علي الخليفي
الحوار المتمدن-العدد: 3428 - 2011 / 7 / 16 - 09:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هذه التمردات الشعبية التي تشهدها المنطقة والتي طال إنتظارها ,كان يمكن أن تفتح الطريق لبداية ثورات حقيقيه, قادرة على إحدات تغيرات جدريه, في البُنى الأساسيه للمفاهيم التي أسس عليها إنسان هذه المنطقة حياته, وذلك عبر توفير المناخات المُناسبة لإنطلاق حركة تنويريه تستطيع إحدات ثلمة في إطار دائرة الجهل المُغلقة, ليدخلها نور المعرفة, وليتكتشف ذاك القابع داخلها مدى فساد وعطب ما تحويه دائرته تلك, التي يسجن نفسه فيها.
النجاح الحقيقي الذي كان يمكن أن تحققه هذه التمردات,كان يكمن في أن تُستبدل الحُكومات الفاسدة التي تم إسقاطها, بإدارات يُديرها مجموعة من التنكنوقراط ,تكون وظيفتها الأساسيه هي تخليص هذا الإنسان من الجهل, عبر توفير سُبل التعلّم والمعرفة له ,وعبر توفير مستوى معيشي جيد لهذا الإنسان ,بحيث ترفع عنه الضغوط المعيشيه التي تُرهق كاهله ,وبحيث يتوفر له من الوقت ما يكفي لتطوير نفسه معرفياً .
شعوب هذه المنطقة ليست بحاجة إلى قادة ولا إلى زعماء , شعوب هذه المنطقة بحاجة إلى مُدراء ذوي كفاءات عاليه ,يستطيعون الخورج بهذه الشعوب من هذا الوضع المُزري, وذلك عبر برامج مدروسة بعناية ومُخطط لها من قبل مراكز بحثيه علميه, تكون قادرة على إستيعاب الوضع الخاص لإنسان هذه المنطقة الذي يتم التعامل معه, وذلك عبر معرفة الإرث التاريخي الثقيل الذي يحمله على كاهله, ومساعدته عبر مراحل زمنيه مُبرمجة في التخلص من هذه الأثقال التي تعيقه عن الحركة.
النتائج الأوليه التي بدأت تظهر على الساحة في البلاد التي تمت فيها هذه التمردات لاتبشر بأننا سنبلغ هذا الهدف, فإنسان هذه المنطقة الذي ظل يُعلق كل خيباته على حكامه, عندما أتيحت له الفرصة عبر هذه التمردات ليخلق واقع جديد, لم تتوفر له الشجاعة الكافيه لخلقه ,لان هذا الواقع الجديد يوفر له قدر من الحرية ,وهذا الإنسان يخشى الحرية, لأنه تعود ان يعيش كعبد ,وتأسست بنيته الفكري على الطاعة للسيد ,ولذلك وبعد أن تجرأ على سيده القديم, كان هدفه الوحيد إيجاد سيد جديد, ولم يجد في نفسه الكفاءة ليكون هو السيد على نفسه ووطنه.
شعوب هذه المنطقة ومنذ الف وأربعمائة عام تعودت أن تعيش حياة القطيع ,القطيع الذي يعتمد إعتماداً كاملاً على سيده الراعي ليقوده إلى مواطن الكلاء والماء, وكان يعتمد على السماء في إختيار هذا الراعي ويتوجه اليها بالدعاء لمنحه راعي جيد . عقلية الرعية التي أسس لها الفكر الديني لاتزال مُسيطرة على شعوب هذه المنطقة, وطالما ظل وعي هذه الشعوب يتشكل وفق الفكر الديني, فلن تستطيع الخروج من هذه الحلقة المُفرغة ولن يكون هناك من أمل في إخراجها من هذه الحلقة, إلا بأن يُسعفها الحظ بسيد من نوع مختلف يُجبرها إجباراً على فعل ذلك ,عبر إحداث قطيعة نهائيه مع الموروث الذي يشكل وعي هذه الشعوب,وعبر خلق مناخات طيبة للأجيال الجديدة لتنشأ وليتكون وعيها وفق مُعطيات العصر الذي تعيش فيه ,ودونما أي تأثير لذلك الموروث عليها.
التجربة الأتاتوركيه هي المثال الأقرب لمجتمعاتنا ,فالمجتمع التركي إستطاع عبر أتاتورك أن يخرج من كل ذلك الإرث المُتخلف الذي أورتثه إياه دولة بني عثمان وحكام الأستانة, ورغم أن أتاتورك قد شن حربه على الدين ذاته وليس على تسيس الدين, إلا أن نتائج حربه تلك لم تقضي على الدين بل أعادته إلى وضعه الطبيعي, بحيث عاد ليكون علاقة خاصة بين الإنسان وربه ,وفي ذات الوقت خلصت المجتمع التركي من سطوة المؤسسة الدينيه وأبعدتها عن السياسة, ولعلنا نرى الفرق اليوم بين ما توصل اليه المُجتمع التركي من تقدم على جميع الأصعدة, وبين الخيبة التي لاتزال تعيش فيها الشعوب التي كانت راعايا للباب العالي.
المُشكلة أنَّ توفر مثل هذا السيد أمر يصعب تحقيقه في مجتمعات هذه المنطقة, لأن الثقافة التي ينشأ عليها إنسان هذه المنطقة ,هي ثقافة تخلق نوع أخر من السادة . فإنسان هذه المنطقة ومنذ طفولته ينشأ على تقديس نماذج من الغزاة وقادة الحروب والمُتسلطين من الأسلاف ,ويُحشى رأسه الصغير ,ومنذ صفوف الدراسة الأولى, بسير هؤلاء الطواغيت, ويتحولوا إلى قدوة له يقتدي بها في حياته, وحالما تتاح له الفرصة ليكون هو السيد ,فإنه سيعيد التأسي بسير تلك النماذج, فينتج لنا سادة على شاكلة أبن العاص, وأبن الوليد ,وأبن زياد, وصلاح الدين, وغيرها من أسماء قادة جيوش الإحتلال ومجرمو الحروب.
دون توفر سيد من نوع خاص ,يكون قد إستطاع إنتشال نفسه من ثأتير كل تلك الثقافات الفاسدة التي تُحشى بها رؤسنا زمن الطفولة ,ويكون قد إستطاع تجاوز طريقة تفكير مجتمعه ,دون توفر مثل هذا السيد لن يكون أمام شعوب هذه المنطقة أية فرصة للخروج من دائرة الجهالة المُغلقة, وستظل تُعيد إنتاج نماذج مُكررة لذات صورة السيد القديم الذي تسقطه اليوم ,بل إنها الأن وعندما أصبح الخيار في يدها ,فإنها ستوصل إلى الحكم نماذج أكثر سوء من النماذج التي عرفتها من قبل.
فإنسان هذه المنطقة صيره المورث الديني إلى إنسان حاقد ,معجون بالكراهية للأخر, لايستطيع أن يعيش دون أعداء ,وليست له المقدرة للإندماج في مجتمعه العالمي ليكون جزء من هذا الأنا الإنساني, هو لايستطيع إلا العيش وفق مفهوم أناه الخاصة التي لا يستطيع رؤية عظمتها المُصطنعة إلا عبر تبخيس الأخر وتحقيره , ولذلك سيظل دائماً يبحث عن ذالك السيد الذي يستغل حماقاته العدوانية تلك ليعتلي ظهره كما فعل قادة الإنقلابات العسكريه الذين يعاني المرارات للخلاص منهم اليوم.
إعتاد هذا الإنسان أن يعيش في عالم مليء بالدماء, والقتل, والسبي,وأن يرى العالم من حوله غنيمة يجب الإنقضاض عليها, تحت دعوى إدخالها في دائرة جهالته المُغلقة التي يسميها "الإسلام" ,لذلك فهو لا يستطيع التأسيس لغد مشترك مع من حوله, لأن ذلك مُحرم عليه في شريعته المُتخلفة التي تفرض عليه العداء والقتال لمن حوله, حتى يعطوه الجزيه وهم صاغرون, ولذا فهو يؤسس غده على أحلام عودة دولة خلافته القوية والقادرة ,ليباشر مهامه في تدمير ما لم تستطع خلافاته السابقة تدميره.
عند بدء تأسس الدولة الدينيه كان الحاكم هو من يمارس مهام الإمامة والتشريع للناس, وبعد تَوسع هذه الدولة وفيضان خزائنها بالأموال وإنشغال حُكامها بمداعبة غلمانهم, وجواريهم, وبحياة القصور, تخلى هذا الحاكم عن مهمة التشريع والإمامة, وأوكل هذه المهمة لغلمان قصره, ليتولوا صياغة التشريعات وفقاً لهوى ذلك الحاكم ,ولعل من يطالع الموروث الفقهي, سيلاحظ أن الأغلب الأعم من أصحاب المذاهب الفقهيه, والتفاسير, وكُتاب السير ,وعلوم الحديث ,هم من الموالي والعبيد الذين تم إسترقاقهم وجلبهم من بلادهم وبيعهم في أسواق النخاسة ,وبذلك فإن روح الرق للسيد القرشي الذي إستعبدهم لاتكاد تخفى في كل ما سطرته أقلامهم من نتاج عقولهم المستعبدة, وبهؤلاء أنشأ الحاكم ما يعرف بالمؤسسة الدينيه, والتي ظلت دائماً جزء من منظومة الحُكم في ما سُمي بالدولة الإسلاميه .
اليوم تنجح هذه التمردات في إعادة الأمر إلى أزمنة التأسيس لهذه الدولة الدينيه, وذلك بايصال شيوخ وفقهاء هذه المؤسسة إلى الحكم, ليعود الحاكم لممارسة دوره التشريعي, وإن كان في إطار حديث تحت قُبة البرلمانات ,وبذلك فإن هذه التمردات تُعيد تأسيس الدولة الدينيه في أبشع صورها .
محاولة إقامة دولة مدنيه بمرجعيه دينيه ,تستند في صياغة قوانيها على التشريعات التي تجاوزها الزمن, هو نوع من العبث, الذي سيفضي إلى قيام دكتاتوريات دينيه أكثر بشاعة من الدكتاتوريات العسكريه التي عرفتها المنطقة.
إقرار المرجعيه الدينيه للدولة هو كل ما تحتاجه المؤسسة الدينيه, للإبقاء على إنسان هذه المنطقة داخل دائرة جهله المُغلقة , سيتم وفقاً له المحافظة على المناهج التعليميه,و التي تزرع الجهل وتؤسس للجهالة في عقول الأطفال, وسيتم التصدى بدعاوي الحسبة, لكل من يقدم فكر تنويري يناقش ثوابت هذه المؤسسة, وبذلك فإن إنسان هذه المنطقة بإعتماده المرجعية الدينيه للدولة التي يريد بناءها, إنما يُحكم إغلاق دائرة الجهل على نفسه ,ليستمر الوضع الذي كان قائما منذ الف وأربعمائة عام, والذي قام على حاكم يبدل ما بوسعه لإفقار شعبه, وتجويعه, وشغله بلقمة العيش ,ليجعل منهم أرض خصبة تستطيع مؤسسته الدينيه زرع جهالاتها التي تهدف لتكريس طغيانه وإستبداده.
نتائج هذه التمردات التي قام بها إنسان غير واعي بواقعه, ستنحصر في إنتاج أحد نموذجين ,فاما أن تتنج دولة دينيه مُتزمة شبيه بالنموذج الأفغاني معاديه للعالم من حولها, وأما في أحسن الأحوال ستنتج نموذج مُستنسخ عن دولة آل سعود . وهو ما يعني نقل شعوب هذه البلاد المُتمردة من خانة القطعان الجائعة والمُنهكة إلى خانة القطعان المُتخمة والمرفهة. ولكنها ستظل في كلا حالتيها, ليست سوى قطعان.
#علي_الخليفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟