الأحد 25 أغسطس 2002 04:43
لقد ألمّ خطب ما بالديموقراطية في الشرق الاوسط. وما زالت النظرية المتفائلة القائلة إن المجتمعات الاكثر أماناً وحباً للسلام هي تلك الناتجة من تمتّع شعوبها بالحق الحر في اختيار حكامها، نظرية غير حاسمة في تلك المنطقة.
صحيح أننا شهدنا عدداً كبيراً من الاثباتات العملية على صحة هذا المبدأ الديموقراطي خلال الاعوام العشرة الماضية. اذ ما زلنا نتذكّر الدفق الهائل من الاخبار الحسنة حين تحرّرت شعوب اوروبا الوسطى والشرقية من الشيوعية بين عامي 1989 و.1990 فالمجتمعات والدول التي نشأت من تلك العملية تثير الاعجاب من جميع النواحي التاريخية. واذ ننظر اليوم الى الارجنتين او فنزويلا، قد نشعر بأن الديموقراطية في اميركا اللاتينية لا تزال مزعزعة وغير مستقرة; الا ان المكاسب التي جنتها جميع بلدان اميركا اللاتينية من تخليها عن الديكتاتوريات العسكرية هي أعظم من أن نتجاهلها. أما في آسيا، فما زال البعض يجادل قائلاً إن تأمين وعاء مليء بالأرزّ هو الحق الديموقراطي الضروري الوحيد في الوقت الحاضر، لكن لا مفرّ من أن يكتشف هؤلاء في آخر المطاف أن هذا الحق ليس كافياً. ويشير اتفاق الشراكة الجديد الذي عُقد ضمن اطار برنامج تطوير افريقيا، وهو برنامج تبنّاه حكام أفارقة حديثاً، الى اعتماد الدرس نفسه بالنسبة الى تلك القارة.
ومما لا شك فيه أن المبدأ ذاته ينطبق ايضاً على الشرق الاوسط. اذ يظهر تقرير برنامج التنمية الحديث الصادر عن الأمم المتحدة، والذي كتبته مجموعة من العرب الحكماء، حجم الخسائر اللاحقة بالمنطقة بسبب الافتقار الى مجتمعات ديموقراطية فاعلة.
لماذا اذاً، حين يتحدث جورج دبليو بوش عن الاصلاح والديموقراطية في الشرق الاوسط، يأتي الرد ضحكة فارغة؟ هل ان نقّاد الرئيس الاميركي مخطئون، أم ثمة فعلاً شيء غريب يميّز الشرق الاوسط ويشوّه المبدأ الديموقراطي؟ للاسف، ثمة دلائل كثيرة تشير الى صحة الفكرة الثانية. اذ ان القيادة التي مثّلها ياسر عرفات بالنسبة الى الفلسطينيين منذ عودته من المنفى كانت فاسدة وغير فاعلة. وصحيح ان الفلسطينيين شعب راق وذو مواهب عديدة، الا أنه ما زال يفتقر الى مؤسسات لا غنى عنها في اي نظام حكم سليم، على غرار موازنة جديرة بالثقة ونظام قضائي مستقل.
لكن لا شك في أنه ثمة توق شديد الى الاصلاح في عمق المجتمع الفلسطيني. وبحسب نظرية بوش المتفائلة، قد يقوم الشعب الفلسطيني، اذا ما مُنح انتخابات ومؤسسات حرّة، بطرد السيد عرفات وبايجاد بديل معتدل توّاق الى عقد سلام مع اسرائيل، لكن الواقع هو نقيض ذلك، اذ قد يترشّح السيد عرفات مجدداً في كانون الثاني، ومن الممكن ان يُعاد انتخابه. وحتى في حال تنحيه جانباً او قبوله منصباً شرفياً وغير تنفيذي، من الواضح أن من سيخلفه في الحكم لن يتمتع بأي فرصة حقيقية للفوز في الانتخابات اذا لم يكن ملتزماً معارضة حماسية للاحتلال الاسرائيلي والمستوطنات الاسرائيلية.
وينطبق الامر نفسه على جميع أنحاء الشرق الاوسط. وتتباهى اسرائيل واصدقاؤها الاميركيون بأنها هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة. لكن الاحرى بها أن تدرك كم هي محظوظة لأجل ذلك. فلو لم يكن الرئيس حسني مبارك مثلاً مسيطراً على الشارع المصري بواسطة اساليب استبدادية، لما كان قادراً على عقد حوار مع اسرائيل. اذ ان ديموقراطية مصرية تتجاوب في شكل كامل مع رغبات الشعب المصري كانت لتضع حداً للعلاقات مع اسرائيل منذ وقت طويل.
أما الدليل الثاني فمصدره الخليج، حيث بدأ عدد كبير من الدول يتحرّك ببطء في اتجاه حرية أكبر. ففي قطر مثلاً، كانت الخطوة الأبرز تحرير التلفزيون. اذ لعشرة اعوام خلت، كان العرب الذين يعتمدون على المحطات المحلية يشاهدون حصراً ما يسمح لهم حكّامهم الحذرون بمشاهدته. الا أن محطة "الجزيرة" القطرية غيّرت هذا الواقع وحقّقت نسبة مشاهدين مرتفعة للغاية في جميع انحاء المنطقة. ولم يعد هؤلاء المشاهدون مضطرين للإكتفاء بصور الملوك والرؤساء الذين يلقون خطاباتهم عند مغادرتهم أحد المطارات او وصولهم اليه. اذ انهم باتوا يطلعون اليوم على جزء من واقع منطقتهم. جزء فحسب طبعاً، لأن ضحايا العنف الذين تُعرض صورهم عبر شاشة محطة "الجزيرة" ليسوا أنفسهم اولئك الذين تعرض صورهم محطة الـC.N.N، اذ لا نرى نساء واطفالاً اسرائيليين ابرياء وقعوا ضحايا العمليات الانتحارية، بل مآسي الفلسطينيين، الابرياء كذلك، الذين وقعوا ضحايا عمليات الثأر الاسرائيلية. ومن المرجّح ان يكون تحرير الوسائل الاعلامية قد جعل عملية السلام والمصالحة اكثر صعوبة.
لا بد من أنه يوجد اذاً عامل استفزازي في النظام يحول دون تقديم المبدأ الديموقراطي المتفائل افضل نتائجه. في البوسنة مثلاً، ما زال هذا العامل الاستفزازي يتمثل في التنافسية العرقية، وهو سبب تمسّك المندوب الاعلى بادي آشداون بالسلطات شبه الاستعمارية التي مكّنت سلفه من إقالة الوزراء البوسنيين الصرب المنتخبين.
فما هو العامل الاستفزازي في الشرق الاوسط؟ اذا كان هذا وجود اسرائيل، فالأمل معدوم. فاسرائيل تملك الحق والتصميم اللازمين للدفاع عن وجودها الى ما لا نهاية، لكنها لا تملك القدرة على قمع المقاومة الفلسطينية او منع الفلسطينيين من خلق عدد اكبر من الاطفال. وإن المتطرّفين، أكانوا في اسرائيل أم في العالم العربي، يتمسّكون بهذا التحليل السوداوي الذي يتناسب مع مصالحهم وآرائهم. فالاسرائيليون منهم يحتاجون الى تبرير استمرار الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية، والعرب منهم يحتاجون الى تبرير المقاومة التي تتخذ شكل الارهاب.
لكن يجب الاّ تضللنا تلك الاصوات العالية. فجميع الحكومات العربية، بما فيها السلطة الفلسطينية، تقبل بوجود اسرائيل. ومعظم الاسرائيليين يقبلون الآن بواقع ضرورة قيام دولة فلسطينية. اذاً فإن العامل الاستفزازي الحقيقي ليس وجود اسرائيل، بل غياب اتفاق سلام متين يضمن تعايشاً آمناً بين اسرائيل وفلسطين.
أما عناصر اتفاق مماثل فلا تحتاج الى التكرار لأنها معروفة جيداً. ويبدو أن السيد عرفات نادم الآن على الحماقة التي دفعته الى وقف المحادثات مع الرئيس بيل كلينتون وايهود باراك. ويجب عليه الآن، بدلاً من الانسحاب من تلك المفاوضات مع الولايات المتحدة، أن يحييها بدعم منّا جميعاً مستفيداً من النفوذ الذي يتمتع به الاميركيون ولكنهم يأبون الاعتراف به.
لقد استخدم الرئيس ايزنهاور هذا النفوذ بين عامي 1956 و،1957 ومثله فعل الرئيس بوش الأب لعشرة اعوام خلت. وقد تكون خطوة مماثلة اكثر صعوبة الآن من ذي قبل على الصعيد السياسي، الا انه من الضروري اتخاذها بغية التخلّص من العامل الاستفزازي. والاّ فلن يكون للديموقراطية أي حظوظ حقيقية في الشرق الاوسط وسوف تعاني السياسة الاميركية، بإزاء العراق مثلاً، إحباطاً كبيراً، وسوف تظل المنطقة ارضاً خصبة للعنف والارهاب.
ترجمة جمانة حداد
النهار اللبنانية