|
السوريون تغيروا، وعلى النظام أن يتغير!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3423 - 2011 / 7 / 11 - 14:24
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
إن كان من عبرة تستخلص من نحو أربعة أشهر من الانتفاضة السورية فهي أن البلد ما عاد يمكن أن يحكم بالطريقة المعتمدة من النظام. تقوم هذه الطريقة أساسا على أجهزة أمنية، يديرها موثوقو النظام، وتتمتع بحصانة مطلقة، فلا تساءل ولا تحاسب. وتقوم العقيدة الأمنية لهذه الأجهزة على حفظ النظام في مواجهة أية منازعة داخلية محتملة له، فيما يتكفل المركب السياسي للنظام في ترتيب أمور حفظ نفسه حيال أية منازعات خارجية. وبحكم عقيدتها هذه، تنظر الأجهزة الأمنية إلى المجتمع السوري كمصدر أخطار وتهديدات، أي كعدو، لا بد من مراقبته وتقييده. ولقد اقتضى ذلك على الدوام تحطيم أية تشكيلات معارضة مستقلة أو تحجيمها إلى أقصى حد، والتوسع في سياسة الاعتقال لأتفه الأسباب، والاعتماد الروتيني للتعذيب مع المعتقلين، والتعامل الخشن مع عموم السكان، والحرص على إبقاء مستوى الخوف العام من هذه الأجهزة مرتفعا. ورغم هذه الخبرة المشاع بين السوريين، فقد خرج مئات الألوف منهم، ربما 4 ملايين حسب تقدير لوكالة رويترز، في أكثر من مائتي بؤرة احتجاج، كثير منها لا تطرق سمع وسائل الإعلام، خرجوا يوم "جمعة ارحل"، 1 تموز، رافضين بعبارات واضحة جدا النظام ومطالبين برحيله. وخلال شهور الانتفاضة اعتمد النظام الصيغة القصوى من نهجه، هذه التي تعتمد الاعتقال والتعذيب والقتل على نطاق واسع، وتكليف الجيش بمهام أمنية من النوع الذي سبق أن عرفته حماة، وبعض مناطق حلب وإدلب قبل تحو 30 عاما. لكن يبدو أن هذا النهج المجرب أسهم فقط في تسعير غضب السوريين، وتوسيع قاعدة الاحتجاج الجغرافية والاجتماعية، ودفع مطالب المحتجين إلى التجذر. مع ذلك يبدو أن سلوك النظام حيال الانتفاضة ينضبط بحكمة بن غوريون المتعجرفة: ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة! فكأنما النظام يقيم معادلة بينه وبين نهج القوة المحض، أو كأنه يقول لمحكوميه: لن نحكمكم إلا بالطريقة المجربة التي نعرف وتعرفون، أي بالغصب، فإن تمردتم سنسحقكم! والحال أن النظام لا يستطيع بالفعل أن يحكم إلا بهذه الطريقة. فقد طور عبر السنين والعقود مصالح سياسية واقتصادية غير عادلة وغير شرعية، لا يمكن حمايتها بغير الترهيب العام. ومن هذه المصالح الحكم المطلق الأبدي، القابل للتوريث، وغير المسؤول أمام أحد؛ ثم النفاذ الامتيازي وغير المراقب اجتماعيا إلى الموارد الوطنية، ثم الهيمنة المطلقة في المجال العام، أي وسائل الإعلام التقليدية، ونطاقات الاجتماع البشري غير الخاصة، والفضاءات العامة التي تشكل الساحة البصرية لعموم السكان. هذه المصالح غير شرعية، لأنها غير قابلة للتعميم، أي لكونها امتيازية. ولهذا لا تستمر إلا بالقوة وبالمزيد منها. بنية المصالح هذه أيضا غير قابلة للتفاوض. فهي لا تعترف بأنداد، سياسيا أو اقتصاديا أو رمزيا. ولذلك لم تُسمع ولن تسمع كلمة تفاوض من قبل النظام. لا يرضى بأقل من استسلام غير مشروط من قبل الخصوم. هنا جذر الأزمة السورية اليوم. الشيء الذي نسميه "النظام" هو تكوين بالغ التطرف والتصلب من المصالح، أشبه بطبقة أرستقراطية ترى نفسها أرفع شأنا من محكوميها، ويهولها أن يعترض عليها هؤلاء، فتعمل على تأديبهم، ولا تدخر جهدا لإعادتهم إلى جادة الصواب. لكن هذا المسعى لن يثمر. هناك جديد في سورية لا يبدو النظام مؤهلا لإدراكه. شعور بالعدالة والغضب والتحرر انتشر في شهور الانتفاضة في أوساط واسعة من الجمهور السوري العام، بفعل الانحطاط المذهل لسلوك النظام في تعامله مع "شعبه". لقد أورث هذا السلوك شعورا عميقا بازدراء النظام، هو ما تفجر بتلك الهتافات التي لا تكف عن تحقيره ورجاله أجمعين. وهو لا يقف الأمر عند الشتم المهين لأصل النظام وفصله، بل يتخطاه إلى تمزيق صور وحرقها، وإسقاط تماثيل وتحطيمها، ما يعادل تحريرا للفضاء العام. ويمتد كذلك السخرية اللاذعة من لغة النظام ومتكلميه، والتبني التهكمي لقاموسه: مندسين، سلفيين، جراثيم...، ما يعادل امتلاكا للكلام العام وتحريرا للغة من السياقات السلطوية. في الأمر ما يعادل تحطيم أيقونات أو أصنام. وعبر ضرب هيبة النظام ونزع القداسة عنه، وما يتضمنه ذلك من فعل تحرر رمزي مُثبِّت للتحرر من الخوف عبر التظاهر، يتحقق لجمهور سوري متسع ارتفاع في تقدير الذات واحترامها، هو ما حدا بعشرات الألوف في دير الزور إلى تنظيف ساحة اعتصامهم يوم جمعة سقوط الشرعية (24/6) بالماء، وعدم ترك ولو عقب سيكارة فيها. هذا فعل غير مألوف من عموم السوريين الذين لطالما أثار استهتارهم بنظافة الشوارع والساحات غيظ الأكثر حساسية بينهم بالذات. وعملية التحرر هي ما تفسر خروج مئات الألوف في حماة في جمعة "إرحل" في مشهد مهيب لم تعرف سورية ما يماثله في تاريخها كله. وهو ما يفسر، على كل حال، الخروج الشجاع للتظاهر في كل أنحاء البلد، بما فيها في درعا وبانياس وحمص، وقد بدا قبل حين أنها سحقت، وخسرت كل منها مئات من أبنائها. لقد شب السوريون عن الطوق، ولن يوضع حول رقابهم من جديد. وبفضل هذا الجديد السيكولوجي والأخلاقي أضحى ممتنعا أن تحكم سورية بالطريقة الموروثة القائمة على إذلال أهلها و"كسر عيونهم". فإذا أصر النظام، وهو القوي القادر على القتل، على أن البديل الوحيد عن سياسة القوة المحض هو المزيد من القوة، ولا يبدو أنه فكر لحظة بغير ذلك، كان محتملا أن يقود البلد إلى أوضاع سياسية وأمنية ونفسية، واقتصادية، تجعله غير قابل للحكم بتاتا. مؤشرات أولى على هذا الاحتمال ترى منذ الآن: فوضى في الإدارة، انشقاقات جزئية في الجيش، فضلا عن واقعة التمرد المعلن والمستمر لجمهور الانتفاضة على النظام. ومع بدء ظهور المفاعيل الاقتصادية للأزمة الوطنية، واتساع مشاركة حلب ودمشق في النشاط الاحتجاجي، يرجح لواقع عدم القابلية للحكم أن يترسخ، وقد تخرج بعض المناطق الطرفية من سلطة الدولة. هذا مسار خطير على مستقبل البلاد. ولا سبيل لتجنبه إلا بتوقف الانتفاضة أو بتغير النظام. الانتفاضة تقدمية وأخلاقية، وموافقة لمصالح الأكثرية الاجتماعية، ومندرجة فيما يبدو أنها عملية تحررية تاريخية واسعة، تتجاوز سورية (الربيع العربي)، فيما النظام رجعي ومدافع عن أوضاع امتيازية غير قابلة للتعميم. لذلك هو من يجب أن يتغير.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا انتفاضة.. والنظام لا يقترح بديلا غير الفوضى أو الحرب
-
العصابات المسلحة غير موجودة، و-الحوار- خدعة!
-
حوار مجلة رواق الشباب
-
طور ثان من أطوار الأزمة الوطنية السورية؟
-
بصدد بعض خصائص الانتفاضة السورية
-
مكونان مدني وأهلي في الانتفاضة السورية
-
ثلاثة أشهر على الانتفاضة... أية آفاق؟
-
ما هي نقطة التحول السياسي في سورية اليوم؟
-
حوار في الشأن السوري...
-
في شأن الانتفاضة السورية وسياستها
-
المسألة السورية والمستقبل
-
المحنة السورية التي طال أمدها...
-
في نقد السؤال عن البديل في سورية
-
ثورة ضد الإقطاعيين الجدد
-
العودة إلى الوراء ممتنعة، التقدم إلى الأمام صعب، لكن لا بد م
...
-
في بعض أصول الأزمة الوطنية السورية الراهنة
-
الديمقراطية أو البريرية؟ لا بديل آخر
-
حوار: اللي يجرب المجرب...!
-
سجين دمشق
-
الانتفاضة الشعبية وإعادة بناء النظام السياسي في سورية
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|