ياسر المندلاوي
الحوار المتمدن-العدد: 1019 - 2004 / 11 / 16 - 10:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ينشغل الناس بالإنتخابات المقبلة في العراق. وفي خضم هذا الإنشغال, تتمايز المواقف بين مؤيد ومعارض وثالث مرتاب.
والأصل في هذا التمايز, تباين المنطلقات السياسية في تقييم الأوضاع الراهنة, وإختلاف النظر الى جدوى الإنتخابات في
ظروف إنعدام الأمن والإستقرار. فالمؤيدون للإنتخابات يعتبرونها بداية الرحلة على طريق تحول العراق الى الديموقراطية,
وواحدة من أدوات معالجة الأوضاع المتأزمة. بينما المعارضون لها يجدون فيها تكريساً للإحتلال, وتمكيناً للقوى المؤيدة له,
ومحاولة ماكرة لإضفاء الشرعية على النتائج السياسية للإحتلال. في حين يذهب المرتابون الى التشكيك في مجمل العملية
الإنتخابية, وفي قدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة أو المضمرة للساعين إليها في ظل شروط, أقل ما يقال عنها, بأنها غير
مؤاتية لنجاح تجربة سياسية على هذا القدر من الأهمية لحاضر ومستقبل العراق. وأياً كانت المعطيات السياسية التي تدعم
القراءات المتباينة للإنتخابات القادمة, فإن الثابت والمؤكد, هو أن العراق مقبل على تحول سياسي هام, تفوق بأهميته ما
يظهر على السطح من آراء ومواقف متعارضة, تنطوي على قدر كبير من البراغماتية السياسية, وعلى القليل من المعرفة
بالمتغيرات السياسية والإقتصادية-الإجتماعية المستدعية للتحول في هذا الفاصل الزمني من تأريخ العراق. لذا, فإننا نتوقف
أمام التباينات السياسية حيال الإنتخابات في سياق تناول المتغيرات التي تتحكم بها, مثلما تتحكم بمجمل العملية السياسية
في العراق. وبداية, نؤكد بأن الإنتخابات المقبلة تعقب عقود طويلة من الإستبداد وطغيان الحكم الشمولي الذي أسس لآليات
تشكيل نظام الدولة وفق مواصفات أسوأ طرازات صنف الدولة. وقد كانت المتطلبات السياسية للقطبية الثنائية, تستوعب
وجود أنظمة على هذا القدر من العسف والإرهاب, لإعتبار أساسي مفاده, أن إشتداد القمع الداخلي كان يقابله إشتداد التبعية
السياسية والإقتصادية للخارج. ولم يكن مطلب دمج إقتصاديات الدول التابعة في الإقتصاد الرأسمالي العالمي, مطلباً ملحاً أو
ممكناً مع وجود فسحة المناورة بين القطبين, فتم الإكتفاء لهذا السبب بعلاقة التبعية التي ما كانت لتدوم بدون القمع ثم المزيد
من القمع الداخلي لوأد أية مطالبة شعبية بتحقيق تنمية إقتصادية وإجتماعية متعارضة مع علاقة التبعية تلك, والتي كان شرط
إستمرارها هو شرط إستمرار سيطرة الفئات الإجتماعية المحلية ذات المصلحة في علاقة التبعية, على السلطة السياسية. ولكن
الأمر تغير جوهرياً مع إنتقال العالم الى القطبية الأحادية وإنطلاق سياسة العولمة التي تعني ضمن ما تعني, التحول من الإكتفاء
بعلاقة تبعية الأطراف الى سياسة دمج الأطراف في الإقتصاد الرأسمالي العالمي, وفق مباديء الليبرالية الجديدة التي تقضي
بإلغاء الحدود الوطنية أمام نشاطات الرأسمال الدولي, والأكثر من هذا, تقضي بإختزال وظائف الدولة الوطنية الى وظائف
إدارية في خدمة الشركات المتعددة الجنسيات. ومن هنا, يمكننا الجزم بأن الإندفاعة الأمريكية لإحتلال العراق, كانت في
الأساس بدوافع ذاتية رأسمالية, وإن إدعت الإدارة الأمريكية خلاف ذلك.
إن المشروع الأمريكي في العراق يتمحور حول جعل العراق منطلقاً لدمج إقتصاديات المنطقة في الإقتصاد الرأسمالي
العالمي. وبالتالي, فإن المشروع الأمريكي في العراق وفي المنطقة عموماً, يعكس الرغبة الأمريكية في تحقيق عملية
الدمج وفق آليات مناسبة تتعارض جزئياً أو كلياً مع إستمرار طرازات الحكم السائدة في المنطقة. وهذا يفسر لنا الى حد
بعيد, المعارضة الشديدة للمشروع الأمريكي في العراق على المستوى الرسمي, ولا سيما في دول الجوار, التي باتت مقتنعة
تماماً, بأن النجاح الأمريكي في العراق يعني بداية لتغيرات مرتقبة لا ترغبها حكومات هذه الدول, أو على الأقل لا تريد لها
أن تتحقق بالكيفية والسرعة التي تبتغيها الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن ليتمايز الموقف الشعبي (في العراق وفي
وفي المنطقة) كثيراً عن الموقف الرسمي من المشروع الأمريكي, رغم التوافقات الظاهرة بين الرغبة الشعبية في التحرر
من الأنظمة الإستبدادية المقيتة, ودعوات الإدارة الأمريكية الى الحرية والديموقراطية في (الشرق الأوسط الكبير). ويبدو
أن الإدارة الأمريكية إستلهمت بعض ملامح مشروعها السياسي في المنطقة من هذه التوافقات الظاهرة, وتوهمت القدرة
على تنفيذه بيسر بالغ إعتماداً على القوة العسكرية في صيغة إحتلال مباشر للعراق, ولكنها إصطدمت في الحال, بالمعارضة
الشعبية الواسعة للمشروع الأمريكي في العراق, وأدركت من فورها, أن لا خيار أمامها سوى الإذعان الجزئي للمطالب
الوطنية للقوى السياسية والإجتماعية العراقية الراغبة في إنهاء الإحتلال, والتحول الى السيادة الفعلية. فإنبرت لترتيب
البيت العراقي بالطريقة التي تؤمن متطلبات الإنتقال الى السيادة الوطنية من جهة, وتحقق أقصى قدر ممكن من متطلبات
المشروع الأمريكي من جهة أخرى. وقد إتخذت الإدارة الأمريكية من قيام سلطة عراقية موالية لها, وسيلة لتحقيق هذا
الهدف, فحرصت لهذا الغرض على أن تكون الآليات الإنتخابية منسجمة مع طموحها في التوصل الى نظام للحكم على حسب
مواصفات الرغبة الأمريكية. ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تعول في إنجاز هذا الأمر, على معطيات واقعية أفرزها
الإحتلال الأمريكي للعراق, أو كرس وجودها في حال كانت موجودة في المرحلة السابقة للإحتلال. ومنها إنهيار الكيانية
الوطنية لصالح الكيانية المحلية من طائفية وإثنية وعشائرية. وبالتالي فإن السياسة الأمريكية في هذا الخصوص تقوم
على خلق التوازنات الهشة بين الكيانات المحلية الضعيفة ومن ثم بناء المؤسسات السياسية بإعتماد المساومات بين
"أمراء الطوائف" على قاعدة المحاصصة السيئة الصيت. ويظهر أن الهدف الأساسي من جعل العراق قائمة إنتخابية
واحدة, هو لضمان إستمرارية مبدأ المحاصصة بذريعة التوصل الى أوسع تمثيل للفسيفساء العراقي في البرلمان المرتقب,
وإلا كان بالإمكان ضمان التمثيل الواسع بطرق أخرى أقل ضرراً على وحدة النسيج الوطني العراقي, بدلاً من إعتماد آليات
إنتخابية تأبد الإنقسمات المحلية. وتواصلاً مع ما سبق, يمكنني الإدعاء بأن القائمين على أمر العراق, لا يسعون الى
قيام دولة " الطوائف" فحسب, بل ويجهدون لتأطير الحياة السياسية والحزبية في العراق وفق محددات طائفية وإثنية
وعشائرية, لم تنجو من تأثيراتها معظم أحزاب سلطة المحاصصة الطائفية والإثنية, بمن فيهم الأحزاب العلمانية
(اليمينية واليسارية) التي باتت, كما غيرها من الأحزاب الطائفية والعشائرية, تستهويها اللعبة الأمريكية ما دامت تحقق
لها مكاسب سياسية وحزبية. ولعل الخطورة في هذا الأمر, هي أن تدمن هذه الأحزاب, اللعبة الأمريكية, وتنتقل في بنائها
التنظيمي وفي آيديولوجيتها السياسية, من مواقع التمثيل الوطني الى فخ التمثيل الطائفي والإثني والعشائري.
إن قراءة مواقف القوى المختلفة من الإنتخابات القادمة, لا يمكن لها أن تستقيم بدون الأخذ بنظر الإعتبار جملة
العوامل السابقة وتفاعلاتها الراهنة والمستقبلية, وعلاقتها بالأهداف الأمريكية البعيدة منها قبل القريبة. إذ أن تباين
المواقف حيال الإنتخابات البرلمانية, يعود في جزء أساسي منه الى تباين مواقف الأطراف العراقية من الأهداف الأمريكية
وإختلاف القراءات للمكن ولغير الممكن في هذه اللحظات الحاسمة من تأريخ العراق. وعليه, فأن المؤيدين للإنتخابات
البرلمانية يتحمسون لها من منطلقات مختلفة, رغم الإيحاءات الكاذبة بوحدة المواقف والأهداف. إذ أن البعض منهم, ليس
بأكثر من أداة محلية لتنفيذ المشروع الأمريكي في العراق, ويجد هذا البعض ضالته في الإنتخابات البرلمانية لتكريس
النتائج السياسية والإقتصادية-الإجتماعية للإحتلال. بينما البعض الآخر, يتأمل تحقيق مشروعية سياسية وطنية, تعينه
على الإنتقال من السيادة الناقصة الى السيادة الكاملة, والتعايش مرحلياً مع بعض مفردات المشروع الأمريكي, بإعتباره
الممكن الوحيد الذي لا إمكان غيره, أو بإعتباره أفضل الممكنات, على أن يتسنى لهذا البعض في مراحل لاحقة, تحقيق
مشاريعه الخاصة والمتعارضة مع المشروع الأمريكي, وذلك بإعتماد الوسائل السياسية ومنها الإنتخابات البرلمانية.
أما المعارضون للإنتخابات, فإنهم ورغم إختلاف مشاربهم, يتوحدون في الموقف والهدف, حيث أنهم يجدون في الإنتخابات
إحدى معابر المشروع الأمريكي الى التحقق, وبما أنهم يعارضون هذا المشروع جملة وتفصيلاً, وينكرون فكرة التعايش
المرحلي أو الدائمي معه, فأنهم لا يجدون سبيلاً لدرء مخاطره إلا برفض الإنتخابات والتحرر من نتائجها المرتقبة. في حين
يتوسط المرتابون الموقف, فهم مبدئياً مع الإنتخابات, إلا أنهم لا يحسبون إجراءها في الظروف الراهنة ووفق الآليات
المقترحة, وسيلة مناسبة لنفي المشروع الأمريكي نفياً تاماً, ولا يعدونها سبيلاً لإنجاز السيادة الحقيقية.
#ياسر_المندلاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟