ماهر اختيار
الحوار المتمدن-العدد: 3433 - 2011 / 7 / 21 - 13:37
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
التوازن البيئي من الضرورة الجغرافيّة إلى مسؤوليّة الإنسان الأخلاقيّة
مع تكرار وتنوع الكوارث الطبيعيّة التي تعصف بالكرة الأرضية، من جفاف إلى فيضانات وحرائق - يرى العلماء على سبيل المثال أنّ تغير المناخ سيكون أحد الأسباب الرئيسة في ندرة المياه في العديد من المناطق الإفريقية، معتقدين أن هذا سيكون أحد أسباب هجرة الكثير من السكان المحليّين في عام 2020، ومظهريّن بذلك الصلة بين فقر وبؤس هذه البلدان ونقص الموارد المائية. وقد غمرت فيضانات شمال شرق استراليا في العام الحالي أكثر من 22 بلدة، وعطلت على مدى أسبوعين نشاطات الإنسان الاقتصاديّة والتجاريّة من إغلاق للموانئ ولمناجم الفحم. في حين أن ارتفاع درجة الحرارة غير المسبوق في غربي روسيا جعل من رجال الإطفاء مشلولي القدرة أمام حرائق أكلت الأخضر واليابس - يشد انتباهنا دعوات تأتي من قبل علماء البيئة وبعض المهتمين بالدراسات المتصلة بالتغيرات المستقبليّة، إذ يؤكدون على ضرورة إيجاد حلول لتلك المشكلات التي تكدر من اتزان الحاضر وتهدد مستقبل آتٍ. فالأرض التي استقبلت الإنسان ووفرت له ممكنات الحياة وشروط البقاء لنسله، تضمنت في الوقت ذاته حدوداً من غير الجائز تجاوزها. لأن تجاوز حدود الممكن يهدد بكوارث تفوق قدرة الإنسان المادية والعقلية، لا بل و يتحول إلى عدو جارفٍ مدمرٍ لما بناه الإنسان عبر عقود طويلة.
في الواقع ليس هدف هذه السطور عرض أرقاماً وإحصائيات حول عدد الكوارث التي تضرب الكائن الإنساني وتهدد استقراره أو ما هي الحلول المقترحة من قبل المشتغلين في هذا الميدان لتجنب هذه الاضطرابات البيئيّة في المستقبل، وإنما سأحاول التطرق لبعض وجهات نظر باحثين في العلوم الإنسانية، أولئك الذين يسعون لتأسيس سياق نظريّ فرضيّ يلقي الضوء على جانب من هذه المشكلات وعلى أهمية إيجاد حل لها، وذلك سعياً لإنجاز خطوات عملية تقلل من عواقب هذه الكوارث، وتحضر لمستقبلٍ قادرٍ على تبني أجيال موجودة بالقوة و تنتظر فعلها الوجودي، لمستقبل متمثلٍ بالعيش في أفضل العوالم الممكنة الضامنة لتحقيق أفضل صور الإنسانية، وسندٍ حقيقٍ لاستمرار الحضارات التي هي نتيجة جهد إنساني بامتياز.
إذا ما طلبنا من مشتغل في الدراسات التاريخية تعريف الحضارة الإنسانية، فإننا نجد تعريفاً لبروديل مؤسساً على عناصر رئيسة أولها عنصر الحيز الجغرافي، إذ يؤكد بأن "الحضارات هي أماكن"1، بمعنى ما أن الحضارات، بما تتضمنه من ثقافة وتاريخ وكل ما لا يمكن نسيانه، تستطيع امتلاك كينونتها من خلال شغلها لحدود مكانية جغرافية تعمل على إبراز معالمها. لا بل إن بروديل يرى أن الحضارة الإنسانية تستمد وجودها من حاملها المكاني الذي تحتله، لأن هذا الأخير هو الذي يمدها بأسباب استمرارها أو يجسد أيضاً سبباً من أسباب تعثر تقدمها المأمول إنسانياً. ويذهب بروديل أبعد من ذلك بالقول إن التحدث عن الحضارات يعني التحدث عن "الأماكن والأراضي والتضاريس والمناخ والنباتات والحيوانات، باختصار الحضارة هي المكان بما يتضمنه من مزايا جغرافية تهيئ للإنسان شروط اكتسابها واستغلالها"2. من خلال ما سبق نستنتج أنّ المكان الجغرافي، وما يتضمنه من وسط بيئي مُحفز أو مُحدد في الوقت نفسه لطموحات الوجود الإنساني، يجسد ركيزةً أساسيةً من ركائز الشروط الانطولوجية لحضارة تريد الولادة والاستمرار لقرون طويلة، ليس فقط في الواقع الملموس وإنما أيضاً بين صفحات الكتب ودهاليز الذاكرة الإنسانيّة.
انطلاقاً من هذه العلاقة الجدلية بين الحضارة الإنسانية وحاملها المكان تتجسد حتمية توفر الوسط الجغرافي المتوازن بيئياً والذي يؤدي لظهور ولاستمرار حضارة ما. في الواقع، إن هذا الوسط يرسم حقيقة معالم الحضارة وحدودها ويشكل حصناً منيعاً في وجه أعدائها. وإن ولادة حضارة في حيز مكاني معيّن يشير إلى ما يتضمنه هذا المكان من شروطٍ أوليةٍ وطبيعيةٍ تسمح بإمكانية هذه الولادة، أقصد الشروط التي تشمل كل ميادين حياة الإنسان الزراعية والصناعية وحتى التجارية، فالمدينة لا تقم لها قائمة دون اتخاذها لحيزٍ مكانيٍ مطل على تقاطعات طرقيّة تجارية تمنح المدينة سبب كينونتها.
ربما تجد نداءات علماء البيئة سنداً نظرياً وتاريخياً متجسداً في تعريف بروديل للحضارة السابق الذكر، والذي يمكن تلخيصه في ضرورة الربط بين طبيعة وخصائص المكان الجغرافي وإمكانية انطلاق حضارة إنسانية ما وضمان استمرارها المتوقف بدوره على عمل الإنسان ونشاطه. إذ يشكل هذا التعريف محوراً هاماً بالنسبة لعلماء البيئة الذين يؤكدون، من جهتهم، على أهمية الحفاظ على توازن الوسط المكاني بوصفه شرطاً انطولوجياً لوجود ولاستمرار الكائن الإنساني. ولعل عرض شذرات من أفكار هانس جونس فيما يخص محاولته تأسيس خطوات أخلاقية من أجل مستقبل بيئي متزن يمثل تكاملاً مع النظرة التاريخية. فهذا الفيلسوف الألماني ينتابه قلقاً تجاه حاضر بيئي مضطرب في ظواهره، ومستقبل مجهول يُجسد مصير الأجيال القادمة. فإن تأمل نتائج نشاط الإنسان في وقتنا الحاضر يشير إلى أنه قد أثقل على كاهل الكرة الأرضية، حاملة الحضارات الإنسانية، وعمل على تغيير الكثير من تضاريسها دون دراسةٍ أو تأملٍ لعقبات المستقبل، وهذا ما دفع هذا المشتغل بالفلسفة إلى الانخراط في هذا الحقل البيئي غير المنفصل عن السؤال الوجودي. إذ يرى جونس على سبيل المثال لا الحصر بأن حتمية البحث عن مبادئ أخلاقية تأتي من الانسياق الأعمى لتقنية تهدد مستقبلاً مُفترضاً ليس ملك حاضرنا، هذا من جهة ومن جهة أخرى، إن أهمية وضع بناءاً نظرياً لأخلاق مستقبلنا البيئي تأتي من مسألة أن الحاضر هو مرحلة تحضيرية لمستقبل آتٍ، فإنه ينطوي على مسؤولية فردية تجاه الآخر.
ويحتل مفهوم المسؤولية مكاناً هاماً في فكر جونس، إذ يعتقد بأن الإنسان مسؤول لأن لديه، عملياً، القدرة على الحفاظ على بقائه وعلى بقاء أقرانه. هذه القدرة في الحفاظ على الحياة تتضمن ما أنتجه الإنسان من تقدم علمي ومن انجازات صناعية قادت صانعها لإحداث بعض الاضطرابات في لوحة الطبيعة. من هنا تأتي خطورة هذه القدرة، فهذه الأخيرة ساهمت في تطوير الحياة الإنسانية وجعلت من الإنسان ذاك الكائن القادر على تجاوز الكثير من العقبات المفروضة من قبل المكان الجغرافي. لكن هذه القدرة في الوقت ذاته تقود إلى تعديلات في المشهد الجغرافي وفي توازن ظواهره. من هنا يصر جونس على أنه يجب أن تتساوق مسؤولية الإنسان مع تقدمه التكنولوجي، إذ يقول: " إن مسؤولية الإنسان يجب أن تسير بذات خطى قدرته"3. نستنتج هنا ركيزتين من ركائز المسؤولية الإنسانية، فهناك أولاً الجانب الانطولوجي المتمثل بضرورة تناول الطعام لضمان البقاء على قيد الحياة، وهناك ثانياً الجانب الظرفيّ المتعلق بأهمية تنظيم العمل ونشاط الإنسان من أجل استغلال ما تقدمه الطبيعة من ممكنات استغلالاً سليماً متزناً. ومن هنا تتبلور مسؤولية الإنسان تجاه حاضره البيئي عبر الحرص على تحقيق توازنٍ بين هذين الجانبين. وكأننا أمام علاقة جدلية بين الطبيعة والإنسان لا يمكن تجاهلها، ففي حين أن الطبيعة تتيح للإنسان استغلال ما يضمن بقاءه، فإن على هذا الكائن العاقل أن لا يقوم بما يهدده ويهدد استقرار أقرانه وغيره من الكائنات الحية، لأن الإنسان هو الكائن الوحيد المالك لقدرةٍ تخوله تحمّل المسؤولية، لا بل يمكن القول أنه بناءً على هذه القدرة العقلية والجسدية فإن الإنسان يصبح مسؤولاً، وهذا يعني أن هذه القدرة تقوده إلى تحمل الواجب تجاه حاضره ومستقبله البيئي.
إذن هذه العلاقة الجدليّة بين الطبيعة والإنسان (حتمية الوسط الجغرافي وحرية الإرادة ومسؤوليتها) هي من أنتجت وتنتج الحضارات الإنسانية عبر العصور، وذلك من خلال ما يتمتع به هذا الكائن من قدرات خلاقة وما توفره الطبيعة بدورها من سياقات ممكنة لتحقيق طموحه في العيش الكريم، وفي استمرار نسله بشكل متزن. إن الرغبة بالحفاظ على ما أبدعه الإنسان عبر التاريخ تضطره لتحّمل مسؤولية احترام هذه العلاقة والسعي لمراعاة شروط بيئية متزنة لمرحلة مستقبلية ليست ملكاً لحاضره.
المراجع المعتمدة :
Fernand Braudel, Grammaire des civilisations, éd. Arthaud-Flammarion, Paris, 1987, p.40
Ibid. p. 41-
Hans Jonas, Pour une éthique du futur, trad. Sabine Cornille et Philippe Ivernel, éd. Rivages poche, Paris, 1998, p. 70-
#ماهر_اختيار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟