ثورة يوليو، دون إيلاء كبير اهتمام لبناء هذه المواقف على المعرفة بكل متناقضات الواقع والمرحلة وموازين القوى.
الأجانب واليهود
يتساءل "بدر رضوان"، وله كل الحق، عن الثلاثة (هليل شوارتز، مارسيل إسرائيل أو تشيريزي، هنري كورييل) الذين أنشاوا ثلاثة تنظيمات في وقت واحد أوائل الأربعينيات، فيقول "كانوا من الأجانب واليهود، فلماذا لم يتفقوا وهم قريبون من بعضهم ثقافة وهوية وجنسية على إنشاء منظمة واحدة على أن يكون الصراع الفكري سبيل توحد آرائهم في داخل المنظمة الواحدة" (ج6- ص85). غير أن الأمر لا يمكن أن يقف عند هذا التبسيط، خاصة في ضوء حديث "محمود أمين العالم" عن امتلاك الأجانب للوعي النظري وترجمتهم للكتب السوفيتية.
ويقول "إسماعيل عبد الحكم " إن الطابع الانقسامي للحركة "جاء نتيجة نشأتها على يد الأجانب، وبالتالي ليست مبرأة من التدخلات الأجنبية" (ج6- ص70). ويقول "عدلي برسوم": "كان يبدو لي أحيانا أن هناك إصرارا من بعض القيادات على عدم الاقتناع بوجهة نظر الآخر إذا كانت صحيحة بالفعل حتى لاتفقد الزعامات مواقعها، علما بأنها زعامات سرية لا نجومية فيها ولا شعبية" (ج1- ص137).
وينقلنا القائد العمالي "شحاتة عبد الحليم" إلى مستوى آخر من الريبة حينما يتحدث صراحة عن دور لإسرائيل في تعميق الانقسام (ج4- ص177). ويقترب الأديب "شريف حتاتة" من هذه الرؤية حيث يقول "ربما حاولت الحركة الصهيونية أن تلعب دورا داخل الحركة الشيوعية كما كانت تلعب المباحث داخل الحركة اليسارية. وقد كانت المباحث تتعامل مع الصهاينة" (ج3- ص180).
غير أن عددا من الشهادات قد تناول ما اعتبره دورا خاصا لـ"هنري كورييل"، حيث يتهمه "نبيل قرنفلي" مثلا بالمطالبة بحق تقرير المصير للمستوطنين اليهود، ومعاداته لرابطة مكافحة الصهيونية خوفا من تحول الهجوم على الصهيونية إلى معاداة السامية، ونصحه للشباب اليهودي المهاجر بالذهاب إلى إسرائيل للقيام بدور ثوري هناك (ج4- ص243).
ومع ذلك يحذر الكاتب "بهيج نصار" مما أسماه "تضخيم دور اليهود في الصراعات التي قامت بين الشظايا التي خرجت من قلب حدتو نفسها.. حتى أصبح الخلاف بين هنري وشوارتز ومارسيل حول تمصير الحركة هو القضية الأولى" (ج4- ص77). ويميل "محمد الجندي" إلى اعتبار دور الأجانب طبيعيا في ضوء الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، وضعف قبضة الدولة تجاههم، وبسبب موقف اليهود ضد الفاشية. ومن ثم يحصر أسباب الانقسامية في "الصراع بين تيارين ثوري توحيدي وانتهازي انقسامي" (ج2- ص174).
غير أن هناك شبه إجماع في الشهادات بأنه كان يتوجب على القيادات الأجنبية واليهودية أن تتنحى في فترة معينة. ومع هذا يعترف "سعد الطويل" بأن موقف حزب "الراية" من اليهود كان "عنصريا شوفينيا" (ج1- ص70). ويقول "إسماعيل عبد الحكم": "لم يكن يهمنا وجود أربعة من اليهود داخل التنظيم (الموحد) لكن عندما قيل لنا إنهم سوف يسلمون كانت مسألة مثيرة للسخرية" (ج6- ص50).
ونود أن نثير هنا بعض النقاش مع نظرية المؤامرة، في مقدمتها التساؤل عن مدى وجاهة الاستبعاد الكلي لاحتمال رفض اليهود للتنحي والتوحد بسبب حرص القيادات على الاحتفاظ بحقوق "المؤسسين"؟
غير أن المدهش في المقابل أن يغيب عن أولئك النابهين من الأجانب والمتمصرين صعوبة استمرارهم في قيادة فصيل وطني في بلد يموج بالنضال ضد الأجنبي. أم أنهم كانوا يتصورون حدوث تحول كبير في القيم المجتمعية السائدة يصعب توقعه قبل إنجاز الثورة الديمقراطية وتحول ثقافي جذري؟
من شبه المؤكد – حسب الشهادات – أن القيادات الأجنبية كانت مستريحة في الوضع الحلقي. بل إن هذه القيادات ذاتها كانت موضوعا ودافعا للانقسام. وهي أيضا القيادات التي سعت إلى وحدات اندماجية مبتسرة، وكذلك لعبت دورا في تفكيك هذه الوحدات.
وتبقى في النهاية ملاحظة أنه من غير الدقيق التعامل مع الأجانب واليهود على مستوى واحد. فمنهم من تمصر، ومنهم من ترك الوطن بسهولة فائقة، ومنهم من أبعد عن الوطن قسرا وظل مرتبطا به. كما أنهم لم يكونوا شيئا واحدا، فمنهم العامل والمدرس والمرابي. ثم نتساءل عن المنظومة القيمية التي كان هؤلاء يريدون إشاعتها في مصر. فهل كانوا على دراية واستيعاب عميقين لحقائق الثقافة الوطنية؟ أم كانوا يتصورون أن القيم الطبقية والهوية الأممية تكفيان؟ وهل يصلح هذا لكل المراحل؟ وألم يحدث فروقا ثقافية حتى مع أقرب الدوائر الحزبية؟
المزيد من "البانوراما"
حفلت الشهادات بذكر العديد من العوامل الأخرى التي احتلت مرتبة ثانوية في تفسير النوازع الانقسامية، مثل الاختراقات البوليسية، والريبة التالية لكل ضربة بوليسية، فضلا عن سنوات الاعتقال الطويلة بثقلها اللا إنساني على أعصاب وعواطف المناضلين. كما أن غياب القيادات وراء القضبان كان يفرخ هو الآخر أجواء انقسامية داخل وخارج السجن.
ويشير البعض إلى عدم رسوخ الثقافة الديمقراطية في المجتمع. ويتحدث آخرون عن آليات الاستعلاء ممثلة في "نظرية النمو الذاتي" ومقولة "لا شيوعية خارج الحزب" وتلطيخ سمعة الآخر، فضلا عن ممارسة الإيهام بالقوة وعدم الحاجة إلى الاتحاد مع آخرين.
غير أن التفسير الأشد لفتا للنظر هو القائل بأن الوحدات الاندماجية غير المبدئية كانت تستهدف أساسا القضاء على الآخر والسطو على كوادره، أى أنها كانت تتم بروح انقسامية وتنتهي إلى المزيد من الانقسامات!
انظر مثلا "سامي عجيب" وهو يقول "..لقد كانت وحدة فوقية سهلت الانقسام.. كما أنها كشفت كل كوادر المنظمات جميعا (السري منها والعلني) وأصبحت كل إمكانيات وقوات وكوادر الحزب معروفة للمباحث العامة" (ج5- ص77).
كلمة أخيرة
يمكن القول إن انقسامات الحركة الشيوعية قد فاقت من الناحية الكمية أي انقسامات عرفها تيار وطني آخر. كما صاحب هذه الانقسامات مناخ صاخب من الاتهامات، أي أنها أنهكت الحركة وأعاقت أدوارها المفترضة وحطمت حتى بنيتها المنقسمة. ويلاحظ أن هذا النزوع الانقسامي كان يزداد في فترات جزر الحركة الجماهيرية. وقد كانت الانقسامات تنظيمية أو حلقية في جوهرها وإن اكتست بصبغة سياسية زاعقة.
ولا نعتقد بالطبع أن العوامل المذكورة الدافعة للانقسام متساوية الأهمية، وهي أيضا قد تغذت على بعضها البعض ولا يمكن الفصل بينها بحال من الأحوال. فالأحزاب المركزية الأوامرية (رغم الادعاء بالمركزية الديمقراطية)، والمدفوعة إلى العمل السري، وذات تلك النشأة الخاصة المذكورة والمتصلة، وذات الكهنوت النظري، والملاحقة من البوليس السياسي، والمعزولة عن جماهير تدعي التعبير عنها، والمحاكية والمقدسة للنموذج السوفييتي، والمرتبكة أمام التقلبات الدولية والإقليمية والوطني على مختلف الصُعُد... هذه الأحزاب مصيرها الحتمي هو التخبط في أزمة وجودية عنيفة، لا يعدو الانقسام إلا أن يكون أحد ملامحها.
وفي هذا الصدد تتحمل القيادات الحزبية المسؤولية الأكبر عن شيوع التشرذم، حيث يفترض أن تكون الأكثر وعيا وانتماء واستعدادا للتضحية والإيثار. فارجع للقيادة تربت يداك!



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفطام الذي طال انتظاره
- المال السياسي
- الإخوان وأمريكا .. الغزل الماجن
- الديمقراطية .. والمدرب الأجنبي !!
- إنقاذ الثورات العربية من الاختراق
- ترجمة أفريقيا
- إصلاح الشرطة يبدأ من -كشف الهيئة-
- ميلاد الاشتراكي المصري.. والسماء تتسع لأكثر من قمر!!!
- الجبهة في بلاد العرب (محاولة في تنظير الواقع)
- عودة الدكتور -بهيج-
- الاشتراكي والعربي .. منظور مصري
- حوار مع كريم مروة
- جوهر الديمقراطية الضائع
- صناعة المشاهير في خدمة الثورة المضادة
- المجلس العسكري وحكمة الجنرال -علي زيوار-
- الثورة كأمر واقع .. الحالة المصرية
- إلا السيناريو السلفي


المزيد.....




- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- محاضرة عن الحزب الماركسي / الحزب الشيوعي السوداني
- نَقْد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 1/2 / عبد الرحمان النوضة
- اللينينية والفوضوية فى التنظيم الحزبى - جدال مع العفيف الأخض ... / سعيد العليمى
- هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟... / محمد الحنفي
- عندما نراهن على إقناع المقتنع..... / محمد الحنفي
- في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة / عبد الرحمان النوضة
- هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟... / محمد الحنفي
- حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك ... / سعيد العليمى
- نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس ... / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - مصطفى مجدي الجمال - فيروس الانقسامية في اليسار المصري