لأن النخب العربية السائدة لم تفهم الرسالة التي وجهها لها 11 ايلول (سبتمبر) فلم تستخلص الدرس الصحيح منه عندما ماثل كل كفاح مسلح وكل سعي لامتلاك اسلحة الدمار الشامل بالارهاب، محولاً الولايات المتحدة الاميركية الى دولة متخصصة في الحرب على الارهاب حسب تعريفها الخاص له، فان حرب العراق المرجحة ستكون اول تطبيق لاستراتيجيا (الحرب الوقائية) التي تبنتها واشنطن غداة 11 ايلول والتي تعني المبادرة بالعدوان رداً على عدوان لم ينتقل بعد من النية الى الفعل، في الحالة العراقية امتلاك اسلحة الدمار الشامل والسعي لامتلاكها كما في الحالة الايرانية، يعتبر سبباً موجباً للحرب. لماذا؟ مخافة استخدامها ضد الجيران او تسريبها لشبكات الارهاب الدولي لمساعدتها على تحويل سكان عواصم ومدن العالم رهائن.
لا شـك ان للحرب المحتملة خلفيات سياسية او سياسوية وبخاصة نفطية اذ ان الاحتياطي النفطي المعروف هو 125 بليون برميل خام اي 11 في المئة من الاحتياط العالمي. لكن امتلاك اسلحة الدمار الشامل يبقى الشعار المعبئ للرأي العام الاميركي بعد 11 ايلول لذلك يشدد عليه صقور الادارة الاميركية.
هل يستطيع صدام قطع الطريق على الحرب وويلاتها على شعبه وشعوب المنطقة؟ قطعاً، اذا ـ وفقط اذا ـ طبـّق المثل الشهير (بيدي لا بيد عمرو) فاعتزل هو وابناه الحياة السياسية مسلماً الحكم لحكومة وحدة وطنية تضم جميع الاتجاهات السياسية وجميع الاقليات لتشرع في اعادة تأسيس عراق مسالم، ديموقراطي وفيدرالي. فما الذي يمنعه من الاقدام على هذه المبادرة لانقاذ العراق والمنطقة من حرب ذات مجاهيل عدة قد تتسبب في كارثة انسانية مروعة بخاصة اذا تعاون الثنائي صدام - شارون على استخدام الاسلحة الكيماوية، البيولوجية والنووية فيها؟ المانع الوحيد هو صدام كبارانوي وطاغية. كبارانوي هاذ لا يبالي بآلام البشر وكطاغية يتخيل نفسه غير قابل للاستبدال، لماذا لا يحاول اقرب مساعديه تخليص العراق منه؟ لأن الشخصية السايكوباتية والبارانوية تنقل عدواها الى المحيطين بها فيندمجمون فيها وجدانياً على غرار اندماج اعضاء القبيلة في ساحرهم او عرافهم الذي يصدقون هذيانه وينقادون اليه انقياد القطيع لراعيه. وهكذا لم يبق الا خيار التدخل الخارجي المرير لتخليص العراق والعالم من كابوسه. وباستثناء قطاع من الاعلاميين والمثقفين الذين اعمتهم الاهواء السياسية والتضامن الاعمى مع طاغية بغداد، لا يوجد عاقل في العالم لا يتمنى اختفاء هذا الحاكم الدموي الذي ينتهك القيم والاعراف والقوانين الدولية بلا شعور بالذنب ويصادر حقوق رعاياه بما فيها الحق في الحياة، ويبذر مواردهم النفطية على شراء الاسلحة وصنع اسلحة الدمار الشامل للعدوان عليهم وعلى جيرانهم الايرانيين والكويتيين خصوصاً. هذا السلوك البالغ العدوانية اوصل العلاقة بين صدام وبين بلدان العالم وبينه وبين جميع مكونات شعبه الى الحضيض.
وقد يؤيد قادة الاتحاد الاوروبي وحتى روسيا الحرب عليه اذا اندلعت كي لا يجدوا انفسهم عندما تضع اوزارها في آخر طابور اقتسام مغانم اعادة بناء العراق. جميع المؤشرات تتضافر على ان العراقيين الذين رزحوا تحت كابوسه 34 عاماً قد يستقبلون التدخل الاميركي بالحياد المتعاطف ان لم يكن بالتعاون كما يؤكد رئيس المعارضة الشيعية الموالية لايران، محمد باقر الحكيم: (سيثور الشعب العراقي عندما يشـعر بأدنى مؤشر على ضعف النظام) (14/8).
اذا كانت اغلى أماني العراقيين رحيل حاكمهم والاتجاه الى الحرب اقوى من الاتجاه الى السلام، فماذا عسى يكون الموقف منها؟ التضامن الفعال مع صدام او بوش ؟ الموقف الاول اشكالي سياسياً واخلاقياً. فصدام وحش بارد قاد وسيقود، اذا استطاع، شعبه وشعوب الشرق الاوسط الى مغامرات دموية لن يتورع عن استخدام اي سلاح في متناول يده فيها، نظراً لجنون عظمته وضميره الاخلاقي الجاف. بالمثل التضامن الفعال مع بوش مجازفة غير محسوبة لانه سيـــشكل استفزازاً للشارع العربي الجريح حتى الموت من مشاهد اعادة احتلال مدن الضفة واضطهاد شارون للفلسطينيين بمباركة صقور ادارة بوش. الموقف الاكثر اتزاناً هو الموقف المصري السعودي الاردني الرافض للحرب والذي ما انفك يناشد طرفيها صدام وبوش ان لا ينجرا اليها، الاول بتطبيق جميع قرارات الشرعية الدولية التي ما زال يكابر في تطبيقها، والثاني باستخدام الوسائل الديبلوماسية لارغام صدام على الرضوخ اليها.
ربما انفردت كل من قطر وسورية بموقفين مغامرين، الاولى بسماحها للطيران الاميركي باستخدام قاعدة (العديد)، والثانية بتفكيرها في الوقوف الى جانب صدام اذا شنت عليه الحرب. مع ذلك فموقف المتفرج السلبي من حدث سيغير وجه العراق والشرق الاوسط غير واقعي. معيار الخطأ والصواب في السياسة هو النجاح. هزيمة صدام النهائية احتمالية عالية. وكالمعتاد فالنجاح له حلفاء. لكن هيهات ان تؤثر النخب العربية في نتائج حدث لم تشارك بطريق ما في صنعه ولن تكون حصتها منه بأفضل من حصة الايتام على مائدة اللئـام. ربما كان الموقف البراغماتيكي هو مساومة واشنطن على مصير الاراضي الفلسطينية والسورية المحتلة وعلى منع شارون من اهتبال الفرصة للقيام بتهجير حاشد لفلسطينيي الضفة الى الاردن، لتحويله عاجلاً او اجلاً الى وطن بديل، وترحيل فلسطينيي 48 الى الضفة، وعلى اعادة سيناريو مدريد في صورة مؤتمر دولي لتوقيع السلام العادل والشامل الكفيل وحده بمعالجة جماعية لجروح الشارع العربي الذي يشكل صمام الامان لاستقرار الشرق الاوسط.
الجمهورية الاسلامية الايرانية ساومت واشنطن في الكواليس على ضمان مصالحها في عراق وشرق ما بعد صدام، مقابل السماح للمعارضة الشيعية التابعة لها بالمشاركة لاول مرة في مفاوضات واشنطن مع باقي المعارضات العراقية، ورفضت اعادة الـ130 طائرة حربية عراقية لبغداد وقدم خاتمي مبادرة ذكية (تحالف من اجل السلام) وضد الارهاب بقيادة الامم المتحدة. وهكذا اعطت طهران مثلاً حياً على الواقعية السياسية التي افتقدتها النخب العربية وبخاصة جمهور مثقفيها واعلامييها الذين انساقوا الى الاهواء السياسية فيما مهمتهم هي التوضيح السياسي للاتجاه والاتجاه المضاد، الواعد والمتوعد في هذا الحدث. لم يركزوا الا على السيناريو المتشائم. حقاً ستكون كارثة اذا ادت الحرب الى اعادة رسم الخريطة الجغرافية الشرق الاوسطية بإقامة دويلات اثنية او طائفية هنا وهناك في حقبة اتجاهها الاساسي هو الاندماج في وحدات فوق قومية. لكن السيناريو المتشائم ليس قدراً مقدوراً فالسيناريو المنافس، اعادة صياغة الخريطة السياسية وليس الجغرافية، بشير لا نذير: يعاني النظام السياسي في الفضاء العربي والاسلامي من انسدادات عدة اهمها اربعة: غياب تداول الاجيال الديموقراطي على الحكم، هضم حقوق الاقليات التي ما زالت مُقصاة من المواطنين الحديثة، تبذير الموارد على السلاح والتعلق الماضوي باعادة الامجاد الامبراطورية العربية في حقبة انهيار آخر امبراطورية في العالم: السوفياتية! اذا استطاع عراق الغد مساعدتنا على ازالة هذه الانسدادات فسنحقق اول قفزة نوعية الى أمام في تاريخنا الحديث. اذا حالفه التوفيق في تداول الاجيال على الحكم بصعود الطبقة الوسطى الى مسرح السياسة فسيغدو واجهة ديموقراطية شديدة العدوى في ايران وسورية مثلاً لا حصراً، فيجد المحافظون الايرانيون انفسهم مرغمين اخيراً على قبول تداول الاصلاحيين على الحكم وبالمثل قد يضطر الحرس القديم السوري الذي قطع الطريق على الاصلاحات الضرورية الى الانسحاب تاركاً المجال فسيحاً لجيل الشباب الاصلاحي المسكون برؤى اخرى لتحقيقها، واذا استطاع عراق الغد الانتقال من الحكم المركزي الفردي الى الديموقراطية الفيديرالية او اللامركزية فسيكون قدوة حسنة لشرق اوسط وعالم عربي مسكونين بفسيفساء من الاقليات المغلوبة على امرها والتي لم يبق لها من مخرج الا الهجرة لتستطيع استثمار مواردها ومواهبها في مناخ الامان على النفس والمال، سيكون النموذج العراقي مقنعاً لأن نمط الحكومة الديموقراطية الفيدرالية او اللامركزية برهن على نجاعته في تحقيق الاستقرار الحيوي للتعايش الخلاق بين الغالبية واقلياتها وفي مباشرة مهام التنمية المستديمة، وهو ما يفسر نجاح الهند الفيدرالية الديموقراطية حيث فشلت باكستان المركزية الأوتوقراطية.
واذا استطاع عراق ما بعد صدام حسين اعادة هيكلة المؤسسة العسكرية برصدها حصراً للدفاع والحد من التسلح والتقيد المطلق بحظر اسلحة الدمار الشامل لتكريس موارده للتنمية على غرار يابان ما بعد الفاشية، فسيخلق سابقة لجميع دول المنطقة بما فيها اسرائيل وتركيا وايران لوقف جنون السباق الى التسلح وتحويل الموارد الهائلة التي تبذر في صناعة القتل الى صناعة الحياة.
واخيراً اذا وفق العراق الجديد الى التصالح مع ضحيتيه القديم ايران والكويت، والى تطهير الاعلام والتعليم من الاحلام الامبراطورية التي تكشفت دائـماً عن كابوس فسيكون منارة التعايش السلمي بين الدول الكبيرة والصغيرة في الشرق الاوسط وبداية شفاء كل من اسرائيل وسورية من اوهام اسرائيل الكبرى، وسورية الكبرى فتنسحب الاولى من الاراضي الفلسطينية المحتلة تطبيقاً للشرعية الدولية وتخرج الثانية من لبنان نزولاً عند ارادة اللبنانيين بجميع طوائفهم والمسلمين قبل المسيحيين...
الحياة اللندنية