|
خيانة العقل .. خيانة النص
أنس زاهد
الحوار المتمدن-العدد: 3423 - 2011 / 7 / 11 - 09:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الذين لا يعوّلون على العقل كثيرا في قراءة النصوص المقدسة ، يتجاهلون حقيقة أن اللغة منجز عقلي . كل مفردة لغوية تحتوي على دلالة أو دلالات عقلية محددة ومتعارف عليها مسبقا بين أبناء اللغة الواحدة . وحتى في حال وجود بعض المفردات التي لا تحظى دلالاتها بإجماع كلي من قبل المشتغلين بالنشاطين اللغوي والفكري ، يظل العقل هو المرجعية الوحيدة التي يلجأ إليها المتجادلون في إقرار الدلالات التي يرون أن المفردة ترمي إليها . النشاط اللغوي في معظمه نشاط واع يحتكم إلى العقل ويرتهن إلى أدواته ، صحيح أن للّغة آفاق مفتوحة على الشعور والوجدان ، إلا أن اللغة تبقى في النهاية منجزا عقليا وأداة من أدوات النشاط العقلي . حتى كتب الشعر والتصوف والتأملات الروحية لا تستطيع أن تصل إلى وجدانك أو روحك قبل أن تمر على عقلك ، وهو ما يجعلنا نقول بأن الكتابات التي حاولت التعاطي مع الروح أو الوجدان لم تتخط حدود التنبيه إلى وجود شئ ما اسمه الشعور وشئ آخر اسمه الوجدان وشئ ثالث اسمه الروح ، وهكذا.
إن اللغة ليست قادرة على مخاطبة الروح أو الوجدان بشكل مباشر ومستقل عن سلطة العقل ، فأقصى ما تستطيعه اللغة هو أن تحيل المشاعر والتأملات الروحية إلى أفكار قد تؤثر في وجدان القارئ وشعوره ولكن بعد أن يستقبلها العقل ويتفحصها ويقلّبها ، ثم يحيلها إلى الشعور الذي يتفاعل معها ويتأثر بها باعتبارها فكرة قابلة للإدراك والفهم قبل أي شيئ آخر . من هنا أستطيع أن أقول بكل راحة ضمير ، بأن اللغة لم تقتحم عالم الشعور أو الوجدان بقدر ما سعت إلى تأسيس وعي عام بهما . وحتى عندما يسعى نص ما إلى التقليل من شأن العقل والتشكيك في مرجعيته ، فانه يخاطب العقل محاولا إقناعه بوجهة النظر هذه .. أي أنه يعمل على انتزاع اعتراف من العقل ن بمحدودية العقل وضعفه وقصوره لحساب عناصر أخرى كالغريزة أو الشعور أو الروح .
إن كل الكتابات التي حاولت النيل من العقل كانت ذات منطلقات عقلية ، وهذه هي المفارقة العجيبة التي أجد أنها تؤكد على أولوية العقل وليس العكس . أنظر هنا إلى الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو وهو يستخدم أشد الأساليب حدة في مهاجمة العقل :(( إن العقل ليس المرجع النهائي في الحكم على الأمور . هناك نتائج نظرية تتنافى مع كياننا ، ولا حق لنا بكبت مطالب طبيعتنا هذه انصياعا لأوامر المنطق الذي هو بعد كل شئ ليس سوى البناء الحديث لجزء ضعيف متقلب خداع منا )) . هذه العبارة لا يمكن التعامل معها إلا من خلال العقل ، لأنها تسوق فكرة ونتائج توصل إليها روسو عن طريق العقل نفسه . صحيح أن هذه العبارة أو الفكرة تهدف إلى تقويض سلطان العقل والى التشكيك في مرجعيته ، لكنها استخدمت وسائله وتوجهت إليه مباشرة في محاولة عجيبة لاستخدام العقل بغرض التشكيك في العقل !
كيف استدل روسو على أن العقل كائن حديث البناء ، وكيف استنتج أنه ضعيف متقلب خدّاع ؟ ألم يتوصل روسو إلى هذه النتائج عن طريق التفكير ؟ ألم يقده العقل نفسه إلى هذه الاستنتاجات ؟ ثم كيف لاحظ روسو أن العقل يصطدم أحيانا مع مشاعرنا ؟ هل الوجدان أو الشعور أو الغريزة أو الروح ، هي المسئولة عن هذه الفكرة الناتجة عن الملاحظة الطويلة والمراقبة الدءوبة والتأمل الدقيق والتحليل العميق ؟ إن روسو يستخدم الأفكار لهدم سلطان العقل ، وهذا شئ عجيب بالمرة ، لكنه أيضا وبشكل من الأشكال ، منطقي جدا .
فاللغة أداة من أدوات التفكير ولذلك فإنها لا تستطيع أن تخاطب بشكل مباشر، سوى العقل . وإذا ما حاولت اللغة أن تقلل من شأن العقل ، فإنها لا تفعل أكثر من محاولة تنبيه العقل إلى وجود عناصر أخرى يستطيع الإنسان تحصيل المعرفة بواسطتها . يجب في البداية أن يسلم العقل بذلك ، وهذا يعني أن النص المكتوب إذا ما فشل في إقناع العقل بفكرة محدودية العقل ، فانه سيفشل في منح الروح أو الشعور أو البصيرة أو الحدس أو الغريزة ، الثقة المطلوبة باعتبارهم أدوات معرفية مساوية للعقل أو متفوقة عليه ! وهو ما يذكرني بشطر بيت المتنبي الشهير (( فيك الخصام وأنت الخصم والحكم )) .
إنني لا أقلل من أهمية الغريزة أو الوجدان أو الحدس ولا أشكك في فاعليتهما وحيويتهما ، ولكني أنبه فقط إلى أن اللغة منجز عقلي ، وأن العقل هو المرجعية الوحيدة التي تستطيع أن تفصل في كل ما يتعلق بالنصوص المكتوبة ، إلا إذا استثنينا الشعر باعتباره يمنح المعايير الجمالية الأولوية . لكن ما هو دور العقل في إقرار المعايير الجمالية نفسها ؟ هذا سؤال سيقودنا إلى موضوع آخر لست بصدد الحديث عنه هنا .
ومرة أخرى أعود إلى موضوع روسو الذي أرى أنه لم يقع وحده في التناقض إذ حاول أن يقوض سلطان العقل من خلال وسائل عقلية وبناء فكري رصين . لقد وقع في هذا التناقض كل أصحاب المفاهيم التي أخذت على عاتقها التقليل من شأن العقل من خلال نصوصهم المكتوبة . كلمة مفهوم نفسها تشير إلى نشاط عقلي صرف ، فالمفاهيم بشقيها العقلاني وغير العقلاني ، هي إحدى أوجه وأشكال النشاط العقلي . المفهوم بطبيعته ليس سوى فكرة أو قناعة عقلية ما ، صحيح أن بعض المفاهيم أو الأفكار تحاول النيل من مكانة العقل ، ولكن بعد ترويض العقل وإعداده لتقبل منهج غير عقلاني في التفكير . على سبيل المثال فان جميع النصوص المقدسة عملت على ترسيخ مفهوم الغيب أو الغيبيات ، وهي مجموعة الأشياء أو الأفكار أو الظواهر التي تقع خارج نطاق سلطة العقل والتي لا يمكن للعقل أن يقدم إجابات حاسمة بشأنها . الغيب لا يقع بالتأكيد ضمن سلطة العقل ولا يحتكم إلى قوانينه ، لكن الغيب يبقى في حقيقته فكرة تولدت من فكرة أو فرضية سابقة تقول بمحدودية قدرة الإنسان إزاء القدرة الإلهية . وهذه فكرة تحتوي على جميع عناصر النشاط العقلي من ملاحظة وتحليل وربط واستنتاج . ولو راجعت آيات القرآن الكريم التي وردت في هذا السياق ، فانك ستجد بأن هذا المفهوم ورد ضمن سياق انطلق من الملاحظة أو المراقبة الحسية في المقام الأول : (( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت والى الأرض كيف سطحت )) _ الغاشية _ . (( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير )) _ الملك _ . أكثر من ذلك ، فان النصوص الدينية طرحت إجابات وتفاسير لأسئلة وقضايا وإشكالات أثارها العقل . وقد قلت في السطور السابقة أن ( الغيب ) نفسه مفهوم عقلي من حيث أنه يقدم إجابات لأسئلة مصدرها العقل . بالتأكيد نحن نؤمن بالنص القرآني ولا نعتقد بضرورة إخضاع كل ما ورد ضمنه بشأن الإقرار بفكرة وجود الله ، إلى الجدل . أما فيما عدا ذلك فان إيماننا يدفعنا إلى اعتماد العقل وسيلة وحيدة لقراءة النص ، باعتباره - أي العقل - صاحب الاختصاص الوحيد . من هنا فان الدعوة إلى إعادة قراءة النص المقدس اعتمادا على مرجعية العقل وحده ، أصبحت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى . فبين أيدينا نص احتكمنا في قراءته إلى نصوص أخرى من التفسير والحديث ، وجميعها نصوص تعاملنا معها على أساس أنها من المسلمات .. أي أننا نحّينا العقل جانبا في كل ما يتعلق بالنصوص التي أحلنا القرآن الكريم إليها . وهكذا فإننا أصبحنا لا نقرأ القرآن مباشرة وإنما نعمل على قراءته من خلال نصوص أخرى لا تنتمي إليه ولا تدخل ضمن سياقه ، هذا بالإضافة إلى أن هذه النصوص – رغم تعارض بعضها مع الخطوط العامة والمبدئ الرئيسية التي جاءت في القرآن - قد نالت صفة القداسة .. أي لم يعد من الممكن أو المقبول إخضاعها إلى مرجعية العقل . ما أقصد أن أقوله من خلال هذه الأسطر هو ضرورة إخضاع النصوص المقدسة لمقتضيات المنهج العلمي ، فليست هناك وسيلة يمكن أن نركن إليها عند قراءة نص ما ، سوى الاحتكام إلى العقل واعتماد أدوات المنهج العلمي . إن النص المقدس مثله مثل بقية النصوص من حيث أنه موجّه إلى العقل ومعنيّ بمخاطبته ، وأية محاولة للاحتكام إلى مرجعية أخرى سوى العقل في قراءة النص ، هي محاولة للالتفاف على مجموعة المفاهيم الواردة في سياق النص نفسه . خيانة العقل هي خيانة للنص نفسه .
#أنس_زاهد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بين التخوف من -الإسلام السياسي- و-العودة إلى حضن العروبة-
...
-
اليهود يغادرون.. حاخام بارز يدعو أوروبا إلى التصدي لتزايد مع
...
-
اقــــرأ: ثلاثية الفساد.. الإرهاب.. الطائفية
-
المسلمون متحدون أكثر مما نظن
-
فخري كريم يكتب: الديمقراطية لا تقبل التقسيم على قاعدة الطائف
...
-
ثبتها بأعلى إشارة .. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على ال
...
-
“ثلاث عصافير”.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025
...
-
مؤرخ يهودي: مؤسسو إسرائيل ضد الدين والإنجيليون يدعمونها أكثر
...
-
الشيخ علي الخطيب: لبنان لا يبنى على العداوات الطائفية +فيدي
...
-
اضبط الان تردد قناة طيور الجنة toyor al janah على الأقمار ال
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|