|
ذكريات سيجارة
عبلة درويش
الحوار المتمدن-العدد: 3430 - 2011 / 7 / 18 - 10:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في لحظة باتت السيجارة تنطق، بعد ضياع الكلمات الاخيرة، ورحيل الحروف الجريئة، وحلول فصل تساقط الحركات، فلم يعد حينها معنى لاي كلمة، ولا مغزى لاي قصيدة ولا لون لقوس قزح، فتفردت السيجارة بلسان العمر وان باتت عزيزة حينها تهدد ذات اللسان الذي عجز عن تذوق رحيقها بعد ان اخُتطفت البسمة عن الجباه.
فترأست السيجارة ساحة القتال على جبهات فارغة مميتة، واستلت سيف اللهفة بلهفة ارتطامها بشفاه السهر الذي سكنه النوم وحلم بسيجارة الصباح ونَفَسَ الغضب، ولم تترك السيجارة ساحة القتال ولم تقتل العدو الذي انتهك حرمة لهفتها فوقفت غاضبة صامتة امام قرار البقاء، تفكر بحذر مميت خائف واثق، تعد اللحظات الف مرة، ترحل دقائقا وتعود اياما وترحم ساعة وتقتل ساعات، وفضلت البقاء وعدم ترك الساحة للوجع والاهات لتزيدها اوجاعا فوق اوجاعها، لتغدو السيجارة صديقا عزيزا فان سببته وسبب لك اوجاع لن يفرقهما لا زمن ولا عمر ولا اي تعداد وحتى الموت سيكونا شريكا به، ويبقى هنا احتمالات كثيرة واسباب كثيرة للبقاء، صراع البقاء انت ام السيجارة ليتبين ان السيجارة هي الرابحة دوما، تلعنها ولا تعاديها، تقتلك ولا تحاسبها، تسرقك مالك ولا مركز شرطة يتجاوب ولا بلاغ عند نائب لانك دوما المذنب.
بدأت السيجارة العزيزة رحلتها مع المواطن بعدما اكتشف حقيقة الحياة وخرج لمعترك الزمن واكتشف القدر اللئيم على حقيقته، رغم انه كان يتابع ماجي فرح ويقتبس ما يعجبه ويرى ما يحدث لما كبروا قبله، الا انه كان بصحة جيدة ويظن كما يظن من لم يكبر بعدْ ان الحياة جميلة وصدق الفنانيين الذي لم ولن يقتنعوا يوما ان الحياة حلوة بس نفهمها، فبعدما سقطت "الطوبة" على رأسه وعادت له الذاكرة الحقيقية والواقعية صادق السيجارة برغم انها جزء من الواقع الاليم، الا انهما تصادقا في الحلو والمر في الفقر والغنى وحتى بهبوط العملات وتناقص المعاشات وغلاء اللحوم والمهور.
وبرغم خوف شركات السجائر التي تصلي ليل نهار الا يقاطعها اصدقاؤها، وفي ذات الوقت تحزن احيانا على صديقها المواطن ويصعب عليها تركه بسهولة وتظن ان الصديق لا يترك صديقه الا ان خانه، فقررت السيجارة الخيانة رغم علمها ان صديقها راتبه ثابت لا يحركه غبار الشمس، فارتفعت واصبحت من السلع الغالية والتي ستصبح يوما احدى زوايا استوديوهات محال التصوير ليلتقط المواطن معها صورة تذكارية كما الاحباء، وارتفعت وارتفعت فتأثرت العلاقة في البداية وحزن الطرفان لوقت قصير ومتقطع وابتعدا قليلا جدا عن بعضهما وسبا بعضهما البعض وحلفا ايمانا برب الكون العظيم الا يعودا وان العلاقة انتهت، الا ان الحب الحقيقي لا يذهب بسهولة وقررا ان يبقيا اصدقاء واحباء في الصراء والضراء.
ففي الفرح يجد المواطن في صديقته السيجارة ميكروفون السعادة الذي يخرج صوته عاليا ليعبر انه سعيد لتمتلئ "مكتات" البيت بـ"التماتيم"، وفي الحزن والغضب لا مكان في كثير من الاحيان "للمكتات" فالارض بديل والحائط والطاولة بدائل، الا انه لا بديل عن الصديق، تتكلم بلسانك ان حزنت تطلق نَفَسكَ عاليا ان بكيت تختزل الدموع بدخانها وتبكي كثيرا بدلا منك، وليس فقط هنا، فالسيجارة صديقة عزيزة تجدها في التوتر وفي لقاء شخص مقيت ولتطفيش اخر بغيض، ولاتيكيت السيدات تكون بلون وردي نحيلة وفي قهاوي الرجال دفشة وعفشة ومقمرة، وتحت الفراش للمراهقين وفي الحمامات للمراهقات الذين لم يكونوا يعلموا حينها ان الصديق ان غاب عنك لوقت قصيرة يترك معك رائحته كي لا تنساه وكدليل انه كان هنا، تجده في كل الشوارع هذا الصديق وعلى واجهات المحال التجارية ملون بألوان زاهية بشكل مطلق لا يعكس الاثر الذي يسببه انما يعكس علاقته مع المواطن، مغلف للكبار ومفرق للصغار، وفي كل زمان حتى قبل بدء الدرس الاول بالمدارس يرافق طلبة المدارس مفرقا.
وتعتبر هذه العلاقة ارتباط بين طرفين ولكنها ليست كما العلاقات فائدة متبادلة، فهي فائدة من طرف وخسارة متنوعة للطرف الثاني ورغم علم الطرفين بالخسارة والفائدة لمن تعود الا انهما لا يفترقان.
نطقت السيجارة كثيرا وفرحت وشكت وقالت تجدونني في كل مكان في البيت وبأطوال مختلفة تجدوني طويلة جديدة وقصيرة مهترئة متقزمة عند التائه ومحرومة من اللذة جديدة عند الحزين تجدني مع شقيقاتي مشتعلات غير مستغلات موزعات على جنبات المكتة وعلى اطرف الطاولة وفي زوايا المنزل وتحت ادراج مكاتب المؤسسات وعلى درجات العمارات، لتشكي الانسان، يقبلوني ويفرحون بي لكن الانسان يدوسني بقدمه سحقا حتى الرماد، وهو يعلم انه بحاجتي دوما، يفيقني باكرة قبل ان يغسل وجهه ويحرق قلبي قبل بدء العمل ويشعلني مع فنجان قهوة وكم يفرح بي وكم يحزن لفراقي الا انه يسحقني بقدمه او في مكتته العفنة، وتجدونني دخانا وتجدونني رائحة وتجدوني منفسا ومغطسا من الهموم.
وحزنت السيجارة على عدم توضيح طبيعة العلاقة بينها وبين الانسان، ووجهت رسالة للانسان قالت له فيها، علقني كما اللوحات في غرفتك، ولا تسبني بعد ان تقبلني وتأخد مبتغاك، واعربت عن فرحها من بعض الرجال الذي يضعون علبة السيجارة على قلبهم في جيب القميص وحزنت لان بعضهم يضعها في جيبة بنطاله من الخلف وفرحت لان بعض النساء يضعنها في علبة مزخرفة ملونة ولكنها تساءلت هل محبة بي ام انه ايتيكيت وان كان اتيكيت قالت فانا فرحة بذلك، فبعض النساء تضعنني في جوف حقيبة مهجورة مغبرة تقلتني المحتويات طوال نهار العمل بين قيام وقعود وتنقل وسفر وصعود وهبوط وزعل وفرح وقهر وسقوط.
تجدونني يا اصدقائي ايمنا تواجدتم تقول السيجارة... حتى وانتم على فراش الموت اتواجد بذاكرتكم وربما تحت مخدة المستشفى وتطلقون رائحتي من نوافذ الغرف شوقا، واحيانا تصادقون معي كأس خمر واحايين كؤوس قهوة وبعضهم مع كأس شاي، مؤكدة السيجارة العزيزة انها لن تفارق الانسان طوال حياته وسيتذكرها قبيل مماته وحتى في ممتاته يحرقها الاصدقاء والاهل حزنا، فلا مفر من السيجارة والانسان وحده من يستطيع ان يقرر ان كان يريد الاستمرار في العلاقة ام الانفصال مرة وللابد وليس انفصال مؤقت يعيد بعد وقت قصير العلاقة الى ذروتها.
الكاتبة الصحفية الشاعرة عبلة درويش
#عبلة_درويش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سنلتقي
-
ذيول الامل
-
ودعتنا بلا وداع يا محمود درويش
-
شجرة -مظلمة- في انوار عيد الميلاد المجيد
-
هل ستكون هناك إذا ناديت عليك ؟!
-
-وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا-
-
الصحافة الالكترونية مستقبل واعد ومتحف ينتظر الصحافة الورقية
-
لآلئ تتصدر جلسات المحاكم الاخلاقية في رام الله
-
كيف أرسمه يا قلم؟!
-
انتظرك هناك يا حبيب
-
اليك يا حبيب:عندما يأتي المساء
-
الصحافة الالكترونية:
-
-الكندرجي- ابو موريس.. حكاية 58 عاما بين المطرقة والسندان ..
...
-
-بيت ريا-..عين ماء تملأ الارض خضرة والسماء زقزقة باحلام العص
...
-
قصة - الاحتلال يحكم بالسجن مدى الحياة على كنيسة في بيت جالا
-
المرأة الفلسطينية مسألة الحقوق
-
عرس صوري عن بعد في مخيم الدهيشة .. لمبعد اطفأت -التنفيذية- ف
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|