أخبار الشرق - 25 آب 2002
ينعقد في العاصمة البريطانية لندن، وبدعوة من جماعة الإخوان المسلمين السورية، مؤتمر للحوار الوطنيّ السوري، من المتوقع أن ينعكس فيه موشور عريض للتيارات السياسية والحزبية السورية المعارضة، سواء في صفات تمثيلية حزبية، أو في صفات شخصية ولكنها مع ذلك ترتكز على خلفية تمثيلية لا تخفي. والغرض الأساسي من هذا المؤتمر هو مناقشة مشروع ميثاق الشرف الوطني الذي طرحته الجماعة مطلع شهر أيار السنة الماضية، وتضمّن ما يشبه الانتفاضة الداخلية أو الانقلاب السلمي على الذات لجهة تنازل الإخوان عن ثوابت كبرى في عقيدتهم: اعتماد خطاب معتدل تماماً، ونبذ العنف المسلح، واعتناق معظم المطالب الديمقراطية التي أجمعت عليها الأحزاب السورية المعارضة وممثّلو منتديات المجتمع المدني، وتبنّي مبدأ التعددية السياسية (الأمر الذي يعني عملياً إغفال، إنْ لم نقل إسقاط، اشتراط الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة تالياً).
وفي مستهلّ الوثيقة كانت الجماعة قد أشارت بوضوح إلى أنه ولّى الزمن الذي يدّعي فيه حزب أنه الوطن، وقصارى أمر أيّ فريق سياسي أن يأخذ مكانه على الخريطة الوطنية، بالحجم الذي تمنحه إياه مرتسماته الواقعية، عبر صناديق اقتراع حرّ ونزيه. وحول الطيف السياسي الذي تتوجّه إليه الجماعة، تقول الوثيقة: من هنا تأتي دعوتنا إلى المشاركة في الحوار حول مشروع هذا الميثاق مفتوحة لجميع القوى السياسية، والشخصيات العامة (الفكرية والثقافية ..)، فتحت خيمة الحوار الوطني ليس أحدٌ بأولى بالوجود من أحد، وليس لأحد أن يفرض الوصاية على أحد. وربما وضّح الحوارُ مبهماً، أو ردم هوّة، أو ضيّق فرجة، وكلّ هذا مما يوحّد الموقف ويدفع المسيرة، ويُعلي البنيان.
وفي الدعوة إلى عقد مثل هذا المؤتمر تبدو الجماعة وكأنها، دون أن تقصد على الأرجح، قد سجّلت نقطة سبق على حركة المعارضة السورية في الداخل، أي على أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي بصفة خاصة، ثمّ على ممثّلي المنتديات والمثقفين ورجال الفكر السوريين. الطبيعيّ، والأكثر جدوى دون ريب، هو أن ينعقد مثل هذا المؤتمر الحواري العريض في دمشق أو حلب أو اللاذقية، بصفة علنية (وهو الأفضل والأرقى)، أو بصفة نصف علنية نصف سرّية (وهو أضعف الإيمان). وليس هذا بالمطلب التعجيزي أو المستحيل، خصوصاً بعد أن بادرت بعض أحزاب التجمّع إلى عقد لقاءات وندوات واحتفالات علنية، وبعد أن بات العمل العلني جزءاً لا يتجزأ من أبجدية العمل السياسي المعارض في سورية الراهنة.
المدهش، مع ذلك، هو الموقف السلبي الذي اتخذته قيادة التجمّع، وجاء خصوصاً على لسان السيد حسن عبد العظيم الناطق الرسمي باسم التجمّع والأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي الناصري، في إعلانه الاعتذار عن المشاركة في مؤتمر لندن. وإذْ أستخدم صفة السلبي في توصيف موقف عبد العظيم و التجمّع، فلأنني لا أرى أي جانب إيجابي آخر في تعامل أحزاب المعارضة السورية مع الدعوة الإخوانية، أو مع مسألة الحوار الوطني العريض بأسرها في الواقع. والعبارات المهذبة التي استخدمها عبد العظيم في تبرير الاعتذار لم تكن كافية لتغطية ذلك المزيج من الحذر والحرج والتبرّؤ العلني من دعوة الجماعة.
لا أحد، بالطبع، يطالب أحزاب التجمّع أو الشخصيات المستقلة أو المثقفين ورجال الفكر في سورية بالطيران فوق قيود وحدود الأجهزة الأمنية السورية، أو بالإقدام على خطوة دراماتيكية تنطوي على تحدّ صريح للسلطة. الكلّ يعرف ظروف أهل الداخل، والكلّ يقدّر هذه الظروف ويتفهّم اعتباراتها السياسية والأمنية. ولكن ألم يكن في وسع أحزاب التجمّع أن تشارك من خلال ممثّليها في الخارج؟ ألم يكن من الواجب على هذه الأحزاب العلمانية أن تقترب خطوة واحدة من حزب إسلامي في الجوهر، ولكنه يقرّر اليوم الاقتراب خطوات من الديمقراطية والتعددية و.. العلمانية؟ ولماذا يجب تصديق وتحية حزب شيوعي سوري لأنه أسقط المبدأ اللينينيّ الأساسي القائل بدكتاتورية البروليتاريا، ويجب في الآن ذاته التأنّي في ملاقاة تطوّرات مماثلة يشهدها خطاب الإخوان السياسيّ والعقائدي؟
مدهش، أيضاً، أنّ الاعتذارات العلنية أخذت تتقاطر وتتوالى في صيغة مقالات صحفية، وكأنّ الاعتذار عن طريق الفاكس أو الهاتف أو البريد الإلكتروني بات متعذراً! ليس أقلّ إدهاشاً أنّ معظم هذه الاعتذارات المقالات تبدأ بالحديث عن موقع شرعي للجماعة في الحركة الوطنية السورية المعاصرة، ثمّ تنتقل خطوة تالية لكي تسبغ آيات المديح على التطورات الواضحة التي شهدها خطّ الإخوان السياسي وخطابهم العقائدي والفكري والثقافي أيضاً، ولا تشكك البتة في ضرورة مشاركتهم وإشراكهم في أيّة صيغة متقدّمة للعمل الوطني، إلخ .. إلخ .. ولكنها تنتهي دائماً عند التصريح بأنّ الوقت ما يزال مبكراً أو أنّ الشروط لم تنضج بعد!
ويحضرني في هذه المناسبة تعليق المناضل والشخصية الوطنية الكبيرة رياض الترك، الأمين الأوّل للحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، حول موقع الحركة الإسلامية في العمل الوطني السوري، وذلك في الحوار المطوّل الذي أجراه معه محمد علي الأتاسي ونُشر في صحيفة الحياة اللندنية مطلع عام 2000.
الأتاسي سأل الترك عن موقفه من الإسلام السياسي ودور حركة الإخوان المسلمين ومكانتها كحركة سياسية في المستقبل السياسي لسورية، فأجاب: أنا أعتبر أنّ للإخوان المسلمين كحزب سياسي الحقّ في الوجود والعمل السياسي، ولكن عليهم أن يعيدوا النظر في السياسات التي سلكها بعض أطرافهم في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، وأن ينبذوا طريق العنف ويسيروا في الاتجاه الديمقراطي. وأرى أنه يجب ألا تكون موانع من وجود تيار سياسي يستلهم التراث الديني، لكن شرط ألا يستغلّ ولا يحتكر الدين، وألا يكفّر الناس. وأعتقد بأنّ التجربة الأخيرة لا بدّ أن تدفع بالعقلاء من الإخوان إلى أن يؤسسوا سياسة جديدة أكثر انفتاحاً وديمقراطية.
والحال أنّ الإخوان المسلمين فعلوا ما تمنّاه رياض الترك بالضبط! وإنّ من واجب جميع العلمانيين، خصوصاً أولئك الذين لا يزعمون المزايدة على رياض الترك في العلمانية أياً كان المقصود بالمصطلح، من واجبهم ملاقاة جهد الإخوان في المنطقة الفاعلة المجدية، وليس في منطقة محايدة ترحّب بهم عن بُعد، وتعزف طيلة الوقت نغم الوقت غير المبكّر والشروط غير المكتملة. وهذه مناسبتي لكي أقول إنني، ومن موقعي الماركسيّ والعلماني الذي يستلهم رؤية ومنهاج ومسيرة رياض الترك، لا أستطيع الاستنكاف عن ملاقاة كلّ ما هو إيجابيّ بنّاء في العمل الوطني السوري، أياً كان المصدر والخطّ والفكر، ما دام يعلن وينوي الالتزام بالأبجديات الكبرى في الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة. وليس في وسعي، استطراداً، سوى اعتبار التطوّرات الأخيرة في خطّ وخطاب الإخوان المسلمين، بما في ذلك دعوتهم إلى مؤتمر لندن للحوار المفتوح حول مشروع الميثاق الوطني، جزءاً لا يتجزأ من ذلك الجهد الجبهوي التحالفي الإيجابي البنّاء.
وليس سرّاً القول اليوم إنّ التجمّع ليس في أفضل حال صحية هذه الأيام، أي تحديداً بعد زجّ رياض الترك في السجن، واعتقال الصفوة البارزة من محرّكي ربيع دمشق، ونجاح النظام في تعليق العمل السياسيّ أو الهبوط به إلى مصافّ أدنى من الحدّ الأدنى. ولستُ في هذا أسعى إلى النيل من التجمّع، الذي كنت وما أزال أراهن على إمكانية تفعيله وتطوير أساليب عمله وأدوات حركته. غير أنّ الوضع الراهن في سورية لم يعد يقبل ما هو أقلّ من المصارحة القصوى في مسائل نقد الذات قبل نقد السلطة أو نقد الآخر، ولم يعد في وسعنا المضيّ أبعد ممّا مضينا في المحاباة أو مديح الذات أو السكوت عن المشكلات.
ومن منطلق هذه المصارحة أجدني مدفوعاً إلى القول إنّ استنكاف التجمّع عن ملاقاة دعوة الإخوان خطأ سياسيّ، إلى جانب كونه خطأ فكرياً وثقافياً أيضاً. وليس الحديث عن الوقت المبكر والشروط غير الناضجة سوى المظهر الصريح لحالٍ من التراخي والخمول والرضى الزائف عن النفس أخذت تخيّم على حركة التجمّع في الأشهر الأخيرة، هذا إذا لم نتحدّث عن حال من التراضي حول صلاحية الحدّ الأدنى من العمل السياسي، وحول عقد الآمال (الكاذبة، حتى يثبت العكس) على احتمالات انقلاب السلطة على نفسها، بحيث تنام الليل سلطة عسكرية أمنية دكتاتورية، وتصحو الصباح سلطة ديمقراطية مدنية تعددية. ومن أسف أنّ سنتين من عهد هذه الإدارة الجديدة برهنتا على أنّ تلك الرهانات ليست قاصرة حمقاء فحسب، بل هي آخذة في التحوّل إلى عائق أمام أيّ عمل وطنيّ جاد، أو هي الآن تعيق ذلك العمل فعلياً.
مؤسف، أيضاً، أننا ما نزال ندور في دوّامة الاستنتاجات ذاتها التي لاحت أمامنا عشية قرار السلطة بالعودة إلي الهراوة الغليظة، وشنّ حملة الإعتقالات، ووأد ربيع دمشق في المهد. ثمة اليوم استنتاج أوّل يقول إنّ الحرس القديم قد كسب جولة تمهيدية في أوّل عملية شدّ وجذب جدّية شهدها المجتمع السوري، والسلطة السورية، بين أعراف الماضي ومعطيات الحاضر وإرهاصات المستقبل. وثمة استنتاج ثانٍ، يرتبط جدلياً بآثار الاستنتاج الأوّل، مفاده أنّ فريق التغيير المحسوب على الرئيس الشاب والمتمركز في بعض المواقع الإعلامية والقليل من المواقع الأمنية، خسر جولة تمهيدية. وثمة استنتاج ثالث يعيدنا إلى الأسئلة التي انبثقت بعد ساعات من وفاة حافظ الأسد: مَن يحكم سورية؟ مَن هي القيادة السورية على وجه الدقة؟ كيف يُطبخ القرار، وكيف يُتّخذ، وكيف يُنفّذ؟ أين يميل ميزان القوّة؟ أين تميل موازين القوّة؟
ولكننا نتذكّر، ونذكّر، أنّ بشار الأسد بدأ عهده الرئاسي من الخطوة التي تجعل المواطن السوري يردّد، دون كبير تردّد: ما أشبه اليوم بالبارحة! ذلك لأنّ نسبة 97.29 في المائة التي تمخض عنها الاستفتاء الرئاسي ليست سوى تذكرة بما كان يتكرّر في الماضي من نِسَب مماثلة عند التجديد لانتخاب الأسد الأب، الأمر الذي شكّل في كلّ مرّة مصادرة صريحة للعقل الطبيعي والمنطق السليم، وإهانة مباشرة للمواطن السوري الذي لم يكن له من حول أو إرادة في ما يُزوّر باسمه من نتائج الـ 99 في المائة.
ونتذكّر، ونذكّر، أنّ الرئيس الشاب أعلن، في خطاب القسم مباشرة، أنه لا يملك عصا سحرية لتحقيق المعجزات. ولكن، مَن طالب أو يطالب بالمعجزات؟ وهل في باب المعجزات إطلاق تعهد أمام المواطنين بإلغاء الأحكام العرفية، علي سبيل المثال؟ والرجل الذي يقبض في يده على السلطات كافّة، كيف يرى في مطلب طبيعي كهذا أمراً أشبه بالمعجزات؟ وهل إعادة تنظيم الحياة السياسية بما يكفل بعض التعددية وبعض الحريات في التعبير والتجمّع والتنظيم أمر خارق يحتاج إلى ساحر مسلّح بعصا سحرية؟ هل احتاج الأشقاء العرب في الأردن والمغرب والبحرين إلى مثل تلك العصا لكي تُرفع الرقابة عن الصحف مثلاً؟ أو لكي يجاهر المواطن ببعض رأيه دون ذعر؟ أو لكي يذهب إلى صندوق الإنتخاب تحت سلطة ضميره وليس تحت سوط السلطة؟
وفي شروط مثل هذه، حيث الحاضر امتداد طبيعي للماضي، وحيث يكرّر الخلف نهج السلف، وحيث تعود السجون والملاحقات وتنفتح المنافي من جديد، ليس من حقّ طرف معارض جدّي أن يقول إنّ الوقت ما يزال مبكراً للحوار المفتوح حول مستقبل أفضل لسورية، أو أنّ الشروط لم تنضج بعد لكي يتّسع الطيف لجميع وكلّ المؤمنين بسورية ديمقراطية تعددية علمانية.
__________
* كاتب سوري - باريس