ماجد الشيخ
الحوار المتمدن-العدد: 3423 - 2011 / 7 / 11 - 23:53
المحور:
المجتمع المدني
مأزق نخب أضاعت بوصلاتها
ماجد الشّيخ
يقرّر البعض ممن استبدّوا ويستبدّون بـ "أمة" موهومة ومفترضة، في شكل جازم ومسبق أن ما يجري اليوم في بلادنا، ليس "مشروع تغيير ديمقراطي" ولا يرقى إلى مستوى ثورة شعبية، وهم إذ "يقررون"، فإنهم يذهبون حتى الأقاصي ومن دون تحوّط، إلى أن ما تتعرض له "أمتهم" المفترضة، "هجمة إمبريالية شرسة" عمّت شرورها في تونس ومصر واليمن وليبيا وأخيرا في سوريا (ولا نعرف موقفهم مما جرى ويجري في البحرين)، وإن كانوا يخصّون اليوم سوريا بهجمة لا تستهدفها وحدها، بل تستهدف "كل الأمة".
وهم من قبل ومن بعد، إذ يعتبرون ما يجري في سوريا مؤامرة، نعم مؤامرة ضد نظامها "المقاوم" و"الممانع"، فإنهم ينساقون مسبقا ومن دون تحوّط كذلك؛ لاتهام الشعب السوري بالتآمر، شعب يتآمر ضد نظامه، حيث يأخذ عليه حرمانه من الحرية طوال عقود حكمه الطويلة، وها هو يقوم بقتل كل من يرفع رأسه مطالبا بالحرية والكرامة، التي داستها مجموعات من فاشيي النظام وأجهزته البوليسية والأمنية والعسكرية، ومرتزقة خارجيين من حلفاء خلص، ممن أدمنوا رؤية "نظامهم" هذا "مقاوما" و"ممانعا" على الرغم من سلبه شعبه حريته وكرامته، واستباحة مجتمعه أفرادا وجماعات ومدنا، ومساهما أول في سلب حرية وكرامة شعوب أخرى في الإقليم، الذي هيمنت عليه "فكرة الأمة" الطغيانية الموهومة، الأمة القاتلة لطموحات شعوبها في التحرر الوطني، والتحرر السياسي والاجتماعي من هيمنة طغاة الاستبداد القوموي، وبمشاركة أو بغطاء من طغاة استبداد إسلاموي، على اختلاف تلوناته وتنوعاته المذهبية.
إن طموح التحرر الديمقراطي، كما طموح التحرر الوطني، طموح مشروع، وهو مشروع تغييري عماد تحققه ثورة شعبية، لا تلك النخب المأزومة التي تفككت بتفكك مشروعاتها السلطوية، وانسداد آفاق تطورها ووقوفها عند مرحلة طفولة؛ لا هي يسارية ولا هي يمينية مفضوحة، إذ أن قومويتها وإن اصطدمت بحوائط عدة، فلأنها لا ترى سوى ذاتها ومواقفها عصيّة على التغيير، كما استعصت على الوقوف مع تطلعات شعوب هذه البلاد التي اكتوت بنيران استبداد أنظمتها الفاسدة، وهي التي اشتغلت طوال عقود من السنين على إنشاء قاعدة إفساد واسعة، أفسدت معها العديد من نخب وقطاعات تحولت في أعقاب الثورة إلى قوى مؤثرة في بانثيون قوى الثورة المضادة، وهي تحاول الآن إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء في كل من تونس ومصر.
ولا يختلف الوضع بالنسبة "لأصحابنا"من "قومويي الموجة الجديدة" في شأن ما يجري في ليبيا أو في سوريا، فتحت يافطة معاداة التدخل الأجنبي، يجب التضحية بتطلعات شعبي البلدين وحلمهما التحرري من أجل الحرية والكرامة، التزاما بمسطرة من فقدوا بوصلاتهم. "تضحية" لا تتكلف أكثر من رمي اللفظ أو الألفاظ على عواهنها، وكأن ما يجري في ميادين وساحات التغيير؛ مخطط له إمبرياليا لاستخدام شعوب هذه البلاد كرأس رمح لمؤامرة تريد الإطاحة بأنظمتها "الوطنية" "المقاومة" و"الممانعة"، فأي وطنية حفظتها أمثال هذه الأنظمة وهي التي بدّدتها على الدوام وبالتجربة والخبرات المدفوعة الثمن من دماء شعوب أخرى، على أعتاب قوى الهيمنة الإقليمية والدولية، كما وتحت أستار "المقاومة" و "الممانعة" كانت تبتني أنظمة عائلية بوليسية واستبدادية وديكتاتورية، فما نفع أن نتبنى موقفا ضد التدخل الإمبريالي الخارجي، فيما الداخل منخور وهش ومفكك ومكشوف للقوى المعادية، بل ويجري استخدام أمثال تلك الأنظمة من أجل "حماية" و"حراسة" دواخلنا المستبدة من الثورة ضد ما يفرضه وجود إسرائيل في بلادنا كمصلحة إمبريالية، وكحافظ وظيفي لمصالحهما في بلادنا.
على أن اختزال مجموع قوى الشعب الوطنية، على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، بقوى إسلاموية، كونها تمتلك مشروعا دينيا يتعارض ومشروعات التحرر الوطني والاجتماعي، ولا تمضي حتى النهاية في إقامة تحالفاتها مع قوى المشروعات الوطنية العامة، أو من قبيل عدم معاداتها للإمبريالية، كمبرر لمعاداة الثورة الشعبية وطموحات قواها لإجراء تحولات تغييرية، وكناتج تاريخي للانتصار للحرية ولبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في بلادنا، هذا الاختزال كما العداء لمشروع التحرر السياسي والاجتماعي والوطني، ليس من شيم وطنيين إحيائيين ونهضويين، يؤمنون بالتنوير والحداثة طريقا أحاديا لتقدم بلدانهم، وتحديثها وتطويرها على دروب استقلالها الحقيقي عن الإمبريالية، وعن كل قوى الهيمنة الإقليمية والدولية.
ولئن كنا نؤمن بأن الشعب هو مصدر السلطات جميعها، فعلى هذه السلطات أن تخضع لإرادة الناس القائلة بضرورة الإصلاح والتغيير على درب بناء ديمقراطية حقيقية تنبع من الدواخل الوطنية، فلا تكون تابعة لأي قوى خارجية، بالتأكيد لا مصلحة لها في ابتناء مؤسسات ديمقراطية تعددية حقا وحقيقة، كما هي أجهزة النظام القمعي والبوليسي العربي، إذ تعادي رغبات شعوبها في التغيير والديمقراطية، فلكونها خادمة مطيعة لأجهزة الأنظمة الإمبريالية وليست مستقلة عنها، وهي تقف في مواجهة تطلعات ورغبات الشعوب المقهورة في هذه البلاد التي أماتها القهر والفساد والتسلط الاستبدادي، وها هي تحيا على وقع رياح التغيير وأحلام التحرر الديمقراطي والاجتماعي الموازي والمكمل للتحرر الوطني، وهي تنجز إطاحتها بعض رؤوس أنظمة طغيانية فاسدة، وتواصل طريقها نحو إنجاز أهداف ثورات شعوبها، فيما هي تنجز في بلدان أخرى إطاحتها الخوف والصمت في مواجهة أجهزة لأنظمة بوليسية عائلية، أطلقت كل ما لديها من نزوع فاشي، وهي تحاول القضاء على ثورات شعوبها وانتفاضاتها التي ما تني تتوسع باضطراد.
أخيرا نقول أن ما يجري في بلادنا اليوم، هو بالفعل مشروع تغيير ديمقراطي، بل هناك ثورات شعبية تختلف عن أي صيغة مسبقة لثورات تعيش في يوتوبيا النظريات وفي الأذهان، وفي الأفكار السياسية المُسبقة ونظرياتها المؤدلجة، وهنا يقع وقد وقع الالتباس الذي حمّل هذه الثورات ما ليست تحتمله، فهي شعبية وجماهيرية حقا، وليست تُقاد من قبل تنظيم حزبي يؤطر لها أهدافها ومطالبها أو يضبط لها معاييرها الناظمة، قدر ما هي ثورات في سيرورة أو سيرورات لم تكتمل، وقد لا تكتمل في فترة زمنية قصيرة، على ما يحلم البعض المؤيد كما المعادي لها، ولأننا في صدد مشروع تغيير ديمقراطي، فمن الطبيعي أن يتداخل على دروب هذا المشروع العديد من المعوقات المحلية والخارجية، والعديد من أشكال التآمر الداخلي والخارجي، ولكن ليس إلى الحد الذي يمكن لوطني مخلص أن يوصّف شعوبنا بأنها متآمرة.
الشعوب لا تتآمر، النخب السلطوية الفاسدة هي الخليقة بالتآمر على شعوبها، وليس العكس. أما الشعوب فلها استحقاق العدل والحرية والكرامة والمساواة، عبر قوانين ناظمة لعقود سياسية واجتماعية تنحاز إلى كل تلك القيم الأخلاقية والثقافية التي تبدعها الشعوب، لا الأنظمة التي لا تستحق سوى الإطاحة بها، مهما ادّعت وأبدعت من فنون الكذب وأضاليل لا تمتلك لها رصيدا في الواقع، واقع أكبر من أن تخفيه أو تحجبه لفظيات "التقديس" القوموية أو الإسلاموية، وهي تحاول ابتناء واقع افتراضي تبني عليه نظريات فقاعاتها القابلة للانفجار في كل لحظة، من دون ان نرى طحنا لجعجعة نسمع ضجيجها، فلا نتعرّف إلاّ على ما يضاد أهداف ومطالب شعوبنا العادلة، بعيدا عن مساطر مسّاحي ومهندسي الجينات الوراثية وهي تحنّ إلى الاستبداد كأمثولة ونشيد وسرديات عصيّة على التغيّر.
#ماجد_الشيخ (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟