|
حين يتكرر الرئيس .. هل تجازف أمريكا بعلمانيتها
يحيى الأمير
الحوار المتمدن-العدد: 1021 - 2004 / 11 / 18 - 07:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مشروع العلمانية الذي تتحرك وفقه المؤسسات الأمريكية.. ليس بمشروع طارد للدين أو ساع إلى إلغائه وانما هو مشروع يقيم المواطنة مقام أي اعتبار آخر.. وكل ما هو لك أو عليك انما ينطلق من اعتبارات المواطنة فقط.. وقد مثل هذا السلوك عنصراً حضارياً وبناء في الثقافة الأمريكية.. وفي غيرها من الثقافات التي احتكمت إلى وطنيتها كمرجعية الغت معها كل التمايزات والاختلافات والانقسامات الأخرى الأمر الذي أدى إلى سيادة حالة من الوحدة حين اتحدت المصلحة واتحدت المرجعية.. فاتحدت تبعاً لذلك القيم التي من خلالها يتعامل بها الفرد مع المؤسسات وتتعامل بها المؤسسات معه.. فاتحاد كل تلك الولايات الأمريكية تحت مظلة واحدة أمر لا يمكن أن يتم إذا بقي الاحتكام إلى المرجعيات الفئوية والضيقة. وهذه بعض أسباب ترابط وصلاح ووحدة المجتمعات التي تقوم وتنطلق في شؤونها عامة من منطلقات المواطنة بعيدة عن أي ما من شأنه أن يفتح الباب للتمايزات العرقية أو الدينية الاعتقادية أو غير ذلك. هذا السلوك الداخلي مثَّل نظام ورؤية المؤسسات الداخلية التي تتعاطى مع الداخل ومثَّل كذلك سلوك الحكومات والمؤسسات التي تتعاطى مع الخارج.. فلم يحدث أن اتجهت المواقف السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية منطلقة من رؤية دينية.. أو ذاهبة إلى تحكيم المنطق الديني وصوت النص الديني كمحرك للقرار السياسي.. وإن حضر الصوت الديني متشدداً أو متسامحاً فانما يكون حضوره بصورة لا تمس القرار والموقف السياسي. عدا أن الموقف في ظل حكومة الرئيس جورج بوش عاش تحولاً مخالفاً لذلك.. ومع أنه يقدم قراراته ورؤاه خارج تلك المعادلة إلا أن واقع القراءة المتتبعة لأكثر خطابات وقرارات الرئيس بوش الداخلية خاصة تشير في معظمها إلى ذلك.
كل هذا ليس دعوة إلى اعتناق أن بوش يخوض حربا دينية وبالتالي تجب مواجهتها برؤية دينية.. بل إن هذا هو الخلط الذي وقعت فيه بعض التأويلات والتحليلات.. فبوش لا يمثل التاريخ الامريكي.. ولا الحالة العامة للحياة الأمريكية.. وهذا ما أثبتته النخب والآراء التي جاءت في هذا الصدد وعشرات الأقلام والمؤلفات التي انتقدت هذا الانتهاك "البوشي" للحقيقة الامريكية القائمة على نظام المؤسسات والقانون والديمقراطية.. واما حالة كهذه.. فان اسوأ أنواع التعامل هي تلك التي تقوم وفق قاعدة.. "دواء بالتي كانت هي الداء" والتعصب لا يمكن مجابهته بتعصب آخر.. والتدين لا يمكن مجابهته برؤية تدينية مماثلة.. لأن هذه المجابهة تغيب أول ما تغيب كل الاعتدادات بالظرف وبموازين القوى وتدخل في أوهام حرب القداسات التي يتمترس فيها كل فريق خلف تصوره الديني.. في حين ان اشتراطات الحالة تلغي ذلك وتقيم المعادلة وفق ظروف القوة والامكانية.. ولعل في أحداث 11سبتمبر خير دليل على فشل وسوء هذه النظرية التي ترى مقارعة الديني بالديني.. خاصة وأن الحادثة جاءت قبل أن يكون الظرف الامريكي كما هو عليه الآن.. وانما كان أقرب إلى الحركية الأمريكية القائمة على القانون بغض النظر عن ا لتمايزات العرفية والأصولية.. ويثبت فشل هذا التعاطي اذا فهمنا أن الرئيس بوش هو في حد ذاته اختراق للحالة الأمريكية.. حتى لو تحول معه البيت إلى إنجيل على نهر البوتوماك على حد تعبير كينيث وودوارد.
حين يتكرر الرئيس.. هل تجازف أمريكا بعلمانيتها هل فاز بوش أم فاز الدليل؟ جاءت الانتخابات الأمريكية.. بعد أربع سنوات ظل فيها الطابع العام لأمريكا متأرجحا بين السنن الدائمة والصفات الملازمة للحياة الأمريكية افرادا ومؤسسات وبين هذا التحول الذي مثلته فترة الرئيس بوش التي اخترقت - كما سبق - الحالة الأمريكية قرارا ومرجعية بل إن بوش يمثل اختراقا حتى بالنسبة للحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه والذي شهدت تجارب كثيرة من المنتمين اليه والذين وإن اختلفت أحوالهم الشخصية فيما يتعلق بدرجة التدين الا انهم كما يقول ارثر شليسنجر لم يحاولوا الحكم على القضايا السياسية من منظار ديني أو يلجأون الى اتخاذ الدين لأهدافهم السياسية.. اي أن الرئيس ليس سوى حالة استثنائية وغير متسقة مع النص الأمريكي ولا مع الحياة الأمريكية. لكن السؤال السهل الذي يواجه هذه الرؤية هو: اذن لماذا فاز الرئيس بوش بولاية ثانية؟.. فوزا خارج المحاكم والتظلمات والطعون وكيف انتخبه الشعب اذا كان يمثل بالفعل مجاذفة فعلية بالنمط والنظام الأمريكي؟ أولاً.. الحالة التي حكم فيها بوش والتي انتخب فيها كذلك.. كانتا حالتين استثنائيتين فبوش أول رئيس يمر بأمريكا في فترته ظرف كظرف الحادي عشر من سبتمبر.. هذا الظرف الذي مثل تحولا في نظرة الأمريكي إلى الرئاسة وتعامله معها.. فلم يكن ليهتم المواطن الامريكي من رئيسه الا بما سيقدمه من انجازات وتطوير داخلي ينعكس على حياته اليومية.. ولقد كانت انجازات كل رئيس امريكي على المستوى الداخلي هي معيار قبوله وانتخابه بالاضافة الى معايير أخرى.. كلها في مجملها لم تكن لتهتم بالسياسة الخارجية ولا بالقضايا الدولية.. اللهم الا فيما يتعلق بالناخبين الذين لهم ارتباطات قد تعكس ذلك في انتخابهم كأن يكونوا من اصول عربية ولم يكن المعيار الديني ليمثل هاجساً كبيراً لدى الناخب الأمريكي في الدورات الانتخابية الماضية بسبب انه انما يتعامل مؤسسات تتحرك وفق نص قانوني لا وفق نص ديني ولانه لم يكن قد وصل الى الرئاسة رجل يمثل انموذجاً دينياً ليطبع هذه السمة في ذات الناخب الامريكي.. فكل الرؤساء السابقين كان فيما يقدمونه مايبعد بين هذه النظرة وبين الناخب الامريكي.. اضف الى ان الضربة القوية التي وجهت لأمريكا في 11سبتمبر كانت ضربة خارجة من وازع ديني وايدلوجي وهو ماصنع تحولاً داخل المواطن الامريكي رأى تجاهه كثير منهم - حسب بعض التقارير - الى ان الاعتماد على الديني والمقدس في هذه المجامهة امر من شأنه ان يجلعها مجابهة متكافئة.. يضاف الى ذلك ان الحادث برمته كان اعنف حدث هز أمريكا بكل اطيافها.. وحسب ماجاء في كتاب ستانلي رنسن In his father.s shadow في ظل ابيه الذي اشار الى ان الامريكيين في اعقاب 11سبتمبر كانوا يبحثون عن بطل وعن رجل يقدر على نصب الاستحكامات ويصعد الى قمة التل وان يكون في ذات الوقت رجلاً دافئاً ومطمئنا.. ولقد استطاع الرئيس بوش ان يجمع بين الحالتين.. ليكون ذلك الرجل الذي يصعد قمة التل وينصب الاستحكامات فبعد حادث سبتمبر كانت الذهنية الجمعية الأمريكية مهيأة لقبول اي جهة على انها عدو اذا ما قالت الرئاسة ووسائل الاعلام ذلك.. فاستطاع بوش ان يحرز نصراً في افغانستان كرد على الحادث.. وهو مافتح بصر الأمريكان على قائد مناسب للطرف والمرحلة... ومع كل تلك العوامل فلم تكن الكثير من اطياف الشعب الامريكي موافقة على الحرب في العراق وخرجت صور الرفض والمظاهرات في كثير من انحاء الولايات المتحدة.. وهي حالة الرفض التي بدأ معها قبول الناس للرئيس متذبذباً ومتفاوتاً.. وتعرض الرئيس بوش من النقد لما لم يتعرض له رئيس سابق في تاريخ الولايات المتحدة... واتحدت ضده صحف وقوى وهيئات واسعة، وانتجت من الافلام وصدرت من الكتب مامثل اكبر دعاية مضادة للرئيس..
ورغم ذلك فقد فاز.. نعم.. ليس لان كل تلك المعارضة لم تؤت ثمارها.. بل لان كل الاعتبارات سابقة الذكر التي ولدها حادث 11من سبتمبر ظلت قائمة في ذهن المواطن الامريكي من جهة.. ولان المنافس لم يكن بتلك الدرجة من التفوق من جهة اخرى.. فقد رأى الجميع حالة التذبذب التي مثلتها خطابات جون كيري وكيف انه في اجندته الملحة لم تكن لتختلف عن مواقف الرئيس بوش وبالتالي فالخبرة والمباشرة الدائمة من قبل الرئيس الحالي خير من تدشين مباشرة جديدة مع رئيس جديد.. كذلك فقد وقعت حملة كيري في اخطاء انتخابية واسعة من ابرزها انها كانت تتجه الى ناخب امريكي بشكل مطلق متناسية انها يجب ان نتجه الى ناخب مابعد 11سبتمبر الذي يبحث عن رئيس ذي قرارات قوية وعازمة ومتشددة احياناً.. وحين كان يوجه السؤال لكيري عما ينوي فعله بشأن العراق فلم يكن ليزد عن مسألة اقامة الامن والتعاون مع الحلفاء.. وهو تماماً ذات الرأي الذي يقول به بوش الاقرب بطبيعة الحال من كل ذلك... كل هذا الحدث كان المراد به القول ان بوش لم يفز لان خطابه الديني كان خلف فوزه ولم ينتخبه الأمريكان لانه شخصية متدينة.. انما لاأن الظروف والمرحلة وحالة ناخبي مابعد 11سبتمبر تبحث عن متطلبات لايمكن معه ا المجازفة بتغيير الرئيس.. مع ضرورة ان نضع بالحسبان ذلك التنافس الكبير والتقارب الدقيق بين نتائج المرشحين. وبالتالي.. فإن ابرز ما اخذ ويؤخذ على الرئيس بوش هو خطابه ورؤاه المتدينة التي ينظر من خلالها الى القرار والسياسة.. مع ان هذا ليس سلوكاً أمريكياً إلا ان الذي اعاد انتخاب بوش كان امراً خارج تلك المعادلة.. كان امراً يعود الى ظروف الهاجس الامني.. وهي النقطة التي تفضل مشكوراً اسامة بن لادن من خلال خطابه الاخير واسم به في ضخ عشرات الاصوات في حملة بوش حسب العديد من التقارير والاستطلاعات.. إذاً.. فلم ينتصر بوش لتدينه الذي يمثل مجازفة واختراقاً للنص الامريكي ولكن الحادي عشر من سبتمبر وتهور وغباء تنظيم القاعدة والهاجس الامني الكبير الذي يشغل بال كل امريكي وصورة ابن لادن بعباءته المتغضنة قبل الانتخابات بايام..كلها عوامل اسهمت في بقاء بوش وعليه فإن أمريكا هي أمريكا ذات الخطاب القانوني الذي لايقيم مكاناً للتمايزات حتى وان رأسها رجل كجورج بوش.. الذي يمثل بقاؤه مغامرة اطول بالنموذج الامريكي وابرز صفاته القائمة على الديمقراطية والحرية
#يحيى_الأمير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غـــــــــادتان .. نص الكمد
-
في السعودية ..الحرب على الصورة .. الطريق إلى-طاش ما طاش
-
خمسة عشر قنبلة بشرية كانت هديتنا للعالم في بداية قرنه الجديد
...
-
مرة أخرى .. الانتخابات في السعودية بين وعي المؤسسة والوعي ال
...
-
انتخابات في السعودية .. غياب الشرط المدني ووقوع في نواقض الد
...
-
باعة الموت في العراق الجديد - دعاوى الجهاد وصوت المافيا المت
...
-
اسألوه .. عن زبيبة والملك
-
أصدقاء لا يدخلون الجنة
-
الأمريكي من سجان بليد في غوانتانامو .. إلى جلاد بغيض في أبو
...
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|